كان العرض الختامي، في دورته الثانية الذي احتضنه المتحف الأثري بقرطاج مساء أول أمس بمثابة تأكيد لانعتاق الأغنية البديلة من الاقصاء والتهميش وتحررها من القيود المكبلة لهذا النمط من الموسيقى التي عُرِفت بالتوق للحرية والالتزام بقضايا الانسان والوطن وهموم المواطن أينما كان. لتبدو في كامل تجليات الإبداع والحرية والجمالية لاسيما في حضرة الأعداد الكبيرة من الجماهير التي حضرت هذا العرض وبدت كأنها متشبعة بهذا اللون من الموسيقى الهادفة وعارفة بأدق تفاصيل المشاركين فيه بما في ذلك الأغاني والموسيقى واللباس. وكان لخيار الجهات المشرفة على تنظيم هذا الملتقى الموسيقى الدولي بخلق نواميس وتقاليد خاصة بالمهرجان والمتمثلة أساسا في التخلص من قيد الكراسي والتحرر من شكل التلقي الكلاسيكي لتفتح المجال للحاضرين للتحرك بحرية في الفضاء المخصص للجماهير. وهي من العوامل التي جعلت هذا الملتقى الفني يكون متفردا بجميع المقاييس. وهو ما تجلى في مواصلة الجماهير الحاضرة متابعة العرض الموسيقي والتفاعل معه دون ملل او تعب على امتداد أكثر من ثلاث ساعات دون انقطاع. بديعة بوحريزي و"أوالي" الجزء الأول من السهرة كان بإمضاء المتميزة على الدوام بديعة بوحريزي في الغناء بمرافقة المجموعة الموسيقية التونسية البريطانية العالمية "أوّالي". فغنت للحرية وللوطن وللحب والشباب باللغات العربية والفرنسية والأنقليزية. غنت وتكلمت ورقصت واستفزت "قرائح" الجماهير الحاضرة بأغانيها الهادفة والقضايا الراهنة التي تطرحها وبالإيقاعات الراقصة والموسيقى الحالمة التي رافقتها في أغاني "مرحبا" و"حورية" وغيرها من الأغاني الأخرى في مراوحة فيها بين موسيقى الروك والبلوز والريقي وغيرها من موسيقات العالم. وكان لصوتها المتميز وحضورها الركحي اللافت ونوعية الموسيقى يحسب لبديعة بوحريزي خاصة وللعرض عامة. فكان العرض والمهرجان كما قالت هذه الفنانة، باعتبارها طرف فاعل في تنظيمه والمدبرة لتفاصيله بدعم من المندوبية الجهوية للثقافة بتونس، "... كما الماء يسري على المتاعب" ليكون محطة هامة لعشاق هذا النمط من الموسيقى الهادفة وليكون أيضا محطة تسبق مواعيد المهرجانات الصيفية. لذلك جاءت موسيقى العرض مليئة بانعكاس ظلال الحياة. فكان الإيقاع يهتز ليعكس نبض قلوب متابعيه. كما كان العزف على الأوتار شبيها بالعزف على شرايين الحاضرين بعزف من عمق الحياة. ليصدع صوتها وسط سكون ليلة حالمة في طقوس تأسر السامع وتجعله ينسى الغناء لأن فيه مزيجا من الصراخ والفحيح والطرب. لتحمله في رحلة نحو دواخلنا لإيقاظ البركان الخامد الساكن فينا عسى أن يكون هناك انعتاق يحمل على الرحيل إلى عوالم أخرى بلا قيود. ولم تكتف بالغناء وبمضامين أغانيها بل تعدت ذلك لتشرك الجماهير في مسائل خلافية في تونس اليوم على غرار قضية سجن "ولد الكانز" ليردد معها الحاضرون "الحرية لولد الكانز" في أكثر من مرة. لتؤكد بذلك أن الموسيقى والثقافة تبقى دائما حاملة لهموم الشعوب والطبقات الكادحة والمعبرة عن معاناة المظلومين والتواقين لحياة أفضل وأرقى بعيدا عن زخم المطامع وتشعب الأجندات لأن هوس الابداع والحرية والحلم هو القاسم المشترك في هذا العالم السحري. «تيناريوان» العالمية كان الجزء الثاني من العرض مكملا لجزئه الأول من حيث المراهنة على الأبعاد العالمية في الموسيقى البديلة. وهو الجزء الذي أمنته المجموعة الموسيقية "تيناريوان" من طوارق مالي والقادمة من مهرجان موازين المغربي في دورته الأخيرة. فرغم اعتماد هذه المجموعة الموسيقية العالمية على اللغة الأمازيغية في أغانيها، إلا أنها وجدت الصدى والتجاوب الكبير مع الجماهير الحاضرة التي رددت معها بعض الأغاني ورفعت علم الأمازيغ وقلدتها في اللباس. ولعل ولع عدد كبير من الشباب التونسي والعالمي بهذه المجموعة ونوعية الموسيقى التي تقدمها يعود إلى قِدم هذه المجموعة المعروفة بآداء موسيقى الرحّل أو رحل الصحراء خاصة. فرقص الحاضرون على إيقاعات "روك الصحراء" والبلوز الافريقي في شكله المتطور كما تقدمه "تيناريوان" مستعملة في ذلك آلات موسيقية عصرية. لتغني للحرية والتنقل والترحال دون قيود بما في ذلك من شوق وحنين.