سنتان من الثورة.. لم يتحقق فيهما للشعب ما انتظره من نخبته السياسية، التي فوضها لإدارة شؤونه في انتخابات حرّة ونزيهة، فحكومة الثورة لم تستطع إلى اليوم الحدّ من استفحال ظاهرة البطالة، أو فك عزلة المناطق المحرومة، أو كبح جماح الأسعار المنفلتة وغلاء المعيشة، الذي أقضّ مضاجع ملايين التونسيين.. فحتى المليمات التي خفّضتها وزارة التجارة في بعض المواد الاستهلاكية لم تعِدْ التوازن المنشود الى جيب المواطن.. رغم ما رافق هذه العملية من حملة دعائية قادتها الحكومة هذه المرة، و"باقتدار تحسد عليه".. لكن كيف تسترجع الجيوب الخاوية "هيبتها" ب"دورو" لا يسمن أو يغني من جوع، فال"دورو" بالنسبة للتونسي بات عملة "صعبة" ومفقودة من جيبه ولا يكاد يشعر بوجودها، ناهيك وأنه عملة يجوز ل"العطار" و"الخضّار" و"الخبّاز" الاستيلاء عليه دون "إشعار" مسبق ودون وجه حق.. لكن مع ذلك بقيت هذه العملة، ترمز ل"الزوالي" ولضعاف الحل بينما لا ينتبه حتى لوجودها في جيوبهم الأغنياء وأصحاب النفوذ.. أوّل أمس تجمّع أمام قصر باردو عدد من المواطنين لرمي مقرّ المجلس بالقطع النقدية (أغلبها من فئة 5 مليمات) ولعل منظمو الوقفة أرادوا تحميل ال"دورو" رمزية التهميش والحرمان وأماني "الزواولة" التي راودتهم عند إنجاز ثورتهم، وسرقتها منهم الأحزاب والسياسة.. الوقفة كانت استجابة لدعوات نشطاء على المواقع الاجتماعية لتنظيم حملة رمي المجلس التأسيسي بالقطع النقدية، تعبيرا عن استيائهم من نواب الشعب (الذين نسوا "الدورو" و"الزواولة") بعد أن طالب معظمهم بتمرير مشروع قانون للزيادة في منحهم عبر قانون أساسي سيطرح قريبا .. صورة هذا التحرّك كانت "صادمة" ومستفزة للمشاعر، فنواب الشعب المحملين بأمانة تاريخية، والمفوضين من طرف الشعب التونسي لتحقيق أهداف ثورته، التي من أجلها سفكت دماء أبناءئهم، انتهى بنا الأمر الى معاملتهم بتلك الطريقة المهينة، والتي تحطّ من شأن السلطة الأصلية، وتبرزهم في شكل "كمشة" من الجشعين، المتكالبين على السلطة. فالمجلس التأسيسي الذي يمثل وتد خيمة الانتقال الديمقراطي، وقارب النجاة الذي نتشبّث به لتجاوز هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا بأخفّ الأضرار، فقد -وللأسف- هيبته ووقاره لدى الشعب.. والسبب في ذلك المجلس ذاته ونوابه، الذين انساقوا منذ البداية وراء المهاترات والاتهامات المتبادلة والتحزّب "المتطرّف"، إلى درجة بتنا نسمع من النواب وفي الجلسات العامة التي تنقل مباشرة للجماهير كلاما يندى له الجبين ويشيب له الولدان.. عكاظيات وعنتريات واستعراض لغويّ وحرب باردة بين مختلف الكتل، تنطلق من المجلس وتتواصل في البلاتوهات التلفزية، لنسمع اتهامات خطيرة على شاكلة أن نواب الشعب ذممهم معروضة للبيع ب"100 مليون.. وسعدك يا شاري".. أو تورّط بعضهم في علاقات مشبوهة مع النظام البائد أو بعض رجال الأعمال الفاسدين، هذا دون أن ننسى الصراخ والعويل والتشنج وشعارات "الشيطنة" المرفوعة من هنا وهناك.. "نخبة" لم ترتق بعدُ إلى مستوى ما أنجزه هذا الشعب عندما أطاح بالدكتاتور.. نخبة غوغائية صراخها أكثر من إنجازاتها.. ندعوها إلى أن تثوب إلى رشدها.. وتنضج سياسيا لأن التاريخ لم يصدر حكمه بعد.. وهو لهم بالمرصاد...