اتخذت إسرائيل منذ نشأتها وآلة الدعاية الصهيونية عبر العالم من مقولة «راحة الديمقراطية في صحراء شاسعة من الدكتاتوريات» العربية المتخلفة أصلا تجاريا أحسنت استغلاله لابتزاز العالم الغربي وكسب ودّه وعطفه بصفتها تمثل هذه الجنة الصغيرة من الحرية واحترام حقوق الإنسان وحاملة لجملة من القيم النبيلة المشتركة مع العالم الحر وصنوها العقلانية والاتزان وسط «الصحراء القاحلة» من الدكتاتوريات المتوحشة التي لا تتورع عن اضطهاد شعوبها وحتى عن تقتيلها من أجل البقاء في الحكم. وقد نجحت في تسويق هذه المقولة طوال عقود طويلة رغم الفظائع التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني. وبانبلاج فجر الثورات العربية ولد «الحلم الديمقراطي» من رحم كان يبدو عاقرا عقيما، فمثّل تهديدا جديا لهذه المقولة، التي مكنتها أي إسرائيل على امتداد عقود طويلة من حماية مصالحها التوسعية الاستيطانية ومن العيش فوق القانون الدولي وحتى من ممارسة ابتزاز رخيص لعديد الديمقراطيات الغربية وفي مقدمتها أمريكا بفضل اللوبيات المتغلغلة في مفاصل مجتمعاتها. وبعد السقوط المدوّي لل»مشروع الحلم الديمقراطي» المصري، وتعثر الانتفاضة السورية وتحوّلها إلى حمّام دم حقيقي ومجزرة فظيعة، والمخاوف التي تخيم على مصير ليبيا، فإن التجربة التونسية غدت تمثل حاليا الأمل الوحيد في تهاوي هذه المقولة حقا وفي أن تمثل بلادنا في يوم ما قاطرة قد تجر وراءها شعوب المنطقة برمتها نحو واحة الديمقراطية التي حرمنا منها طويلا. إن المأزق السياسي الحالي في بلادنا والذي ما كان له أن يقع في فترة بناء ديمقراطي يمثل تهديدا قاتلا لما تبقى من أمل في حصول انتقال ديمقراطي حقيقي سلس في المنطقة العربية وسيمثل ردّة بل رجّة ذات ارتدادات عميقة قد يتجاوز عمقها الزلزالين النفسيين القاتلين اللذين حفرا أخاديد من اليأس والإحباط والحقارة في نفوسنا، أي هزيمة جوان 1967 ثم احتلال العراق في 2003. وإن الطبقة السياسية في بلادنا ومختلف الفاعلين الرئيسيين على الساحة تبدون وللأسف غير مدركين لحجم الرهان ولأبعاده التي تتجاوز رقعة قطرنا فإصرارهم على التمادي في ألاعيبهم السياسوية الصغيرة وحتى الحقيرة يؤكد ذلك بينما مخارج الأزمة الخانقة ليست بالصعوبة التي يتصورونها أو بالأحرى يصورونها لنا. و»التضحيات» المطلوبة من الأطراف الرئيسية الثلاثة في «السيرك» الذي نشاهده حاليا وهي النهضة واتحاد الشغل وقسم كبير من المعارضة واضحة جلية ولا يتطلب الإقدام عليها إلا قدرا أدنى من الحس الوطني واعتبار المصلحة العامة ومستقبل البلاد وأيضا قدرا من الثقة المتبادلة والتخلي عن كل إرادة إقصاء. وهي تتمثل أساسا بالنسبة للنهضة في القبول بصيغة جديدة من التشاركية في الحكم لما تبقى من الفترة الانتقالية التي لن تتجاوز بأية حال بضعة أشهر وأيضا القبول بمراجعة كل التعيينات الأحادية التي قد يكون لها مساس من قريب أو بعيد بالمسار الانتخابي أي بصدقية الانتخابات وشفافيتها. ف»المؤامرة» التي تتهم الآخرين بحبكها ضدها، حبكت مثلها أيضا ضد مدنية الدولة ومثال عيش التونسي. أما بالنسبة لاتحاد الشغل فإن «التضحية» إن صح أن تسمي كذلك المطلوبة منه فهي الالتزام بالتهدئة الاجتماعية التامة وبالتخلي اطلاقا عن المطالبات الاجتماعية ذات الانعكاس المالي في ما تبقى من الفترة الانتقالية. فالدور التي لعبه خلال الفترة الانتقالية ليس فوق الشبهات كما يريد أن يوحي بذلك وإضراب ميناء رادس الذي مثّل ضربة موجعة للاقتصاد الوطني وللمصالح الاستراتيجية للدولة يبرهن على ذلك. أما «المعارضات» فإن دور قسم هام منها كان في جانب منه «هدّاما» وإن المطلوب منها حاليا هو أن تتعلم أن تفرّق في صراعها مع خصمها الأساسي أي النهضة بينه وبين الدولة هذا المكسب المشترك وأن تمتنع مستقبلا عن «تشليكها وإضعافها» عبر تشجيع التعديات المختلفة على القانون بل والدعوة لها أحيانا وعلى المصالح الاستراتيجية للبلاد شركة فسفاط قفصة مثالا وعبر محالات الضغط على القضاء والأمثلة لا تحصى في هذا المجال وهرسلة الأمن. إن القبول ب»خريطة الطريق» هذه، ودون حاجة إلى «المبادرة» تلو الأخرى و»الحوار» تلو الآخر تبدو الوحيدة القادرة على إخراجنا من عنق الزجاجة إذ أنها تضع كل طرف أمام «مسؤولياته» أمام شعبه وأمام التاريخ.