بعد ثمانية أشهر من «الجهاد المقدّس» في سوريا، عاد «أبو زيد الصفاقسي» ليطل علينا عبر الفضائيات ويحدّثنا بلهجة شرقية عن تجربة قتالية مثيرة يقول أنه مر بها في بلاد الشام في صفوف جبهة النصرة ضد «نظام بشار الكافر» وجنوده، على حد تعبيره... نهاية المغامرة انتهت حسب أبو زيد، وهو الشاب والمنشد الأنيق، عندما اعترضت سبيله مجموعة مجهولة في سوريا سلبته ما حصل عليه من «غنيمة»: مال ومفاتيح البيت والسيارة، ولكن لحسن حظه، لم يشاؤوا التعرض له بسوء فمنحوه بطاقة سفر ودفعوه للعودة الى أهله سالما... لن نتوقف طويلا عند تفاصيل حكاية هذا الشاب التي تابعها الكثير من التونسيين، ولاشك أن لكل إمكانية قراءة ما بين السطور واستخلاص ما يمكن استخلاصه إزاء واحدة من المسائل الحارقة التي باتت تؤرّق العائلات التونسية مع تواتر الاخبار عن آلاف الشبان التونسيين الذين وجدوا طريقهم، بشكل أو بآخر، في قلب الحرب الدائرة في سوريا، تماما كما أنه بإمكان أي كان في زمن الحرية المطلقة أن يطل علينا عبر الفضائيات الإعلامية ويروي ما شاء من ضروب الحقيقة والخيال أو الاثنين معا عما يحيط بنا من أحداث ارتبطت بتداعيات الربيع العربي وانهيار المنظومة الأمنية وسقوط الحواجز، وما أحدثته من ارتجاج في المشهد السياسي والأمني وحتى الاجتماعي مع إصابة أكثر من عائلة في فلذات أكبادها من الشباب والمراهقين المتوجّهين الى سوريا بحثا عن «الشهادة « عبر الأراضي الليبية كما عبر الاراضي التركية التي يسهل الوصول اليها بسبب غياب الحاجة للتأشيرة بالنسبة للتونسيين على عكس الجزائرين ... سوريا اليوم وإن كانت بعيدة عنا جغرافيا، باتت موضوع الخاصة والعامة... كيف لا وقد كانت، وجامع الامويين الواقع في قلب أسواقها، دوما قبلة الزوار التونسيين ومقصدهم في مختلف المناسبات قبل أن تتحول الى مشروع للخراب والدمار والاقتتال اليومي في مشهد لم يعد يخلو من الغموض في خضم السيناريوهات القاتمة ومخططات التقسيم والتشتيت التي لم تعد خفية على مراقب... و لعل نقطة الوضوح الوحيدة التي لا مجال للتشكيك فيها ما كشفته الحرب الدائرة في سوريا من انتشار للنفاق سواء كان تحت غطاء ديني أو سياسي، في صفوف نظام الأسد كما في صفوف المعارضة أو المعارضات السورية. بل ان في جريمة اغتيال الشيخ البوطي امام وخطيب المسجد الاموي ورئيس هيئة علماء بلاد الشام وما أفرزه من تنافس بين هذا وذاك من تنديد بالجريمة وتسابق في اعلان الدعوات للتحقيق والانتقام للشيخ الذي استهدف مع حفيده ونحو أربعين من المصلين داخل المسجد، ما يعكس سوء نوايا الطرفين على حد سواء واستعداد كل منهما للمتاجرة بدماء السوريين واستنزافها حتى النهاية ولو كانت النتيجة خراب سوريا ودمارها. بشعة وحقيرة هي تلك الجريمة التي استهدفت الشيخ الذي تجاوز العقد الثامن وهي من الجرائم التي ستظل مرفوضة في كل الأديان وفي كافة الازمان ولا يمكن الا أن تعكس خسة من خطط لها ونفذها وموّلها. وبعيدا عن الوقوف في تأويل مواقف الشيخ من النظام السوري وما يحدث في بلاد الشام من استنزاف يومي للدم السوري، وبعيدا عن السقوط في محاكمة النوايا، فإنه لا بد من قولها صراحة أن لا أحد يملك حق محاكمته على مواقفه، إن كان مؤيدا أو معارضا للنظام السوري، أو على قناعاته الشخصية وآرائه، بمعنى أن لا شيء يمكن أن يبرّر تلك الجريمة بما في ذلك خروجه عن بقية علماء سوريا ومناصرته للجيش السوري... ولأن موسم النفاق بلغ أوجه في هذه المرحلة فلا يمكن ألا أن نتوقف عند تصريحات رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والمرشد الروحي للاخوان الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان أشار قبل فترة الى أن البوطي خالف علماء سوريا عامة ووقف مع النظام ضد شعبه عندما دعا لمناصرته، قبل أن يذهب الى حد التصريح في برنامج تلفزي بأن الذين «يعملون مع السلطة يجب قتالهم جميعا، عسكريين كانوا أم علماء «، ثم لا يجد حرجا بعد ذلك في وصف البوطي عقب مقتله بأنه «صديق» مشككا في الرواية الرسمية للنظام حول مقتله. صحيح أن الشيخ البوطي أثار الكثيرين بفتواه لمؤازرة الجيش السوري ودعوته الى النفير العام وتشبيهه الجيش السوري بالصحابة، بيد أن مقتله مع حفيده في المسجد شكل صدمة للكثيرين وأعاد الى الاذهان مسلسل الاغتيالات الدموية التي جعلت العراق وبعد عشر سنوات على الغزو الأمريكي، مسرحا للفتن والصراعات الطائفية التي تستنزف دماء وأرواح أبنائه في دور العبادة... في المساجد السنية والشيعية كما في الكنائس والمزارات والمعابد... كل ذلك فيما يتجه العراق الى التقسيم مع استفراد إقليم كردستان بالاستقرار والامن والاستثمارات بفضل عائدات النفط دون بقية العراق... جريمة اغتيال البوطي ستظل سرا دفينا وربما لن تكشف خفاياها يوما. ففي ظل التناقضات الخطيرة والاقتتال والغموض الحاصل في سوريا، وبعد أن بات الكل يقتل الكل والكل ينتقم من الكل بدعوى «الجهاد « أو الدفاع عن الوطن من القوى الظلامية والحركات المسلحة المتفرعة عن «القاعدة» بعد أن ضاقت بعناصرها أفغانستان والصومال، تبقى كل السيناريوهات قائمة في جريمة تصفية الشيخ البوطي. على أن الواقع اليوم أن المعطى الجديد في المسرح السوري والذي بات أكثر قبولا لدى شريحة لا يستهان بها من الرأي العام في دول الربيع العربي كما في جزء من سوريا أن ما حملته ثمار الربيع العربي من آمال في الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان حتى الان بدأت تتراجع لتحل محلها الشكوك والمخاوف من السقوط في فخ دكتاتورية جديدة ناشئة مع تنامي الفكر المتشدد وصعود «الإسلام السياسي «المنبثق عن أكثر من اسلام مختلف وليس عن اسلام واحد. والحقيقة التي وجب الاعتراف بها اليوم أن حجم التعاطف الذي رافق انتفاضة الشعب السوري ضد نظام الأسد والتأييد العربي والدولي الذي رافق حق الشعب السوري في المطالبة بالكرامة والحرية والعدالة وحق تقرير المصير، في أفول بل انه كلما تفاقم حجم الخراب والدمار وزادت أعداد اللاجئين والمشرّدين على الحدود وفي دول الجوار كلما تفاقمت المخاوف من المرحلة القادمة ومن هيمنة الحركات المسلحة على المشهد السوري وهي مخاوف من شأنها أن تفرض على المعارضة السورية الوطنية أن تتواضع وأن تنزل من عليائها وتعيد مراجعة حساباتها باتجاه البحث عما يجنب سوريا الأسوأ والانزلاق الى خطر التقسيم والتفكك... سوريا باتت ومنذ فترة على مفترق طرق بين خيارين فقط أحلاهما مرّ: فإما استمرار الوضع الراهن والقبول باستمرار النزيف البشري الحاصل، وإما الحوار طوعا أو كرها، علما أن التاريخ الحديث والقديم شاهد على لقاءات ومفاوضات بين الأعداء عندما تصل الأمور الى نقطة اللاعودة، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال لحرب الاستنزاف أن تستمر الى ما لا نهاية. وكما لا يمكن لنظام الأسد الذي تجاهل مطالب شعبه في الحرية والعدالة والديموقراطية في درجة أولى وفشل في درجة ثانية في حماية شعبه أن يخرج من الصراع منتصرا، فانه لا يمكن للمعارضة أيضا أن تستمدّ بقاءها الى ما لانهاية من الحرب بالوكالة الدائرة على أرض سوريا وأن تتجاهل معاناة السوريين المستهدفين اليوم في كل مكان ... وبعد أكثر من سنتين على الانتفاضة في سوريا فان النتيجة الوحيدة التي بدأت تتضح أن ثمن الحرية باهظ وأن من يقف في برج المراقبة على ربوة الاحداث لن تهزه تكاليف الحرب القائمة.. مقتل البوطي لن يوقف تسلل الشباب التونسي والليبي والمغربي والصومالي والبوسني والشيشاني الى سوريا بدعوى «الجهاد المقدس « قبل أن تفتح بؤرة أخرى تغيّر وجهته، فنحن في مرحلة لم يعد بإمكان كبار المحللين والخبراء استقراء معالمها المستقبلية وكأنه بات لزاما على الشعوب العربية المستضعفة أن يراوح قدرها بين الأنظمة الدكتاتورية الغارقة في الظلم والفساد أو الأنظمة الإسلامية التي منعها تشدّدها و تطرّفها على التخلص من عقدها والارتقاء الى طموحات شعوبها وبالتالي فهم ما يحدث في العالم من تطورات ومبادئ وقيم لم تعد تقبل باستعباد البشر أو تخليهم عن حلمهم في الحرية والديموقراطية ...