- القاهرة -"الصباح" - من مبعوثنا - سفيان رجب - على غير العادة، خلت شوارع القاهرة هذه الأيام من رجال الامن الذين تخلّوا عن مواقعهم حتى الأشّد حساسية منها على غرار محيط قصر الاتحادية الرئاسي وميدان التحرير الذي مازال يشهد تحركات يومية والذي تحوّل فجأة من رمز للثورة المصرية وملتقى للنخبة السياسية والفكرية والاحزاب والقوى الثورية الى رمز للخطر والسرقة والنشل والتحرش والاعتداءات الجنسية... غياب الأمن لم يعوضه الانتشار الجزئي للعسكر في بعض المواقع، فحتى من انتشروا في محيط القصر الرئاسي اضطروا للاحتماء داخله بعد الاعتداء عليهم بالحجارة والزجاجات الحارقة من قبل المتظاهرين يوميا أمامه.. غضب الشعب المصري واحتجاجاته تحولت من الشعب وبعض الاحزاب ومكونات المجتمع المدني الى جهاز الامن الذي انخرطت عناصره في تحركات احتجاجية وتظاهرات بلغت ذروتها برفض تأمين موكب الرئيس المصري محمد مرسي أو حراسة منزله في منطقة التجمع الخامس بمدينة نصر. كما توسعت دائرة المحتجين في صفوف رجال الشرطة، لتصل الى جميع محافظات مصر ال27، وفيما طالب الضباط المحتجون بإقالة وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم، رفع آخرون في أقسام الشرطة شعارات «لا لأخونة وزارة الداخلية» مطالبين في الوقت نفسه بإمدادهم بالأسلحة دفاعا عن أنفسهم. اعتزال الشرطة وترنحّ الدولة اشكالية الانسحاب الامني والاعتداء على القصر الرئاسي ورفض تأمين مسؤولي الدولة، مثّلت ضربة موجعة للدولة المصرية واعتبرت بمثابة بداية انهيار الدولة التي تترنح حاليا في ظل سقوط دعائمها ومقوماتها تدريجيا. ولم يعد تذبذب السياسة الامنية وغياب رجال الامن عن مواقعهم وعن الاماكن الاشد خطرا حديث العامة فقط بل امتد إلى النخبة التي أصبحت تتحدث عن «اعتزال» الشرطة وبداية «انهيار» الدولة. هذا التصور المخيف نفاه الضابط ياسر رجوب مسؤول مديرية أمن مصر الجديدة ل»الصباح» الذي ذكر أن جهاز الامن بمختلف مكوناته كان ومازال جهازا وطنيا ملكا للشعب، ويعمل من أجل سلامة وأمن المواطن المصري وضيوف مصر وليس لمصلحة أي طرف أو جهة سياسية. وأضاف ياسر رجوب أن هذا الراي لا يختلف فيه اثنان من الامنيين، من وزير الداخلية الى اقل الاعوان رتبة. وقال ان وزير الداخلية شدد في كل الاجتماعات الامنية وفي اجتماعات مجلس الوزراء على ان انهيار الشرطة يعني مباشرة انهيار الدولة وان تخلي الامن سيحّول البلاد الى دولة ميليشيات. ودعا في كل مرة كافة القوى السياسية بأن تنأى بجهاز الداخلية عن الصراعات السياسية التي تشهدها البلاد. هذا الخطر المحدق بالدولة لم ينفه حتى المستشار أحمد مكى وزير العدل المصري الذي أكد في تصريحات صحفية أمس «إن ما يشهده الشارع المصري من أعمال شغب وعنف، وليد الجهل ووصف انسحاب أفراد الشرطة من مقرات عملهم وإضرابهم عن العمل بأنه انهيار للدولة، وفتح مساحة لأعمال العنف والبلطجة». ويذكر انه ومنذ 25 جانفي الماضي تاريخ الذكرى الثانية للثورة المصرية وحتى اليوم ، شهدت مصر اصابة 394 ضابطا وعونا ومجندا، من بينهم من فقد عينيه ومن تلقى طلقات نارية بأنحاء متفرقة بالجسم. هذه الارقام واحداث بورسعيد والاسكندرية الاخيرة التي شهدت سقوط أعداد كبيرة بين أفراد الشرطة بسبب فقدانهم لوسائل الدفاع عن انفسهم ومحاولة وزارة الداخلية التقليل اعلاميا من عدد المصابين، زادت من غضب الامنيين وعمقت من احتجاجاتهم. غضب جهاز الامن المصري غذته كذلك إدانة ضباط شرطة في ما سمي ب»مجزرة بورسعيد» منهم المدير السابق لأمن بورسعيد الذي حكم عليه بالسجن 15 عاما.. واعتبرت تلك الادانات عملا سياسيا، لإرضاء الآلتراس، والجماهير الرياضية، ولكنه زاد من حالات التمرد في صفوف الشرطة. الميليشيات و"البلاك بلوك" في ظل هذا الغياب الامني وما اعتبر انهيارا لجهاز الشرطة ظهرت في الشوارع المصرية مليشيات مختلفة ومتنوعة على شاكلة جماهير الكرة حيث تسمى انفسها ب»الآلتراس» و»السوبراس»... وتضم هذه الميليشيات عناصر خطرة بينها من هم محترفون في صناعة القنابل التقليدية واستخدام الأسلحة النارية وحتى القنص الذي استهدف أعين الضباط، وهو تطور خطير لم تتحرك وزارة الداخلية المصرية لصدّه وتركت أعوانها يواجهون هذه الجماعات بصدور عارية ودون أسلحة رادعة. كما ظهرت مجموعة أطلقت على نفسها اسم «البلاك بلوك» (الكتلة السوداء) شكلت خطرا كبيرا على الامن المصري، وهي مجموعة من المتظاهرين يضعون اقنعة تخفي وجوههم او يرتدون الاسود بالكامل ويرفعون شعار «اذا انعدم العدل فانتظر الفوضى». وتؤكد هذه المجموعة معارضتها لحكم الاسلاميين لمصر ولا تخفي عملها الفوضوي للإطاحة به. هذه المجموعات الفوضوية المختلفة من ميليشيات ومخربين ومجرمين و»بلاك بلوك» والتي عجزت السلطة عن ردعها، جعلت «الجماعات الاسلامية» تحاول تشكيل لجان شعبية مسلحة تعوض الشرطة ومهامها مدعية انها تحاول التواجد حتى لا ينهار الامن حال انهيار الشرطة وحتى لا تدخل البلاد في دوامة من الفوضى رغم ما عرف عن هذه اللجان من ممارسة للعنف وحتى القتل في التسعينات. وطالبت «الجماعات الاسلامية» وعلى رأسها حزب «الحرية والعدالة»، الجناح السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين»، بتسليح وتدريب أفراد «اللجان الشعبية» ومنحهم سلطة الضبطية القضائية أي انهم يتجولون في الشوارع ويمسكون كل من يعتبرونه «مخلا بالقانون» من وجهة نظرهم الخاصة والضيقة طبعا ويتصرفون معهم كأمنيين ويحملونهم الى مراكز الشرطة. وزير الداخلية مستعد للاستقالة هذا الوضع وعدم التحكم في امن البلاد واقعيا وبشريا وهيكليا، جعل بعض القوى السياسية والثورية تطالب باستقالة وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم ونفس الشيء طالب به ضباط الشرطة الذين احتجوا كذلك على الزج بهم في العمل السياسي، وتحميلهم أخطاء النظام القائم، ومحاولة إجبارهم على الصدام مع الجماهير. وذكر أمين الشرطة في محافظة مصر الجديدة شريف راضي ل «الصباح» أن «الامن جمهوري وهو ملك الشعب وان اعتصام الامنيين هو نتيجة لرفضهم أن يكونوا في يد أي كان وورقة تستخدم في الصراعات السياسية.» وأضاف: «يريدون أن نحمي نظاما لا تقبله الجماهير، وأن نكون وسط التجاذبات اما أن نقتل ابناء هذا الشعب أو أن نقتل على أيدي البلطجية المندسين في صفوف المتظاهرين.. لقد مللنا لعبة الموت لأجل أنظمة مرفوضة من الشعب». جملة هذه المطالب لم يتجاهلها وزير الداخلية الذي عبر عن استعداده للاستجابة لطلبات الاستقالة مؤكدا انه يحافظ على حقيبته اليوم لا لشيء الا للحفاظ على جهاز الشرطة وليس طمعا في الوزارة او المنصب، مؤكدا انه اذا كانت الاستقالة ستريح الشعب المصري، فهو على استعداد لتقديمها فورا ومغادرة الوزارة.