بقلم: الأستاذ محمد الحبيب الأسود* لقد أعلمنا الخبيرالعليم في كتابه الكريم، أنّ الأنبياء والرّسل عليهم السّلام كانوا يستغفرون لأقوامهم، ولا يبيحون دماءهم رغم ما اقترفوه من جرائم كفر عظم وأشد من ترك الصّلاة والصّيام والاختلاف في الرأي، (إن كان اختلاف الآراء في المسائل الدّينية جريمة)، فهذا إبراهيم الخليل عليه السّلام يقول في قومه مخاطبا ربّه (فمن تبعني فإنّه منّي ومنْ عصَاني فإنّك غفوررحيم) (إبراهيم:38)، والذين اتبعوا الهوى وتركوا الإيمان فقد خاطب الله نبيّه فيهم قائلا عزّ وجلّ (أرأيْتَ من اتّخذ إلهَهُ هَواهُ أفأنت تكونُ عليْه وكيلا) (الفرقان:43)، وهذا نبيّ الله عيسى عليه السلام، يقول في قومه وهم الذين أشركوا بالله وحرّفوا تعاليمه، وجعلوا لله ولدا ونسبا، وكانوا أشدّ كفرا ونفاقا وأعظم جرما (إن تعذبهم فإنّهُم عبادُك، وإن تغفرْ لهم فإنّك أنت العزيزالحكيم) (المائدة:120)، وتاج كلّ هذا والذي لا يحتمل أكثرمن تأويل واحد وفهم واحد، ولا يحتاج إلى تفسيرباطني ولا فلسفة، هوما جاء في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة (ولوْ شاءَ ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا، أفأنت تكرهُ النّاس حتّى يكونوا مؤمنين) (يونس:99)، فمن أين لمن يؤمن بهذا كله، أن يأتي بفلسفة الإرهاب، وتكفيرالناس، وحملهم بالإكراه والعنف على فهم للدّين، ليس فيه علم ولا منطق ولا هدى ولا كتاب منيرولا أصل شرعي؟..إنّ التشدّد والتطرّف غلو منبوذ بصريح قوله تعالى (يا أهْل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحقّ) (النّساء:170)، كما أنّه تفرّق في الدّين ليس من الله في شيء (إنّ الذين فرّقوا دينهُم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء). (الأنعام:160)... هكذا كانت النصوص واضحة وصريحة في تحديد الطابع السلمي لعلاقة المسلم بمختلف الأصناف من الناس، فمنعت الإرهاب واستعمال العنف عند الاختلاف مع الكافرإذا لم يكن في حالة حرب وقتال ضدّ المسلمين، ومع المنافق إذا أظهرالإسلام وأبطن الكفر وما لم يأت بجريرة يؤخذ بها على الخيانة والتآمر، وعلى السلطة الشرعيّة وحدها مقاضاته في ذلك، حيث لم يخوّل الله سبحان للأفراد سلطة العقاب على الجرائم، ومع المؤمنين حين تتعدّد أفهامهم وتختلف فيما جوّزالله تعدّد الأفهام فيه. ونأتي الآن للحديث عن مشروعيّة الخروج على حاكم المسلمين المسلم، وإعداد العدّة لإرهابه والعمل على سقوطه بالانقلاب والاغتيال والعمل المسلح، وعلى فرض أنّ هذا الحاكم كان جائرا فكيف يكون إصلاحه وإرجاعه إلى الحقّ؟ وهل لنا في أصول الإسلام ومواقف العلماء ما يفيد بجوازاعتماد القوّة والعنف لتغييرهيأة السلطة الحاكمة؟.. وفي هذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يشيرإلى ذلك الرجل الذي استفسره عن حال الأمّة إذا افترق الكتاب والسلطان، بأن يلزم جماعة المسلمين، وإن لم تكن لهم جماعة فليلزم كتاب الله وسنة رسوله ويعضّ عليهما بالنواجذ، ومعنى ملازمة جماعة المسلمين، هوالالتزام بما أجمع عليه الناس ويوافق كتاب الله وسنّة رسوله، ونُصْحهم بالانتهاء عمّا يخالف مبادئ الفضيلة والحقّ والعدل، ومعنى ملازمة كتاب الله وسنّة رسوله، هو مُناصحة أولي الأمر والرّجوع بهم عند الاختلاف إلى ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله، ولم يأمره ولم ينصحه برفع السلاح واعتماد القوّة وسفك الدماء لتغييرالحال... وأمّا الحديث الذي ورد في سنن أبي داود والترمذي في باب الفتن وذكره أحمد بن حنبل والدارمي، والذي جاء في متنه «كلاّ والله لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطرا، ولتقسرنّه عليه قسرا، أو ليضربّن الله قلوب بعضكم ببعض ويلعنكم كما لعنهم»؛ نّ تفسير بعضهم له على أنّه دعوة من الرّسول للوقوف بقوّة السلاح ضدّ الحاكم الجائر، لا يوافق ما ذهب إليه شرّاح الحديث من القول بأنّ الأطرهو الرّباط والعقد، والقسرهوالأخذ بالأسباب والوسائل التي تضمن ألا يفرّط مستبدّ أو أن يطغى على الأمّة، أي أنّ العلماء والنخبة من الشعب مطالبون بدعم المؤسّسات المدنيّة وتأسيس المجالس الشوريّة والتشريعية والهيآت الوطنية، وأخذ الحاكم بالنصح والمعارضة ومراجعته بالقانون، حتى لا يحيد عن الحقّ ولا يجور، فربّما ضاع الحقّ في القتال، واختلطت الأموربالفتنة، ولم يعد من السهل تمييزالخبيث من الطيّب والمخطئ من المصيب، إذا غاب الحوار والتحاجج وحضرت لغة القوة والسلاح وسفك الدماء... وعلى هذا فهم العلماء السابقون مبدأ معارضة الحاكم وكيفيّة نصحه، مع الحرص في الآن نفسه على تجنيب الأمّة الفتن وخراب العمران، فقد أورد المِؤرّخون في "مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان" وصيّة أوصى بها أبوحنيفة تلميذه أبا يوسف القاضي في ما يخصّ علاقته بالحاكم فقال له: «وقّرالسلطان وعظّم منزلته، وإيّاك والكذب بين يديه، ولا تدخل عليه في كلّ وقت وفي كلّ حال ما لم يدعك لحاجة علميّة، نك إن أكثرت الاختلاف إليه تهاون واستخفّ بك وصغرت منزلتك في عينيه... وإذا رأيت من سلطانك ما لا يوافق العلم، فاذكرذلك مع طاعتك إيّاه، فإنّ يده أقوى من يدك، تقول له: أنا مطيع لك في الذي أنت مسلطن فيه عليّ، غيرَ أنّي أذكرمن سيرتك ما لا يوافق العلم...»، وهي نصيحة عالم عاش جور واستبداد الدولتين الأموية والعباسيّة، وهوكذلك موقف نابع من الشعور بضرورة ترفّع العلماء عن السياسة، مع القيام بواجب النصح للحكام ومعارضة ما لا يوافق العلم في سيرتهم. ولم يمنع هذا أبا حنيفة من مباركة خروج زيد بن علي زين العابدين على الأمويّين أيام هشام بن عبد الملك، فشبّه خروجه بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم بيوم بدر، وآزره وساعده بالمال لاعتقاده في أن زيدا إمام حقّ، ولمَا ثبت لديه من استبداد الأمويين على آل البيت وتفشّي القتل في رقاب المسلمين، فهي مؤازرة سياسيّة من قبل عالم تراءى له الحقّ والصّواب إلى جانب الثوّار، ولم تكن وصاية على الدين ولا كهانة، لأنّه لم يصدر حكما بالكفر على هشام وحكما بالإسلام لزيد، فكلاهما مسلم، ولكنّ أحدهما جار على الآخر، وبعد فشل محاولة نصحه ومراجعته بالحقّ إلى الحقّ، وبعد أن عمل هشام السّيف في رقاب المسلمين بالباطل، رأى أبو حنيفة مشروعيّة الوقوف ضدّ الفئة الباغية القاتلة حتىّ تفيء إلى أمرالله، ورغم ذلك، ن إماما كالإمام مالك بن أنس التزم الصّمت تجاه الخلاف والقتال الحاصلين بين الأمويّين وآل البيت، ولعله أيّد في السرّ خروج زيد على الأمويّين، وخروج محمّد وأخيه إبراهيم على العباسيّين، وهنا لنا وقفة في التاريخ نستدلّ بها على رأي أهل السّنة في مشروعيّة الخروج على الحاكم المسلم الجائر... لمّا خرج محمد النفس الزكيّة بن عبد الله بن الحسن بن الحسن وأخوه إبراهيم الإمام على أبي جعفرالمنصور، الخليفة العباسي الثاني والمؤسّس الحقيقي لدولة بني العبّاس، كان الناس في مثل هذه الحالة يستفتون العلماء قبل أن يخرجوا، فكان أبو حنيفة يفتي لهم بجواز ذلك، لاعتقاده في وجوب الوقوف ضدّ الفئة الباغية القاتلة حتىّ تفيء إلى أمرالله، وأمّا الإمام مالك، فإنّه لم يخف تعاطفه مع آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يأمرولم ينه، وأمّا إمام الشّام وفقيهها عبد الرحمان الأوزاعي، فإنّه يرى أنّ مثل هذا الخروج حرام، وعلى ذلك كان يقول في من يجوّز ذلك، بأنّه يرى السّيف في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، أي يبيح قتال المسلمين بعضهم البعض... ولمّا أظهر المأمون مسألة خلق القرآن وأكره النّاس على القول بأنّ القرآن مخلوق وليس بقديم، وسارعلى دربه من بعده المعتصم والواثق، ظهرت حركة دينيّة وسياسيّة مناهضة للعباسيّين، ومؤيّدة لمذهب الإمام أحمد بن حنبل، الذي لتمسّكه برأيه في قدم القرآن سُجن وضرب في بلاط المعتصم ثمانية وثلاثين سوطا، وقد استنكرالعامّة على العباسيّين سياستهم هذه وتحاملهم على أهل الحديث بالقسوة والشدّة، وهاج الناس وماجوا، فاجتمع نفرمن الفقهاء وفكروا في الخروج على الخليفة، واقترحوا ذلك على الإمام أحمد بن حنبل وهوفي سجنه، فعارضهم ونصحهم «ألا يخلعوا يدًا من طاعة، وألاّ يحرّضوا على سفك دمائهم وسفك دماء المسلمين»...