عكست استطلاعات الرأي التي تمّ نشرها خلال شهري مارس وأفريل الماضيين تراجعا للجبهة الشعبية على مستوى نوايا التصويت وذلك مقارنة بالنتائج التي تحصلت عليها بعد اغتيال شكري بلعيد مباشرة. ومهما اختلفت الآراء حول مدى مصداقية هذه الاستطلاعات، فإنّ القاسم المشترك بينها هو أنّ الجبهة الشعبية تحتل دائما المركز الثالث. فهي لم تنجح في أن تكون بديلا للنهضة أو على الأقل بديلا ثانيا لها سواء في استطلاعات الرأي أو في انتخابات 23 أكتوبر (عندما كانت أحزابا يسارية مشتتة). وقد باتت الجبهة الشعبية تشغل العديد بما في ذلك بعض السياسيين لما لعبته من دور في توحيد الأحزاب اليسارية وهو ما من شأنه أن يوسّع من حظوظ اليسار التونسي في الحصول على نسبة هامة من الأصوات في الانتخابات القادمة، لكن انتقادات عدة وجهت إلى اليسار عامة والجبهة الشعبية خاصة بعد اغتيال شكري بلعيد لكونهما لم يستثمرا جيدا فاجعة اغتيال شكري. كما يبقى عدم التخلص من الإيديولوجيا المحنطة التي لا تتماشى والواقع التونسي من بين العوامل التي تحول دون وصول اليسار إلى سدّة الحكم وأن يكون بديلا للنهضة أو الاتحاد من أجل تونس، فخطاباتهم تركّز بالأساس على غلاء الأسعار ونصرة الطبقات المهمّشة. وقوف عند غلاء الأسعار! "إنّ بعض الأطراف في اليسار التونسي تدعو إلى الاشتراكية وهذا لا يمكن تحقيقه في تونس على المدى القصير، كما أن موضوع غلاء الأسعار ليس بالأمر الجديد فقد تصفحت مؤخرا جريدة العامل التونسي الصادرة سنة 1978 ووجدتها تتضمّن في صفحتها الأولى عنوانا حول مقاومة غلاء الأسعار، انظروا كم من سنة تفصلنا عن أواخر السبعينات إلى اليوم ومع ذلك اليسار التونسي مازال يركّز على التخفيض في الأسعار، فلنتأكّد أن الأسعار لن تنخفض أبدا، وهذا قد أثبته الزمن"، هذا ما قاله عبد الجليل بوقرة أحد أبرز مؤسسي حركة برسبكتيف ل"الصباح الأسبوعي". لكنّ الجيلاني الهمامي القيادي في الجبهة الشعبية عن حزب العمل يرى أنّ دور اليسار يكمن في إيجاد حلول للمشاكل المعيشية ومشاكل التنمية، "فاليسار بديل في هذا ونحن بديل في قفة الزوالي فهي شاغلنا الأساسي"، على حدّ قوله. "كل يساري وشيوعي هو كافر وملحد"، موقف يتبناه البعض من التونسيين الذين يكنّون عداء لليسار بسبب ذلك الاعتقاد، وقد أدرك حزب العمال ما تمثله عبارة "شيوعي" من خطر عليه فوجد نفسه مجبرا على التخلي عن تلك العبارة. وصرّح رئيس حزب العمال الشيوعي حمة الهمامي آنذاك أنّ "عبارة شيوعي تثير عدّة تأويلات لدى بعض التونسيين ولذلك ارتأينا التخلّي عنها"، ويمثل هذا التغيير نقلة نوعية في تاريخ اليسار التونسي، ففي ذلك اعتراف ضمني منه بأنّ الشيوعية لا تتماشى والواقع التونسي ولا يقبلها التونسي". عزلة الجبهة الشعبية من الأسباب إنّ اليسار لم يجد حظه في تونس منذ عهد بورقيبة رغم أنه كان في الصفوف الأمامية لإرساء الحداثة في تونس، حتى أنه لم يكن راضيا عن المشروع البورقيبي الحداثي الذي اعتبره آنذاك "وقوفا في منتصف طريق الحداثة". "ولذلك يجب أن يبقى اليسار في الصفوف الأمامية لمواجهة الظلامية وعليه أن يفكّر فعليا في تحالف أوسع من الجبهة الشعبية حتى يتمكنّ من الفوز بثقة عدد هام من التونسيين"، على حدّ قول بوقرة. كما لم تتجسّد هذه العزلة على مستوى التحالف مع "الاتحاد من أجل تونس" فقط، وإنما على مستوى رفض الجبهة الشعبية المشاركة في الحوار الوطني المنضوي تحت رئاسة الجمهورية. ربما لقي هذا الموقف استحسانا لدى أنصار الجبهة الشعبية ولكن من المؤكدّ أنّه لاقى عدّة انتقادات لدى فئة من التونسيين التي ترى في اليسار التونسي صورة ذلك المعارض الذي يعارض بهدف المعارضة فقط، وقد سبق وصرّح المناضل اليساري البارز جيلبار نقاش ل"الصباح الأسبوعي" بأنّ "الجبهة الشعبية تنقد ولا تقدّم بديلا.. وإنّ لديها مجرّد شعارات وعليها التحرك وتقديم برنامج يتماشى والواقع التونسي". من جهته، رأى اليساري عبد الجليل بوقرة تراجعا في شعبية اليسار خاصة لدى الطبقة المتوسطة، قائلا: "إن الطبقة المتوسطة هي طبقة في عمقها غير ثورية لا تحمل صدامات قديمة ولن تتحالف مع اليسار حتى لو تعاطفت معه ومع قيادييه الذين عرفوا بنضالهم وصدقهم، ولكن من شأن عزلة الجبهة الشعبية أن يحول دون أن تكون بديلا للنهضة، فالجبهة بعزلتها، بالنسبة لهذه الطبقة المتوسطة، تخدم المشروع المناهض للحداثة وتساعد الغول الرجعي الذي يهدّد مكاسب البلاد دون أن تدرك ذلك". «لن يلقننا أيّ طرف درسا» رفض الجبهة الشعبية الدخول في تحالف مع الاتحاد من أجل تونس أكدّه قياديوها في أكثر من مناسبة وأنّهم الخطّ الثالث وأنّهم لن يلتحقوا بأيّ طرف وإنما سيواصلون نضالهم بمفردهم، حيث قال أمين عام حركة "الوطنيون الديمقراطيون" زياد لخضر ل"الصباح الأسبوعي": "اليسار له 100 سنة من النضال في تونس وعنوانه الأبرز الدفاع على مشروع التحررّ الوطني من الاستعمار المباشر وغير المباشر.. ولن يلقننا أيّ طرف درسا في النضال وفي الدفاع عن مشروع الحداثة ومناهضة الظلامية". قياديو الجبهة الشعبية لا يهتمون بمن يخالفهم الرأي لإيمانهم التام بأنهم الخيار الثالث وبأن الجبهة الشعبية ستعوّض النهضة، لما لها من بديل على مستوى النموذج المجتمعي الحداثي وعلى مستوى نصرة الطبقات المهمّشة الفقيرة. لكن اليساري البارز محمد معلى يرى أنه بإمكان أي طرف أن يكون بديلا للنهضة أو الترويكا في الانتخابات القادمة خاصة في ظل ضعف أدائها، وفي حديثه عن اليسار التونسي، قال: "يخطئ من يظنّ أنّ المواقف الصحيحة هي التي تجلب الرأي العام وذلك نظرا إلى تداخل عدّة عوامل على غرار المال السياسي ولما تتطلبه الحملة الانتخابية من أموال وهذا لا يتوفر لدى الجبهة الشعبية". ورغم أنّ قياديي الجبهة يتميزون بمصداقيتهم وعدم ازدواجية الخطاب، فإن هذا غير كاف، حسب اعتقاد محدّثنا الذي رأى ضرورة في تقرّب الجبهة من الأحياء الشعبية التي تشهد سيطرة من قبل السلفيين وحركة النهضة، "فهذه الأطراف يسهل التأثير فيها وهو ما من شأنه أن يقلب موازين الانتخابات ولا يمكّن الجبهة من أن تكون بديل للنهضة".