إن القوانين الاقتصادية من حيث صرامتها تكاد تكون قواعد اقتصادية لا تحتمل الجدل وإن حقائقنا الاقتصادية اليوم تتمثل في انخفاض جملي للإنتاج، وفي تراجع العائدات من العملة الصعبة تراجعا لا يستهان به في قطاع السياحة والنسيج ومهولا بل مروعا في قطاع الفسفاط حيث بلغت الخسائر المسجلة منذ الثورة أكثر من ملياري دينار أي ما يعادل إن لم يكن يتجاوز ما تحصلنا عليه من قروض من الخارج ترتهن بلدنا وأجيالنا القادمة وفي نفس الوقت عرفت الأجور منذ الثورة زيادات متتالية كما عرفت الأسعار بدورها التهابا من جراء تراجع الانتاج المذكور آنفا، الانفلاتات بمختلف أوجهها، تهريبا واعتصامات وقطع طرقات واستعصاء على فرق المراقبة واستعداء على مؤسسات الدولة ولئن كانت الزيادات في الأجور، وهذا لا بد من الاعتراف به لا تغطي إلا جزءا من تآكل المقدرة الشرائية إثر الثورة، فإن الحقائق الاقتصادية الحالية تفرض إقرار هدنة اجتماعية بسنة على الأقل لتمكين البلاد من استرداد أنفاسها والاقتصاد من التعافي، ولم لا الانتعاش؟ إن الثورة، قامت في مراحلها الأولى على أيدي المهمشين أي الطبقات الدنيا للمجتمع وإن الزيادات في الأجور لمن يعملون طبعا من شأنها أن تغذي لا محالة في ظل الانفلات وتراجع الانتاج التضخم المالي وإدخالنا في حلقة مفرغة جهنمية لا نهاية لها ولا نتيجة سوى مزيد تآكل المقدرة الشرائية للطبقة الوسطى، وسوى مزيد تفقير الطبقات الدنيا مما يمثل عملية انتحارية حقيقية ويؤذن دون شك بانتفاضات أخرى ولكنها قد لا تبقي ولا تذر هذه المرة، فمثل هذه الطبقات كانت ولا تزال إلى اليوم توجد في وضع استعجالي لا يطاق والأولوية المطلقة يجب أن تتمثل في انتشالها في أسرع وقت من هذا الوضع الدقيق بل اللاإنساني لا في تعقيد وضعها أكثر بالتضخم وارتفاع الأسعار الذي قد تتحمله الى حد ما ولتوقيت ما الطبقات الأخرى ولكن لا يمكن للطبقات الدنيا ذلك أن النقابات وفي مقدمتها اتحاد الشغل ولئن كانت مطالبة بالدفاع عن منظوريها فيجب ألا يغيب عنها أن استراتيجياتها يجب ألا تقتصر على الآني القريب بل أن تندرج في المدى المتوسط والبعيد فما فائدة زيادات يلتهمها التضخم أولا وتحكم على المؤسسات والاقتصاد والبلاد بالركود الاقتصادي ثم الإفلاس كما أنها أي النقابات مدعوة أيضا لأن تكون صوتا ل»من هم دون عنوان» أي من يوجدون خارج الدائرة الاقتصادية لقد عشنا وعاش العالم برمته طوال العقدين الماضيين على مقولة «نهاية التاريخ» التي تشرع لليبرالية المتوحشة وتقدمها على أنها الجواب الوحيد لكل مشاكل البشرية وكطريق لا بديل عنه للرخاء الاقتصادي وإن شعبنا الذي قوض دكتاتورية بغيضة وفتح باب الحرية والكرامة والديمقراطية أمام عديد الشعوب الأخرى وكانت لثورته ردات ارتجاجية لا يمكن اليوم تقدير مداها عليه، أن يبرهن بوعيه أن هناك وجهة أخرى لرخاء البشرية يكون فيها للتضامن الاجتماعي والتراحم البشري معنى ومضمون وان يقيم الدليل على أن «الاجتماعي» له مكان لا يستهان به إلى جانب «الاقتصادي».. بل إن ذلك «شرط واجب» للعيش المشترك وللرخاء والازدهار