بقلم: محمد بن عبد السلام الدوّاس منذ قرون عُرِفَ الشعب التونسي باعتداله وتسامحه وميله الشديد للسلم والسلام وبتقاليده التضامنية ومؤازرة غيره وتفانيه في العمل الجاد من أجل ضمان خبزه اليومي ومستقبل أبنائه. ومنذ عهد البايات والطبقة الحاكمة همّها الوحيد إرضاخه لمشيئتها والتحكّم في مصيره وتعويده على الحكم الفردي وترويضه لعبادة الأشخاص والاستنقاص من قدراته النضاليّة واحتقارإمكانياته الفكريّة الإبداعيّة إلى أن جاء اليوم الذي لا يستطيع تحمّل عبء كلّ هذه الوضعيات المؤلمة والمزرية فانتفض ثائرا بصوت واحد "لا خوف بعد اليوم" مدافعا عن حريّته وتكافؤ فرص العيش الكريم،. واليوم، هذا الشعب بكلّ مكوّناته وجد نفسه في دوّامة من الأطروحات والنقاشات والأزمات التي لا تغنيه من جوع ولا تمتّ بصلة لمبتغاه ولأهداف ثورته ولا في كيفيّة تقريرمصيره ومستقبله ولا في تحقيق حاجياته الحياتية ومن أهمّها إيجاد الحلول لمقاومة البطالة وآفاتها والتشجيع على الاستثمارالداخلي والتعاون المشترك مع الدول الشقيقة والصديقة لبعث المشاريع الاقتصادية والإسراع في توفيرالميزانيات لإنجازالدراسات والشروع في تحقيق أولويات التنميّة الجهويّة لكلّ الولايات. إنّ ما يجري اليوم في تونس من تغوّل وإجرام وتجاوزات بالجملة هي غريبة وشاذة وهدّامة للمجتمع التونسي الذي يمقت وينبذ كلّ تطرف وعنف. الآن هناك بعض الأحزاب تطرح عزل وإبعاد وإقصاء تونسيّين لم يصدرفي شأنهم أيّ حكم قضائي عادل ومحايد لممارسة حقوقهم السياسية المقدّسة وللمشاركة في بناء جمهورية ثانية جديدة على أسس ومبادئ وقيم دائمة وثابتة ومؤسسات فاعلة ومحايدة. فمن الأجدروالمنطق أن يترك لكلّ تونسية أو تونسي أن يقول كلمته وأن يختارمن يراه كفءا لخدمة البلاد والعباد، وأن يتحمّل مسؤولية اختياره؟ فاستشارة المواطن وتشريكه في تقريرمصيره مطلب مقدّس هدفه ضمان المسارالديمقراطي الذي يصبوإليه . إنّ تونس وكافة الشرائح المكوّنة لشعبها تنتظرمِنْ مَنْ يتحكّم في مصيرها ترك رجالات اختصاص العدل والقضاء المحايد والنزيه وبدون تدخّل من أيّ طرف آخرأن يتخذوا قراراتهم بكلّ أريحيّة ومسؤولية في شأن كلّ من عبث وخان هذا الوطن واستبدّ واستغلّ واستكرش من الحرام وأن يترك المواطن ينتخب ويصرّح بكلّ شفافيّة لمن يراه صالحا و"نزيها وكفئا" لخدمته ولضمان مستقبل أبنائه. وإنّ التجربة الأولى والمميزة بعد الثورة لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي والتي تعتبرمحطة تاريخية لتونسنا أصبحت نموذجا يحتذى بها لإنجازأيّ انتخاب آخررئاسيّا أو تشريعيّا مع أخذ بعين الاعتباركلّ سلبياتها لإصلاحها وهكذا تكون النتائج المعلنة عنها نهائية بمشيئة الله ولا رجعة فيها ترضي جميع الأطراف ولا حقّ لأيّ مواطن مهما كبر شأنه وخصاله ونزاهته أن يطعن في مصداقيتها. إنّ تونس اليوم في حاجة ماسة وأكيدة لتضميد جرحها بالتعقّل بالتآزروبنبذ الإقصاء حتّى لا يزاد للطين بلّة؛ وليس هناك أيّ مسلك خيرا من مسلك الوفاق والاعتدال والشروع في بناء مستقبل بتروٍّ وبخطى ثابتة بعيدة عن عقليّة التشفي والانتقام واستغلال الفرص لحوز المناصب . إنّ العديد من الدول التي مرّت بوضع مماثل لتونسنا اتخذت مسارا لإعادة بناء ديمقراطيتها واقتصادها اللذين أوصلاها إلى برّ الأمان ولقّنت دروسا في كيفيّة تعاطي واستغلال وضعها الثوري الجديد؛فمن واجب أصحاب القرارأن يستنبطوا ويكيّفوا الحلول الملائمة مع واقع مجتمع تونسنا وأن لا يسقطوا في المستنقعات والهفوات التي عانت ومازالت تعاني منها بعض الدول الشقيقة والصديقة. ورحم الله المفكّروالعلامة التونسي ابن خلدون الذي قال: "العدل أساس العمران" وزعيمنا الشهيد فرحات حشاد الذي قال: "في شعبنا القوّة الكافية لتشييد صرح مستقبله بيده فليتوكّل على الله وعلى ثباته وعلى ثقته وعلى مصيره وفي سعادة وطنه وليشمّرعلى ساعد العمل الجدّي". كما قال أيضا: "أحبّك يا شعب تونس الذي امتحنك الدّهروامتحنته فعرفت فيك الشجاعة مع الإخلاص وعرفت فيك الصبرمع المثابرة". إنّ تاريخ تونس يزخربعباقرة ومناضلين من أجل الدفاع عن الحرّية والكرامة والديمقراطية ولكن عبادة الزعامات والتفرّد بالحكم والتمسّك المستميت بمواقع القراروالمنافع الشخصيّة الآنية أوصلها إلى الجمود والتقهقر. إنّ الثورة التونسيّة اندلعت للقضاء نهائيا وبدون رجعة على الخنوع والخوف والتملّق، وإنّ الشعب افتكّ تقريرمصيره، فلا حكم بدون عدل مستقل ولا قراربدون استشارته ومشاركته الحرّة والنزيهة لتفعيله، وتاريخ الشعوب يؤكّد ذلك طال الزمن أوقصر؛ فعلى قادة الأحزاب والفاعلين في المجتمع المدني التريّث والتعقل قصد التكهّن والتنبّؤ، إذ أنّ الإقصاء المسقط من دون إثباتات وبراهين وشهادات وأحكام قضائية لأيّ تونسي عبّرعن استعداده لخدمة وطنه تكون له انعكاسات وخيمة داخل وخارج البلاد. فلنترك للمواطنين والمواطنات تحمّل مسؤولياتهم في تقريرمصيرهم وإنّ النتائج التي ستفرزها الصناديق عند الانتخابات المنتظرة بفارغ الصبرهي التي سيتبناها الشعب أحبّ من أحبّ وكره مَن كره. إنّ تونس ليست في حاجة إلى الحقد والبغضاء والكراهية والتشفِّي بل علينا بالشروع في المساءلة والمحاسبة وبعدها المصالحة مع كلّ من يراه القضاء مؤهّلا أو مستحقا لهذا الإجراء، ولنترك للشعب التونسي أن يُدلي بصوته لمن يشرّفه بالنضال من أجل عزّته وكرامته، ولنترك أيضا لكلّ من تحمّل مسؤولية سياسيّة في العهود السابقة أن يكشف أوراقه وأن يصارح الشعب بما له من خفايا كواليس الجمهورية السابقة، والكلمة الفاصلة والأخيرة ستكون للشعب التونسي الطوّاق إلى كلّ من يناضل من أجل عيشه الكريم، وإرساء عدل دائم، وضمان اقتصاد زاهروسمعة مميّزة لدى البلدان الشقيقة والصديقة. إنّ في تحييد وترفّع الأحزاب الممثلة بالمجلس الوطني التأسيسي في اتخاذ قوانين وقرارات في العزل السياسي للدستوريين يساعد ويخدم المصالح العليا لتونس ولسمعتها في الداخل والخارج ويمكّنها من الانتقال الديمقراطي بلطف وبأخف الضرروفي مدّة معقولة؛ وهذا ما يصبو إليه الشعب التونسي؛ ومنطقيا ليست من أولياته الاستعجالية فليترك لأهل القضاء التكفل بهذه المهمّة وهم الأجدر بها وإنّ المئات من شهدائنا الأبراروالآلاف من مناضلين الأحرارالذين ضحوّا بالغالي والنفيس لاندلاع ثورتنا المظفرة بمشيئة الله لم يفكّروا يوما بتكليف بعض الأحزاب الحاليّة الداعية للعزل السياسي بالطريقة التي يريدونها، فكَانَ همّهم الوحيد رحمهم الله، إرساء عدل مستقل والدفاع عن تكافؤ الفرص بين المواطنين والإنصاف في توزيع خيرات البلاد.