لم تمرّ سوى أشهر معدودات على إطلاق الرّئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لمبادرته بخصوص إنشاء "اتّحاد المتوسّط" حتى تفاقمت الشّكوك حول جدوى وفاعليّة هذه المبادرة ليتعزّز بذلك جانب الذين اعتبروا هذا المشروع منذ الاعلان عنه "صدفة خاوية" (coquille vide) و"ضربا من الوهم" ويفتقد لمحتوى حقيقي بالمقارنة مع مسار برشلونة للشّراكة الاورومتوسّطية (1). وفي المقابل تراجعت آمال وتطلّعات المتحمّسين لهذا المشروع الذين اعتبروه ألقى حجرا في المياه الرّاكدة للشّراكة الاورومتوسّطية وكرّس إرادة نحت المصير المشترك بين شمال المتوسّط وجنوبه وبناء المستقبل الافضل لضفّتيه وأسّس لمرحلة جديدة تتجاوز الحلقة المفرغة لمسار برشلونة وهيّأ الشروط الملائمة للازدهار والاستقرار في المنطقة. (2) فما هو مدى صحّة الشكوك التي تحوم حول جدوى وفاعليّة "اتحاد المتوسّط"؟ وما هي آفاقه في ضوء ما يحفّ بهذا المشروع من مستجدّات وتطوّرات؟ وما هي فرص تجاوزه لمحدوديّة مسار برشلونة للشّراكة الاورومتوسّطية؟ تقتضي الاجابة على هذه الاسئلة المقارنة بين معالم المشروع وفق ما طرحه نيكولا ساركوزي من تصوّرات وأهداف وبين ملامحه ومقوّماته التي أقرّها قادة الدّول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي. كما تتطلّب الاجابة على هذه الاسئلة استشراف آفاق هذا المشروع في ضوء التصوّرات الجديدة لمضمونه وأهدافه. 1- المعالم الاوّلية لمشروع "اتّحاد المتوسّط" مثّل مشروع إنشاء "اتحاد المتوسّط" أحد محاور الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي في السّباق نحو الايليزي. وشكّل أحد مواضيع أوّل خطاب رسمي له غداة فوزه بمنصب الرّئاسة. كما كان محور ندواته الصحفية ولقاءاته مع قادة بلدان المنطقة المتوسّطية. واعتبر ساركوزي أنّ إنشاء "اتّحاد المتوسّط" يشكّل أولويّة مطلقة وقضيّة حيويّة يتوقّف عليها مصير المنطقة المتوسّطية وهو الذي سيكون محدّدا في معالجة قضايا التدهور البيئي والهجرة والامن والاستقرار والنموّ الاقتصادي وحوار الثقافات. من هذا المنطلق فإنّ "اتّحاد المتوسّط سيستلهم تجربة الاتحاد الاوروبي ومثلما بدأت المجموعة الاوروبية مسار توحّدها بالفحم والصّلب فإنّ اتحاد المتوسّط سينطلق بالتنمية المستديمة والطّاقة والنقل والمياه. لكن عكس أوروبا التي أعطت الاولويّة المطلقة للاقتصاد فإنّ اتّحاد المتوسّط سيضع ضمن أولوياته الثقافة والتربية والصحة ورأس المال البشري والعدل ومقاومة مظاهر عدم المساواة ويكون اتّحاد مشاريع بهدف جعل المتوسّط أكبر مخبر في العالم للتنمية المتضامنة تتقرّر فيه المسائل المتعلّقة بدفع التنمية وحرّية تنقّل الاشخاص والامن بصفة جماعية"(3). كما أنّ "اتّحاد المتوسّط" كما طرحه ساركوزي سيعمل بالتّعاون الوثيق مع الاتّحاد الاوروبي ليتمّ في مرحلة لاحقة إقامة مؤسسات مشتركة معه وليتمّ كذلك إنشاء مجلس للمتوسّط على غرار مجلس أوروبا. وكان ساركوزي دعا أثناء تقديمه لمشروع "اتحاد المتوسّط" كافّة قادة البلدان المتاخمة للبحر الابيض المتوسّط للاجتماع في فرنسا خلال شهر جوان 2008 لارساء دعائم هذا الاتحاد وذلك على أساس "مساواة تامّة". ويعني هذا الطّرح أنّ "اتحاد المتوسّط" كما سوّقه ساركوزي سيكون كيانا قائما بذاته يتجاوز إطار الشراكة الاورومتوسطية ويتوفّر على هيئاته وهياكله الخاصّة به. تلك هي معالم ومضامين وأهداف "اتحاد المتوسّط" كما طرحها وبلورها نيكولا ساركوزي والتي ولّدت الطموحات والامال في جنوب المتوسّط بتجاوز محدودية مسار برشلونة للشراكة الاورومتوسطية وإرساء إطار جديد من شأنه إعطاء دفع قويّ للتعاون بين ضفّتي المتوسط يتماشى وخصوصية علاقاتهما التاريخية والحضارية والاقتصادية وروابطهما الجيوسياسية والتي بقدر ما تأخذها البلدان الاوروبية المتاخمة للضفّة الشمالية للمتوسط بعين الاعتبار فإنّها لا تحظى بنفس الاعتبار والاهتمام لدى بقية بلدان الاتحاد الاوروبي خاصّة في ضوء توسّعه إلى بلدان أوروبية ليس لها مصالح إستراتيجية تذكر مع الضفة الجنوبية للمتوسّط. لكن هذه الامال والتطلّعات بدأت تفتر إن لم نقل تتلاشى في ضوء ما آل إليه مشروع بنية "اتحاد المتوسّط" ومضمونه. 2- من "اتحاد المتوسّط" إلى "الاتحاد من أجل المتوسّط" في ضوء ما أثاره مشروع "اتحاد المتوسّط" من احترازات وهواجس لدى عدد من الاوساط الاوروبية ورفض عدد من البلدان الاوروبية وخاصة ألمانيا وبولونيا ودول شمال أوروبا لصيغة هذا المشروع كما طرحه ساركوزي واعتراضها على توظيف الامكانيات المالية للاتحاد الاوروبي لخدمة طموحات وحسابات فرنسا(4) وإزاء رفض المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل القطعي لفكرة تعويض "اتحاد المتوسّط" لمسار برشلونة وإصرارها على التشريك الكامل للبلدان الاوروبية غير المتاخمة للمتوسط في مشروع "اتحاد المتوسّط" بعد تعديل صيغته ومعالمه. وأمام رفض سلوفينيا وبريطانيا العظمى إحداث مؤسسات موازية لمؤسسات الاتحاد الاوروبي شهدت أطروحات وتصوّرات ساركوزي تراجعا أفرغها من محتواها المُعلن. ويتمثّل أوّل هذه التراجعات ذات الدّلالات الكبرى في تعويض تسمية "اتحاد المتوسّط" (Union de la Méditerranée) بتسمية "الاتحاد من أجل المتوسّط" (Union pour la Méditerranée) وهو ما يعني أنّ فكرة إرساء فضاء يقتصر على بلدان ضفّتي المتوسّط قد تمّ التخلّي عنها بصفة نهائية وأنّه لا مجال لاقامة مؤسسات وهياكل وآليات مشتركة بين هذه البلدان وأنّ "الاتحاد من أجل المتوسّط" سيشمل من الجانب الاوروبي كافّة دول الاتحاد الاوروبي وهو ما يعني كذلك أنّ هذا المشروع في صيغته المنقّحة لن يكون بأيّ حال من الاحوال بديلا عن مسار برشلونة للشراكة الاورومتوسطية أو متجاوزا لاُطره وآلياته. 3- إعادة تسويق مسار برشلونة بعلامة جديدة بتعويض "اتحاد المتوسّط" ب"الاتحاد من أجل المتوسّط" انخفض سقف الاهداف التي طرحها ساركوزي والطموحات التي ولّدها إلى حدّه الادنى. وأصبح الامر يقتصر على تعويض تسمية مسار برشلونة بتسمية الاتحاد من أجل المتوسّط من منطلق أن التسمية الجديدة تمثل "علامة أفضل" من التسمية القديمة مثلما أشار إلى ذلك كاتب الدولة الفرنسي للشؤون الاوروبية!(5) وبذلك فإنّ هذا التمشي هو تماما مثل حال بعض التجّار الذين تبور بضاعتهم وتعوزهم القدرة على الابتكار والتجديد وعلى إكساب منتوجهم قيمة مضافة فيعمدون إلى مجرّد الاكتفاء بتعويض علامته في محاولة لتجاوز كساده وإغراء المستهلكين بالاقبال عليه في حين أنّ تركيبة هذا المنتوج ومضمونه لم يتغيّرا! وبالفعل فقد صادق قادة دول الاتحاد الاوروبي في قمّتهم المنعقدة ببروكسال يوم 13 مارس 2008 على مشروع "الاتحاد من أجل المتوسّط" الذي يتمثل هدفه في مجرّد "إعطاء دفع جديد لمسار برشلونة" الذي "لا مجال لوأده أو الانطلاق من الصفر بل تحيينه" مثلما صرّح بذلك جانيز جانسا الوزير الاوّل السلوفيني الذي ترأس بلاده حاليا الاتحاد الاوروبي(6). واتّفق قادة الدول الاوروبية على إعطاء إشارة الانطلاق بصفة رسمية "للاتحاد من أجل المتوسّط" يوم 13 جويلية 2008 خلال قمّة تجمع كافة دول الاتحاد الاوروبي والبلدان المتاخمة للبحر الابيض المتوسّط. وهنا يطرح السّؤال حول جدوى مشاركة بلدان جنوب المتوسّط في هذه القمّة المنتظرة بعد أن استعاضت دول الاتحاد الاوروبي عن "اتحاد المتوسط" "بالاتحاد من أجل المتوسّط" وحددت مضمونه وأهدافه وسقفه من جانب واحد دون التشاور مع دول الضفة الجنوبية للمتوسّط والاستماع إلى آرائها ومقترحاتها. وحتى المشاورات السابقة التي أجراها الرئيس الفرنسي مع المسؤولين في هذه البلدان فإنها تمّت على أساس ملامح المشروع في صيغته الاولى. وبذلك تصبح مثل هذه القمة مجرّد موكب بروتوكولي. أمّا إذا كان الامر يتعلّق بالفعل بإعطاء دفع جديد لمسار برشلونة فإنّ ملاحظات ومطالب وانتظارات بلدان جنوب المتوسّط في هذا الشّأن معلومة وجليّة ومنها على سبيل الذكر لا الحصر قيام الاتحاد الاوروبي بمبادرات جدّية لتفعيل هذا المسار وتجاوز نتائجه المتواضعة والايفاء بالتزاماته التي نصّ عليها إعلان برشلونة كاملة خاصة في مجال مساعدة بلدان جنوب المتوسّط على النهوض بأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتكريس التنمية المتضامنة وتحقيق "فضاء للازدهار المشترك" . 4- متطلّبات تفعيل مسار برشلونة من ضمن متطلّبات تفعيل مسار برشلونة تكثيف مساعدات الاتحاد الاوروبي المالية والفنية لبلدان جنوب المتوسّط وإحداث مؤسسات مالية مشتركة لتيسير تمويل المشاريع التنموية في هذه البلدان بعيدا عن مظاهر البيروقراطية والبطء والتعقيد التي تتّسم بها معاملات مؤسسات الاتحاد الاوروبي مع البلدان الشريكة المتوسّطية. كما يقتضي هذا التمشي إعطاء دفع جديد لمسار برشلونة يجسّم ما نصّ عليه إعلانه بخصوص تيسير المبادلات البشرية والحال أنّ الواقع يعاكس ذلك تماما في ضوء تشديد إجراءات دخول تراب الاتحاد الاوروبي بالنسبة إلى مواطني بلدان جنوب المتوسّط بمن فيهم من يطلبون تأشيرات لمجرّد السياحة. ويتطلّب إعطاء دفع جديد لمسار برشلونة كذلك إيفاء الاتحاد الاوروبي بتعهّداته بخصوص إيجاد تسوية عادلة ودائمة لقضية الشرق الاوسط. هذه القضية التي ما فتئت تُلقي بظلالها على مسار الشراكة الاورومتوسطية وتعدّ أحد عوامل تعثّره ومحدوديّته. إنّ قائمة ملاحظات ومآخد بلدان جنوب المتوسط بخصوص مسار برشلونة طويلة تضيق مساحة هذا المقال على استيعابها كلّها. لكنّها لا تغيب عن الاتحاد الاوروبي وعن دوله ومؤسساته. فلم لا يبادر الاتحاد الاوروبي مثلما بادر بإعادة صياغة مشروع اتحاد المتوسّط وتعديله وتحجيمه من جانب واحد بالاعلان عن استعداده لاتّخاذ إجراءات عملية ملموسة من الان لتفعيل مسار برشلونة وتطوير مؤسساته وتجاوز مظاهر الخلل والقصور عوض الاكتفاء بالنوايا والتبرّك بتعويض تسمية مسار برشلونة بتسمية "الاتحاد من أجل المتوسّط". عند ذلك يصبح للقمة المنتظرة مدلولها وجدواها ومردودها وتُفتح بحقّ آفاق جديدة للشراكة الاورومتوسطية كما فتح الاتحاد الاوروبي آفاقا عريضة لبلدان أوروبا الشرقية التي تحوّلت بفضل ما أغدق عليها من مساعدات وتسهيلات في ظرف قصير من حال إلى حال. كما أنّ الاتحاد الاوروبي مدعو إلى إدراك معطى موضوعيا وهو أنّ أمنه مرتبط عضويا بأمن واستقرار المنطقة المتوسّطية وبالتالي فإنّ تكثيف البرامج والمساعدات لبلدان جنوب المتوسط وشرقه ليس منّة بل ضرورة تخدم المصالح المشتركة خاصّة في ضوء الاوضاع الجيوسياسية الجديدة وما تطرحه من إشكاليات وتحديات لا يمكن التصدّي لها إلاّ بصفة جماعية وبتطوير الاليات المشتركة وإكسابها أوفر مقوّمات النجاعة والفعالية والمصداقية. والحال على ما هو عليه فإن إضفاء الحركية المرجوّة على مسار برشلونة يتطلّب بالتوازي تفعيل المجموعات الاقليمية الفرعية وفي مقدّمتها مجموعة الحوار 5+5 التي يمكن إذا صحّ العزم وتوفّرت الارادة لدى البلدان الاوروبية الخمس المعنية أن تمثّل مخبرا للافكار والمقاربات بخصوص استكشاف أقوم السّبل الكفيلة بتعزيز أركان الامن والشراكة الفاعلة والتنمية المتضامنة في حوض البحر الابيض المتوسّط ومدّ جسور التواصل والحوار بين ضفّتيه وبالتالي خدمة المصالح المشتركة للاتحاد الاوروبي وبلدان جنوب المتوسّط. وتتوفّر لمجموعة الحوار 5+5 جملة من الشروط الموضوعية تهيّئها لانّ تشكّل جسرا للتواصل والتعاون والتقارب والتضامن بين بلدان الضفّتين الشمالية والجنوبية للمتوسّط. ومن ضمن هذه الشروط الموضوعية ما يجمع بلدان 5+5 من روابط جغرافية وتاريخية خصوصية ومصالح استراتيجية تغذّيها كثافة العلاقات والمعاملات الاقتصادية والتجارية بين هذه البلدان وذلك إلى جانب التحديات المشتركة. وإذ كرّست القمّة الاولى لمجموعة 5+5 التي انعقدت خلال شهر ديسمبر 2003 بتونس الوعي بالاهمية الاستراتيجية لفضاء الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط وأفضت إلى جملة من توصيات "لتجسيم التعاون في كنف التضامن من أجل تقليص الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين ضفّتي البحر الابيض المتوسّط..." فإنّ الحاجة تتأكّد أكثر من أيّ وقت مضى لتفعيل هذه التوصيات وتجسيمها على أرض الواقع. ونعتقد أنّ تجسيم الاهداف المنشودة يقتضي تطوير أطر مجموعة 5+5 من مجرّد منتدى تشاوري إلى مجموعة ترتكز على مؤسسات وآليات مشتركة تتّسع إلى مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والامنية وتسهر على تنفيذ برامج ومشاريع ميدانية تؤمّن الاندماج الاقليمي وتعطي قيمة مضافة لمسار الشراكة الاورومتوسطية وتقلّص من تفاقم الفوارق في مستويات التنمية بين ضفّتي المتوسّط لانّه "لا مصلحة للجانبين في أن تكون المجموعة الاوروبية قلعة منغلقة وحولها حزام يحاصرها من الجنوب"(7). الهوامش: (1) Voir Imbert (c): le mirage sudiste. Le point - Novembre 2007 p3 (2) Voir Canio (A): nous sommes prêt à créer une Union de la meditérranée. Le Figaro 31/5/2007 (3) راجع خطاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حول موضوع اتحاد المتوسط في طنجة (المغرب الاقصى) 23 اكتوبر 2007 (4) Voir Khader (B): l'union Méditérranéenne: une union de projets ou un projet d'Union. Confluences méditérranées - 23 Novembre 2007 5) راجع نشرة وكالة الأنباء الفرنسية AFP 7 مارس 2008 6) راجع نشرة وكالة الأنباء الفرنسية AFP 14 مارس 2008 7) راجع خطاب رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي امام البرلمان الأوروبي في سترازبورغ 22 جوان 1996 دراسات دولية عدد 48 3/93