رئيس منظمة إرشاد المستهلك ل«الشروق» «لوبي» وراء الترفيع في أسعار لحم الضأن واختفاؤه من «الجزارة» مدبّر    مرحلة التتويج ...الترجي لحسم اللقب أمام المنستير... النجم و«السي .آس .آس» لاستعادة الكبرياء    يحذر منها الأطباء: عادات غذائية سيئة في العيد!    في زيارة وزيرة التجهيز إلى سيدي بوزيد.. تسليم 178 مسكنا اجتماعياً    قرارات بالسراح الشرطي إثر العفو الرئاسي الخاص    الحشّاني يلتقي تبون خلال أشغال قمّة مجموعة السبع    حصيلة منتدى تونس للاستثمار TIF 2024 ...أكثر من 500 مليون أورو لمشاريع البنية التحتية والتربية والمؤسسات الصغرى والمتوسّطة    هذه أسباب عدم تسجيل صابة قياسية من الحبوب    رئيس الحكومة يجري محادثات جانبية مع عدد من الزعماء والقادة    مع تواصل المجازر الصهيونية .. وتعثر المفاوضات ... غزّة تذبح... في العيد    المواجهة تتوسّع شمالا ومخاوف الصهاينة تتزايد...صواريخ حزب الله قد تحسم الحرب    يوميات المقاومة...قصف صاروخي وتصدي ميداني ...المقاومة الفلسطينية تدكّ مستوطنات غلاف غزّة    رئيس الحكومة يلقي كلمة في الجلسة المخصّصة لموضوع ''افريقيا والمتوسط''    مستودعات للتهريب و تلاعب في الموانئ ...أباطرة «الفريب» يعربدون    مع تأجيل التنفيذ... 6 أشهر سجنا لوزير أملاك الدولة الأسبق حاتم العشي    بنزرت: وفاة طفلين غرقا بشاطئ مامي    مذكّرات سياسي في «الشروق» (54) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... سفارة تونس بواشنطن واجهة للاتفاقيات المتعدّدة والمتنوّعة    الصحة السعودية تدعو الحجاج لاستخدام المظلات للوقاية من ضربات الشمس    بمناسبة عطلة عيد الأضحى .. وزارة الدّاخلية ومرصد سلامة المرور يقدّمان توصيات لمستعملي الطّريق    الرابطة 1 : التعادل يحسم الدربي الصغير بين الملعب التونسي والنادي الافريقي    سوق الانتقالات: النصر السعودي لم يحسم بعد في مستقبل النجم السنغالي ساديو ماني    الاتحاد الآسيوي يعلن انطلاق النسخة الأولى لبطولة رابطة أبطال آسيا لكرة القدم النسائية في أوت المقبل    سوسة: شركة النقل بالساحل تطلق برنامجا استثنائيا لضمان نقل المواطنين خلال فترة عيد الاضحى    فتح 76 مكتب بريد بصفة استثنائية يوم السبت 15 جوان 2024    منوبة: اقبال على نقطة بيع الأضاحي بالميزان    الدورة الخامسة من مهرجان عمان السينمائي الدولي : مشاركة أربعة أفلام تونسية منها ثلاثة في المسابقة الرسمية    "عالم العجائب" للفنان التشكيلي حمدة السعيدي : غوص في عالم يمزج بين الواقع والخيال    قفصة : تواصل أشغال تهيئة وتجديد قاعة السينما والعروض بالمركب الثقافي ابن منظور    جامعة تونس المنار ضمن المراتب من 101 الى 200 لأفضل الجامعات في العالم    يوم عرفة .. فضائله وأعماله    الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه في أريانة    وزارة الخارجية تعلن الغاء تأشيرة الدخول الي تونس لحاملي جوزارات السفر العراقية والايرانية    جلسة عمل على هامش منتدى الاستثمار تبحث سبل تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في مجال الأدوية    الليلة.. الحرارة تصل إلى 29 درجة    تونس : عقود عمل وهمية للسفر نحو دول أجنبية    الرابطة الأولى.. نتائج مباريات الجولة الاخيرة "بلاي آوت" والترتيب    قرارات المكتب الجامعي البنزرتي مدرّبا للمنتخب الوطني وبن يونس مساعدا له    المصادقة على الدراسات الأولية لمشروع إعادة تهيئة المسبح الأولمبي بالمنزه    انس جابر تتأهل الى ربع نهائي بطولة نوتنغهام للتنس    أشغال قمة مجموعة السبع : تبون يلتقي رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني    خطير/ مكملات غذائية وأقراص منشّطة مجهولة المصدر تُباع داخل قاعات الرياضة!!    تسليم مفاتيح 178 مسكنا اجتماعيا بهذه الجهة    قضية '' مفقودي جرجيس'' : أحكاما بالسجن تتراوح بين 4 و10 سنوات مع النفاذ العاجل    ميلوني في قمة السّبع: "إفريقيا قارة أسيء فهمها وتم استغلالها طويلا"    الحجاج يتوافدون إلى مشعر منى لقضاء يوم التروية    وزيرة التربية…هذا ما ينتظر المتلبسين بالغش في امتحان الباكلوريا    عيد الاضحى : هؤلاء ممنوعون من أكل اللحوم    وكالة النهوض بالصناعة : تطور ب31،8 بالمئة في الإستثمارات الأجنبية المباشرة    قطاع الصناعة يوفر 530 ألف موطن شغل ..التفاصيل    يوم التروية.. حجاج بيت الله يتوافدون على مشعر منى    الجزائر: مُسنّة تسعينية تجتاز البكالوريا    تصل إلى 72 درجة.. الصحة السعودية تحذر الحجاج من خطر ارتفاع حرارة الأسطح بالمشاعر المقدسة    تكليف ربيعة بالفقيرة بتسيير وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية    كرة اليد.. لؤي مخلوف يطلق النار على مسؤولي النجم ويوجه لهم اتهامات خطيرة    165 حرفيا ومهندسا داوموا على مدى 10 أشهر لحياكة وتطريز كسوة الكعبة المشرفة    مفتي الجمهورية: "هكذا تنقسم الاضحية في العيد"    «غفلة ألوان» إصدار قصصي لمنجية حيزي    شيرين تصدم متابعيها بقصة حبّ جديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الحقيقة والمنهج»* أصل الإشكالية وطبيعة أبعادها المعرفية (1-2)
بين الطّالبي والشّرفي:
نشر في الصباح يوم 30 - 03 - 2008

لقد قرأت كتاب الأستاذ محمد الطالبي "ليطمئن قلبي" (دار سراس للنشر) وطالعت أغلب الردود والمناقشات والتعليقات التي دوّت بشأنه لا سيّما ما نشر منها على أعمدة جريدة "الصّباح" الغرّاء، وراودتني فكرة الكتابة عن مسألة مهمّة يطرحها هذا الكتاب، تتّصل بالمقاربة التي رام الأستاذ الطالبي إنجازها حول مناهج العلوم الإنسانية وتطبيقاتها في مجال دراسة الظّواهر الدّينية
وطبيعة الاستنتاجات العلمية التي يتوصل إليها الباحث من جهة العلاقة بالمعتقد الدّيني، إثباتا أو نفيا، وهو جانب في تقديري على غاية من الأهميّة، لم يتفطّن إليه أغلب من كتبوا، غير أنّي كنت متردّدا لسببين رئيسيين:
الأول أن يؤول كلامي على أنه انحياز وتأييد لصاحب التأليف أو اعتراض عليه.
والثاني: أن سياق وضع كتاب "ليطمئن قلبي" لا يمكن اعتباره مطلقا وليد خلفية معرفية علميّة خالصة، بل يلتقي فيه الذّاتي بالموضوعي والعلمي بالإيديولوجي والدّيني الخالص بما هو غير ذلك.
غير أن ما حفّزني على الكتابة هو الرّد الذي كتبه الأستاذ عبد المجيد الشرفي (أحد أبرز من استهدفه نقد الأستاذ الطالبي وانتقاده في هذا الكتاب) ونشر على أعمدة جريدة الصباح يوم 23 مارس الجاري.
إنّ الغرض من هذه المقالة ليس حسم الأمر أو الانحياز لأحد الطرفين اللّذين ربطت بينهما صلة التعاون والزمالة والبحث والإشراف والمشاركات في الملتقيات الدولية باسم الجامعة التونسية، ونخبتها النيّرة لاسيّما في منتديات الحوار الإسلامي المسيحي لمدّة تقارب الأربعين سنة. إنما ما حفّزني على الكتابة في هذا الشأن هو استكناه الدّلالة القصوى والأبعاد المعرفية العميقة لكتاب "ليطمئنّ قلبي" وما حبّر حوله من ردود، وتستتبع ذلك الرغبة في تبيان انعكاسات مثل هذه المعركة، وما ينجم عنها من صدى في مستوى الدوائر الأكاديمية المنشغلة بالبحوث العلمية المتصلة بالدين والحضارة وقضايا الفكر الإسلامي وقراءة التاريخ، وبالتالي إدراك ما يمكن أن يتولد عن ذلك من قيم معرفية وروح علمية جديدة، يمكن أن تأخذ بها أجيال اليوم.
وذلك أهّم ما يدعو إلى النّظر والبحث بخصوص معركة كتاب "ليطمئن قلبي". خاصة وأن ذلك يتزامن مع مرور خمسين سنة أو ما يقارب على انبعاث الجامعة التونسية في هيئتها الأكاديمية العصرية إبان فجر الاستقلال وظهور الدولة الوطنية الحديثة. حيث تمّ الرّهان على حرّية البحث العلمي الأكاديمي ونزاهته، وإقرار مبدأ احترام النتائج والأفكار التي يتوصل إليها الباحث أستاذا أو طالبا متخصّصا في الآداب أو الإنسانيات أو العلوم الصحيحة، واشترط كلّ ذلك بضرورة مواكبة المفاهيم الجديدة التي تظهر في مجال النّظريات العلمية ومناهج البحث. ومن خلال ذلك- كما هو معلوم- انخرطت الجامعة التونسية في منظومة التعليم العصري من ضمن دول عربية قليلة كانت بدورها سبّاقة إلى ذلك. ومازال رهان الانخراط في المنظومة الجديدة مطلبا قائم الذّات تسعى أغلب النخب الأكاديمية الخلاّقة وسلطة الإشراف على تجسيمه بحسب الممكن، ووفقا للمتغيّرات الكونية وطبيعة أوضاعنا الدّاخلية وإمكاناتنا الذّاتية.
معارك لا بدّ منها، وإن تجيء متأخّرة زمنيّا
لقد كان من الممكن ، بل من الضروري في تقديري أن توجد مثل هذه المعارك والرّدود بين الجامعيين ذوي الطروحات والمشاريع الفكرية، منذ فجر السبعينات مثلا عندما بدأت الملامح الأولى لمسار البحوث والدراسات الجامعية تتشكل أو في طور التشكّل، وقد ظهر آنذاك نزوع لدى بعض الجامعيين إلى الانفتاح على المحيط ومحاولة التأثير في مجرى الحياة السّياسية والاجتماعية، وفي تفعيل ما يحدث ثقافيا. وقد احتاجت الدّولة الحديثة الناشئة آنذاك إلى إسهام الجامعيين في معركة البناء والتشييد، وسعت الجامعة بدورها أن تكون مرآة للتقدّم والتطوّر المنشود في سائر المجالات، ولعبت عديد الوجوه الجامعية أدوارا فاعلة في هذا السياق ليس هذا مجال تفصيل القول فيها. إن الثّابت في الأمر أن عشرية السبعينات وكذلك العشرية التي تلتها خلت أو كادت من الجدل العلمي بين الجامعيين ومن الاختلاف المعرفي العميق، ومن الرّدود والمعارك العلمية التّي هي ضرورية لتقدّم الفكر والبحث ولنهوض الجامعة برسالتها النبيلة. لعلّ المعارك التي ظهرت آنذاك من جنس المعارك السّياسية التي تترجم خلافات إيديولوجية ارتبطت بخيارات انتهى تأثيرها وبريقها مع تقادم الزمن.
ونادرا ما تقع مجادلات علمية جادّة تدون في كتب أو دوريات ومن اللافت للانتباه أن أكثر الشخصيات كانت أعماله موضوعا للنقد، وحتّى التّصويب والتصحيح أحيانا هو محمد الطالبي، فعندما نشر الطالبي تحقيقه لكتاب "الحوادث والبدع" للطرطوشي (أبو بكر محمد بن الوليد الأندلسي)(1). سنة 1959، كتب البحّاثة العربي والمحقّق الكبير الأستاذ صلاح الدّين المنجّد مقالا ينقد فيه تحقيق محمد الطالبي لهذا الأثر، ومما قاله صلاح الدين المنجد ناقدا لتحقيق الطالبي: "...وفي تراجم الإعلام اتّبع المحقّق (الطالبي) طريقة تدلّ على عدم تمكّنه من معرفة الرّجال (الصّحابة)، وطبع نص الكتاب دون ضبط الألفاظ التي تحتاج إلى ضبط، والأعلام التي تشكل قراءتها وهذا ليس من المنهج العلمي في نشر النصوص"(2).. وكتب في الغرض نفسه الشيخ المختار السلاّمي المفتي السابق للجمهورية التونسية يقول: "لو أردت الكشف عن كلّ ما وقع فيه المحقّق (الطالبي) من أخطاء وبيان مآخذه ثم تقويم ذلك لكانت رسالة مطوّلة لا مقالا في مجلّة لأنّ المحقّق (الطالبي) يتعثر في كل خطوة يخطوها، ولا يستقيم إلاّ قليلا حتى يقع في سقطة أعمق من سابقتها مما يدلّ على أنّه بعيد عن فن التحقيق كل البعد أجنبي عن علم الشّريعة الإسلامية"(3).
ولعلّ مثل تلك الأخطاء والنقائص المشار إليها هي التي دفعت بعبد المجيد التركي إلى إعادة تحقيق كتاب الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي ووضع ضمن تحقيقه-في التقديم- مبحثا بعنوان: "قائمة في أخطاء الطالبي(4). من الرّدود العلمية الرفيعة على بعض تآليف الطالبي ومناقشاته الأخرى ما كتبه الرّاحل الشاذلي بويحي أحد الرواد الأوائل لانبعاث الجامعة التونسية بعنوان: "زيادة التعريف بالرقيق أو ردّ الشاذلي بويحي على مقال محمد الطالبي الذي عنوانه عودة إلى أبي إسحاق إبراهيم بن القاسم الرّقيق أو ابن الرقيق"(5). يقول الشاذلي بن يحي: "على أنّنا سنعرض هاهنا إلى النّقاط يحاجّنا فيها، نقطة نقطة حتى نبيّن أنّ نقدنا إيّاها كان لابّد منه، وأنّه نقد موضوعي وإنّ اتهاماته إيّانا لا أساس لها"(ص60).
وهكذا إلى أن ظهرت في السنوات الأخيرة معارك كثيرة، وردود تسعى أن تكون عميقة، وترفع شعارات البحث العلمي النزيه لوجوه وأسماء جامعية وثقافية أكثرها أنهى دوره الوظيفي الرّسمي (التدريس والتأطير). وغالبا ما تكون تلك الرّدود مترجمة لمواقف وتناقضات ربّما لم يكن من الممكن الإفصاح عنها سابقا، إمّا بسبب طبيعة المصالح، أو انطلاقا من اتّساع دائرة الحلم في توسيع مجال النّقود والتأثير والحظوة، وبالتّالي اجتناب ما قد يكون وراء تكاثر عدد الأعداد، أو ما قد ينجم عن ذلك من خصومات قد تعقّد مساعي تحقيق الأحلام وحصد النّجاحات. إنّ الأمر عندنا على عكس ما هو في الجامعات الغربية المتقدّمة أو بعض الكلّيات العربية الناسجة على منوالها مثل الجامعة المغربية حيث الرّدود العلمية والمناقشات المعرفية النزيهة تجري في كنف الهدوء والاحترام ابتغاء تقدّم البحث العلمي وتطوير إمكانات نجاعته، ومثال ذلك ردود طه عبد الرحمن على مشروع محمد عابد الجابري "في نقد العقل العربي" أو ردود محمد وقيدي على الكتابات الفلسفية لجيل الرّواد الأوائل من المعاصرين أو القراءات النقدية لكمال عبد اللّطيف على تآليف معاصرة في مجال الفلسفة والفكر السياسي والتّاريخي المغربي والعربي الحديث. بخصوص مؤلفات عبد المجيد الشرفي صدر قبل كتاب الطالبي المشار إليه أعلاه تأليف لمحمد لطفي اليوسفي تحت عنوان "القراءة المقاومة وبكاء الحجر"(6) موضوعه نقد كتابات عبد المجيد الشرقي وإرجاع ثمراتها المعرفية ونتائجها الفكرية إلى تآليف رموز جامعية وفكرية تقدّمته، ويؤاخذ عليه تأثره بالإستشراق في وجهه السلبي، وتتفيهه للّغة العربية باعتبارها "لغة ثقافة الماضي"، وغير ذلك من الاتهامات كالنرجسية وادعاء الإحاطة بعلوم ومعارف كثيرة. لكنّ ذلك فسّر لدى البعض بأنّه وليد خلافات شخصية غير أنّ هذا لا يعني الحسم في مسألة القيمة العلمية لهذا التأليف. وكتب عبد الرحمن حللي نقدا لبعض مؤلفات الشرفي نشره بمجلة الحياة الثقافية بعنوان: "قراءة في كتاب الإسلام بين الرسالة والتاريخ"(7) وكتب محمد الحبيب السلامي ردّا بعنوان "لماذا أخطأ الأستاذ عبد المجيد الشرفي وأوقع غيره في الخطأ" نشر بمجلة "حقائق"(8).
أصل الخلاف ومشكلة الاحتجاج بالعلم
إن ما يتبادر إلى الذّهن، ويمكن أن يستنتجه القارئ الحصيف لكتاب "ليطمئن قلبي"، أنه جاء يطرح قضية المنهج وتطبيقاته في مجال الدراسات الدينية وآفاق هذه الدراسات فيما يتعلق بالإيمان الديني وقداسة المعتقد. لكنّ ما يلفت الانتباه أنّ هذا التأليف لمحمد الطالبي جاء متأخرا في الزّمن حتى بالنسبة لكتاب عبد المجيد الشرفي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" الصادر عن دار الطليعة، بيروت منذ سنة 2001، وكأنّ كتاب الطالبي "ليطمئن قلبي" يبيح سرّا، أو يكفّر عن ذنب، أو يعلن بطريقة غير مباشرة عن تواطئه مع الخطأ إن كان موجودا.ذلك أنه أعرف الناس بكتابات الشرفي، وأشرف على البعض منها (الأطروحة). وظلّ الشرفي يتخذ منه أستاذا ودليلا إلى فترة قريبة نسبيا، فقد اعتمد منهجه على نحو من الدّقة في دراساته "حول الآيات 183- 187من سورة البقرة"(9). لقد أعلن عبد المجيد الشرفي منذ فجر السبعينات عن منحاه في دراسة قضايا الفكر الإسلامي والعلاقة بين الوحي/الكتاب والقراءات والتأويلات والرّدود المنجزة حوله تاريخيا، كما ترجمتها الفرق والمذاهب الفكرية الّدينية على امتداد التاريخ. واهتّم بدراسة حضور المسيحية في الثقافة العربية وردود علماء الدّين المسلمين على نظرائهم المسيحيين(10)، فهو قد ابتدأ الاهتمام بالمسيحية وحضورها في الثقافة العربية ليتجه بعد ذلك إلى الفكر الإسلامي ويسعى إلى إرساء تقاليد نقد أمهات مصادره في ضوء مفاهيم المعرفة الحديثة وأدواتها المنهجية. وكان يؤكّد في أغلب ما كتب على أنه يدرس تلك القراءات من منظور مناهج المعرفة الحديثة ومفاهيم العلوم الإنسانية المعاصرة من ناحية أولى وباعتبارها منجزا بشريا وتجربة تاريخيّة من جهة ثانية، وهدف الشرفي من ذلك الكشف عن "الحقيقة التاريخية"، والإبانة عن التأثير الذي يمارسه السّياق الاجتماعي السياسي على التفاسير والقراءات والاجتهادات الفقهية أو اللاّهوتية التي لا تعكس بالضرورة المقصد الأساسي لروح النص الدّيني (القرآن)، إنّما تعكس وجهة نظر المؤلف: الفقيه أو المتكلم أو المفسر وطبيعة انتمائه المذهبي. وهكذا كان عبد المجيد الشرفي في ما كتبه من بحوث ودراسات نشرت على الأخص في كتابيه "الإسلام والحداثة" و"لبنات" ناقدا لمختلف مدارس الفكر الإسلامي ساعيا إلى الكشف عن تاريخية شتى القراءات والتأويلات، مستدلاّ على انعكاساتها السلبية التي من أبرزها تعطيل حركة الفكر عن التقدّم، وبالتالي إلحاق شتّى النعوت السّلبية بالإسلام الذّي لا يعارض التقدّم والعلم، إنما الناطقون باسمه غالبا ما يكونون "أعداء للتحديث" ورافضين للانفتاح على كشوفات العلم والمناهج الحديثة، ويمارسون الإقصاء باسم امتلاك الحقيقة النهائية لتفسير النصّ الدّيني. وقد أكّد عبد المجيد الشرفي هذا المنحى في ردّه المشار إليه أعلاه حين قال: "إن في الإسلام ثلاثة مستويات يتعيّن عدم الخلط بينها: الأوّل هو مستوى النّص، والثاني مستوى تأويلات هذا النص التأسيسي الذي هو ركيزة الدين ومرجع وحدته، وتطبيقاته التاريخية، أما الثالث فمستوى الإيمان الشخصي المستعصي على التحديد والحصر والتنميط، (ويوضّح الشرفي قائلا): ونحن لا نهتم في دراستنا إلا بالمستوى الثاني من هذه المستويات (ويعلّل ذلك قائلا) لأنّه (المستوى الثاني) المستوى البشري النّسبي المتعدّد بتعدّد الأمكنة واختلاف الأزمنة والبيئات وغيرها من الظروف والعوامل" ويورد نموذجا لذلك فيقول: ومن أراد التأكد من ذلك فإننا نحيله على مجموعة البحوث التي أشرفنا عليها ونشرت ببيروت (دار الطليعة) تحت عنوان جامع "الإسلام واحدا ومتعدّدا".
وهنا نطرح تساؤلين الأول لماذا كان النموذج الذي استدلّ به الشرفي هو ما أشرف عليه من بحوث، وليس ممّا هو من تآليفه الخاصّة، صحيح أن ما يشرف عليه الشرفي غالبا ما كان صدى لآرائه وتصوّراته للمسائل المدروسة...
الثاني لماذا لم يبادر الشرفي إلى حسم الأمر بخصوص كتابه "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" وهو مدار الإشكال، وموضوع الاعتراض عليه. وقد شمل النقد والاعتراض على هذا الكتاب كل صفحاته بداء من أولها التي تضمنت تنصيصا على الصفة العلمية الشرفي "أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة العربية" وصولا إلى تصنيفه... ووصفه بالكفر والانسلاخ والاندساس مع الاعتراض على موقفه من النبوة ومفهوم ختم النبوة والكتاب والوحي ولغة القرآن وتدوينه وتاريخية التدوين والتأثر بمن تقدّمه ومن تأخره في تناول هذا الموضوع، صحيح أن الشرفي في ردّه تطرّق إلى قراءته بخصوص هذه القضايا والمسائل، لكنه لم يفصّل القول بخصوص قضيّة المنهج المعتمد في كتابه "الإسلام بين الرسالة والتاريخ"، وقد كشف عنه أو عن جانب منه في الصفحات الأولى من هذا الكتاب، بما قد يتعارض في مستوى المعنى الكلّي مع تفصيله المذكور أعلاه، يقول الشرفي: "من هذه الوجهة سنحاول أن نطبّق على الإسلام نتائج البحث الحديث ومناهجه، ونحن واعون بأنه يشترك مع سائر الأديان، وخاصّة مع اليهودية والمسحية في الخضوع للنواميس والسنن العامة التي تطبع الظاهرة الدّينية" انظر كتابه (الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص 13) الكلام صريح بخصوص المسعي إلى تطبيق مناهج البحث الحديث على الإسلام دون تمييز بين المستويات الثلاثة في بنيته كما جاء في الرّد.
لعلّ مثل هذا المنحى في دراسة الإسلام، وحيا ونبوّة وكتابا تصارعت بشأنه القراءات والتأويلات هو الذي أوقع الشرفي في مواقف واستنتاجات كثيرة رآها الطّالبي خروجا عن الإسلام، ودحضا لقداسته وتقويضا له من الدّاخل، إنه رغم تأكيد الشرفي على أن "الإسلام يختصّ...بميزات تجعله غير قابل للذّوبان في أي دين آخر" (المرجع نفسه ص13) ظل أسير منطق المماثلة في استخدام مباحث علم الدّين المقارن والفينيمولوجيا الدّينية La phénoménologie religieuse ويتّضح ذلك بدليل قوله مثلا "... وهو ما يحتّم النظر إلى ظهور الإسلام في بداية القرن السابع الميلادي لا على أساس أنّه امتداد طبيعي للظاهرة الدينية التوحيدية التي عرفتها اليهودية والمسيحية فحسب، بل كذلك وفي الآن نفسه على أنّه تواصل للظّاهرة الدّينية عموما عبر التاريخ البشرى" (المرجع نفسه، ص 26). إنّ منطوق هذا الكلام يناقض وجهة النّظر الإيمانية التي ترى الإسلام/ القرآن كلام الله المنزّل-الذي لم يلحقه التبديل ولا التحريف، به تستقيم عقيدة التّوحيد و"تطمئن القلوب" لا باعتباره مجرّد امتداد لظاهرة الأديان التوحيدية عبر التاريخ، أو جاء في فترة استدعت بروز الإسلام، وظهور النبيّ محمد، يقول الشرفي: "... وبعبارة أخرى، كانت الفترة التّي ظهر فيها الإسلام، فترة تحوّل على مختلف الأصعدة، فترة شبيهة بالفترات التي تستدعي بطبيعتها بروز الأشخاص الذين يحملون أملا رحبا ويفتحون الآفاق المسدودة فكان محمد بن عبد الله هو الذي قام بهذه المهمة" (المرجع نفسه ص 29). ليس من ضرورة إذن لمزيد الخوض في بيان منطلقات مقاربة الشرفي التي انتهت به إلى ما اعتبره الطالبي "كفرا" أو "انسلاخا"، كما ليس من جدوى في التماس المخارج والمعاذير (بلغة علماء الإسلام القدامى من أجدادنا)، أنّ ما يجدر الاهتمام به في تقديري وهو ما يمثّل مدار الاشتراك بيننا جميعا أي ما يتعلق باستخدام مناهج العلوم الإنسانية ومفاهيم المعرفة الحديثة في دراسة الأديان وفق معقولية علمية خالصة، تفترض الإحاطة الدقيقة بالإشكاليات والمزالق التي قد تطرح في مستوى معرفي ابستمولوجي أو عند ما يتعلّق الأمر بالإيمان، وبكلّ ما هو من صميم جوهر المقدّس، والمعتقد الدّيني الحميمي الخاص، بعيدا عن التكفير والرفض أو التمجيد والاعتداد المبالغ فيه بجدوى المنهج. إن ذلك إشكال ابستمولوجي (علمي/معرفي) يتعلّق بمأزق العلوم الإنسانية الحديثة وصلتها بالفلسفة، وبتاريخها الذّاتي، وهو مجال بحث مهمّ لم تنجز بشأنه الدراسات العلمية اللاّزمة في ثقافتنا المعاصرة لدينا، وهذا ما من شأنه أن يوقعنا كل مرّة في مثل هذه الملابسات.
(يتبع)
الهوامش والإحالات
*) الحقيقة والمنهجMéthode Vérité عنوان كتاب للفيلسوف الألماني هانز جورج غادميرH.G.Gadmet رائد نظرية التأويل الفلسفي وصاحب مشروع نقد فلسفي لمناهج العلوم الإنسانية في مقابل الرّهان على القراءات التأويلية في مجال الفلسفة ضمن ما يصطلح عليه ب"فن الفهم"، وقد استعرنا هذا العنوان رغبة منّا في محاولة الفصل بين ما هو ذو ماهيّة وجوهر محدّد وما هو من المنهج الذي قد يوقع في ما يمكن اعتباره خطأ أو مشكلا في الاستخدام.
1- صدر هذا التحقيق ضمن نشريات كتابة الدولة للتربية القومية بتونس، 1959.
2- صلاح الدين المنجّد، مجلة معهد المخطوطات العربية المجلد6، ج 1 و.. ماي نوفمبر 1960.
3- انظر الشيخ محمد المختار السلامي، مجلة "العلم والتعليم"، العدد 11 السنة 1397ه/1977 تونس، ص 10.
4- صدر تحقيق عبد المجيد التركي عن دار الغرب الإسلامي، بيروت.
5- نشر بحوليات الجامعة التونسية.
6- محمد لطفي اليوسفي، القراءة المقاومة وبكاء الحجر، سكربيوس 2002 (صفحة 168).
7- عبد الرحمن حللي، "قراءة في كتاب الإسلام بين الرسالة والتاريخ"، مجلة، الحياة الثقافية، تونس، العدد 129، السنة 26، نوفمبر 2001.
8-محمد الحبيب السلامي، "لماذا اخطأ الأستاذ عبد المجيد الشرفي وأوقع غيره في الخطأ"، مجلة، "حقائق"، تونس، العدد 808.
9- عبد المجيد الشرفي، "حول الآيات، 183-187 من سورة البقرة"، ضمن بحوث مهداة إلى محمد الطالبي في عيد ميلاده السبعين، منشورات كلية الآداب بمنوبة 1993، ونشر ضمن كتاب "لبنات" لنفس المؤلف دار الجنوب للنشر، 1994.
10- عبد المجيد الشرفي، "ردّ الفكر الإسلامي على النصاري"، الدار التونسية للنشر، 1988.
11- صدر عن دار المعارف، سوسة، 2006.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.