بعد صولات وجولات مع المسارح و"السكاتشات" والمسلسلات والأدوار التلفزية العديدة والمختلفة التي تشترك في شعار واحد وهو الضحك والنقد الساخر، شاءت الأقدار أن يغيّب الموت صباح أمس الكوميدي التونسي نصرالدين بن مختار عن سن يناهز 54 من العمر. وذلك إثر إصابته بجلطة دماغية نهاية الأسبوع المنقضي ألزمته الإقامة بأحد المستشفيات بالعاصمة. وهي الجلطة الثانية التي تعرض لها الراحل في ظرف ثلاثة أشهر والثالثة في ظرف سنة. ولكن وهن جسده، الذي أرهقته أمراض مزمنة، لم يقو هذه المرة على المقاومة والصمود أمام الأزمات الصحية المتكررة. وسيشيع اليوم إلى مقبرة بن يدر ببن عروس. علما أن للراحل مسيرة زاخرة بالأعمال الفنية والكوميدية النوعية والمتميزة كان فيها فنانا وبارعا في صنع الابتسامة على شفاه كل من يسمعه أو يشاهده سواء في المشاهد التلفزية أو في المسرحيات التي قدمها بمفرده أو شارك فيها. وما يحسب للراحل أنه نجح في تخطي عديد الصعوبات التي عانى منها في بداية مسيرته المتعلقة أساسا بالفرص النادرة للعمل في ظل غياب الشهرة. وذلك من خلال اختيار التقليد والسكاتشات بما تتضمنه من أغاني ومواقف ساخرة ونقدية مضحكة التي كان يصدرها في أشرطة كاسات. وهي الطريقة التي مهدت له طريق الشهرة داخل الجمهورية إلى درجة أن اسمه اقترن لدى البعض بالضحك والنقد الهادف والتصوير الساخر للمواقف والاشخاص. جرأة واستحسان وتميز الراحل بقدرته على التعاطي مع الواقع، والمستجدات السياسية والرياضية والاجتماعية، كوميديا إلى درجة أن بعض الشخصيات والأحداث التي وظفها في فكاهته حظيت بشهرة كبيرة الأمر الذي استحسنه بعضهم وجعلهم يتقبلون نقده وسخريته وجرأته وتوظيفه لأسمائهم فضلا عن تقليد أصواتهم بكل رحابة صدر على غرار كل من أحمد ومختار التليلي ولطفي البحري وفاطمة بوساحة وغيرهم من نجوم الرياضة والفنون في تونس. ولكن تلك الجرأة في النقد والتصوير الساخر لم تجلب للراحل سوى الحب والاستحسان من قبل الجمهور سواء في المناسبات التي يلاقيه فيها في عروضه المسرحية أو أثناء مشاركته في تنشيط بعض الحفلات والعروض الفنية في تونس أو في الخارج. وقد برع الراحل في السنوات الأخيرة في عروضه التي ظلت مطلوبة ومرغوب في مشاهدتها على غرار"حي الأكابر" الذي كان عرضا كوميديا حيا ومفتوحا للتعديل والتحيين حسب مستجدات الواقع والإطار الذي يجري فيه العرض. كما هو الشأن بالنسبة للعرض الذي قدمه بداية السنة الماضية تحت عنوان "بطيخ الثورة". ويشاركه فيه ثلة من الممثلين نظرا لتعكر حالته الصحية وعدم قدرته على تقديم عرض لمدة اكثر من ساعة بمفرده. ويقدم في هذا العمل الذي يقطر كوميديا ساخرة واقع تونس بعد الثورة بما يتضمنه من مشاهد نقدية فيها من الهزل والجد ما يجعل العمل يرتقي إلى مستوى العمل الكوميدي بتلويناته الثقافية والسياسية والاجتماعية والحزبية. إلا أن الأزمات الصحية لم تمهل فقيد الساحة الفنية حتى يكمل مشاريعه الجديدة منها أو المعطلة مع قنوات تلفزية أو في الساحة الفنية ليغادر الحياة بما فيها من كوميديا ودراما وعلى محياه ابتسامة. ألم يصنع الفرحة فتجربة فقيد الكوميديا في تونس ثرية متنوعة ومتجددة على النحو الذي يعتمده الراحل في كل مناسبة وذلك باستحضار أعماله القديمة وتقديما في "لبوس جديد" يتماشى مع السياق الذي يقدمه فيه. ولئن تجسدت أغلب أعماله في مواقف ومداخلات في برامج تلفزية وإذاعية أو في تنشيط العروض والسهرات، فإنها تبقى خالدة في أذهان محبي الأجواء المرحة والضحك والترفيه والكوميديا إلى درجة أن بعض الوجوه الكوميدية الجديدة أصبحت تقلده وتنحو منحاه في التخصص في هذا المجال. ولعل ما قدمه في المنوعات التي قدمتها التلفزة الوطنية كل يوم أحد على امتداد سنوات أو في قناة حنبعل خاصة في برنامج "بالمكشوف" وغيره من إطلالاته، كلها تعد من الأعمال المتميزة للراحل التي كانت تكلفه معاناة مضاعفة من الألم والأشجان باعتبار أنه يعاني من أمراض مزمنة تتطلب منه الراحة التامة وعدم إجهاد الجسد والفكر والنفس. فكان ألمه بمثابة غذاء لروح الجماهير التي تبتهج بإطلالاته. ولكن للقدر مشيئته. فلتبقى روحه المرحة مرفرفة على شفاه محبيه وتغمده الله برحمته الواسعة.