حظيت مسألة الاشهار خلال الفترة الاخيرة باهتمام متزايد من قبل وزارتي التجارة والصناعات التقليدية والصحة العمومية ومنظمة الدفاع عن المستهلك. وفي هذا الصدد كشف السيد عبد اللطيف الصدام رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك مؤخرا أن المنظمة تعمل على إشعار وزارتي الصحة العمومية والتجارة والصناعات التقليدية بضرورة تقنين الاشهار. ونظرا لاهمية هذه المسألة فقد أسالت حبر عدد من المختصين في علم الاجتماع وفي هذا الاطار أطلعنا السيد طارق بالحاج محمد الباحث في علم الاجتماع التربوي عن دراسة علمية أجراها حديثا وهي تتعلق بالاثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية للاشهار على الشباب. ويقول الباحث إن الاشهار "يعتبر آلية من آليات ترويج المنتوجات الاقتصادية وتسويقها لكن الاشهار ليس قضية اقتصادية فحسب بل أن آثاره تتعدى الاقتصاد لتمس مجالات وفضاءات أخرى فهو بقصد أو بغير قصد يؤثر في صياغة المشهد الاعلامي والمشهد الاجتماعي والمشهد الثقافي والمشهد الصحي وهذا ما يجعلنا نقلق على مصير القيم القائمة ومن الواقع الذي سوف ينتجه الاشهار خاصة أنه موجه بشكل أساسي للاطفال والشباب الذين يمثلون نصف المجتمع التونسي ومستقبل هذا المجتمع". وذكر أن الاشهار غيّر حقائق كانت موجودة وأوجد حقائق جديدة.فالانسان اليوم يعيش مرحلة غاية في الاهمية إذ أن الادوات التي أوجدها والعلوم التي اكتشفها في مجال الاتصال والتواصل أصبحت أقوى منه وأصبح عبدا لها. وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة مزعجة ومحيرة وهي عجز الانسان على مواجهة هذا السيل من الاعلانات التي تنهمر عليه من كل الاتجاهات. وعن تأثير الاشهار في الحياة الاجتماعية قال "نلاحظ في العقود الاخيرة اكتساح الاشهار والاعلانات لجل الفضاءات الاجتماعية التي يتحرك فيها الانسان.. إذ نجد الاشهار في الفضاءات الخاصة، على شاشات التلفزيون، وعلى الجدران وفي الجرائد ووسائل النقل وغيرها وهذا ما يجعلنا أحببنا أم كرهنا واقعين تحت سيطرته ولو بدرجات متفاوتة فإذا كان هذا حالنا نحن الكهول , فيمكن أن نجزم أن تأثيره سيكون مضاعفا على الاطفال والشباب لانه يستجيب إلى كثير من احتياجاتهم النفسية ولعل أهمها رغبتهم في التميز وإشباع الشهوات الحسية المباشرة خاصة وأن الطفولة والشباب هما سن الشهوات العارمة بامتياز. وبين أن الاعلام بوسائله المتعددة من صحافة وإذاعة وتلفزيون يؤثر تأثيرا كبيرا في توجيه الرأي العام.. وما حدث الان أن الاشهار اكتسح جميع وسائل الاعلام.. أين المائدة العائلية؟ تحدث الباحث في علم الاجتماع التربوي عن تأثير الاشهار في المشهد الثقافي وقال: "نلمس تأثير الاشهار في المشهد الثقافي في مستويين أولهما مستوى السلوك وثانيهما مستوى القيم الثقافية. فللاشهار على حد تعبيره تأثير مباشر على سلوكنا الغذائي علما وأن الاستهلاك ليس سلوكا غذائيا فقط بل مسألة ثقافية ولهذا نسميه " ثقافة استهلاكية "فنحن لا نستهلك غذاء فقط بل نستهلك رموزا وقيما ثقافية واجتماعية مع الغذاء ونلاحظ ذلك في تراجع دور "المائدة الغذائية العائلية" في منظومتنا التربوية والغذائية.. فالمائدة كما يقول الباحث لم تكن فضاء للاكل والتغذية فقط بل كانت فضاء للحوار وتبادل المستجدات اليومية وتبادل الاحساس بالانتماء والالفة والمودة.. فهي في نهاية الامر فضاء للاتصال والتواصل وتبادل الرسائل الايجابية بين أفراد العائلة. كما أن الوجبة الغذائية لم تكن غذاء فقط بل أيضا فرصة للقاء.. لكن الان ومع اعتمادنا المتزايد على الوجبات المعلبة والسريعة وعزوفنا عن التجمع حول المائدة نتيجة الاشهار أصبحنا نشهد اتجاها متزايدا في التنافر بين أفراد العائلة وضعفا في الرقابة والاحاطة الوالدية تجاه الابناء. أما في مستوى القيم فلاحظ الباحث "التأثير البالغ للاشهار على رموزنا وقيمنا الثقافية نتيجة لتفننه في تنويع الاساليب المرغبة في الاستهلاك مهما كانت هذه الاساليب ومهما كانت آثاره. إذ يتفنن المستشهرون في ابتكار أساليب عديدة لعل من بينها الاعتماد على الصورة الجذابة باعتبارنا في عصر الصورة بامتياز واعتماد الخطاب المغري والمباشر الذي يخاطب الرغبات والشهوات أكثر من العقول والافكار واستعمال الارث الثقافي والادبي والتاريخي وصور الزعماء في عملية الترويج واستعمال المشاهير في مجال الفن والرياضة الذين عادة ما يقبل عليهم الشباب ويحبهم واختيار أوقات الذروة في المشاهدة وخاصة الافلام والمقابلات الرياضية التي يتابعها الشباب على الدوام.. وهذه كلها وسائل لانتاج خطاب متنوع ومتجدد وأفكار مبتكرة لاستهلاك منتوج معين دون احترام مبدإ الجودة من جهة وحتى الثوابت والمقدسات الثقافية والاجتماعية من جهة أخرى". ويضيف: "من أجل الترويج لنوع من المأكولات ذات النوعية العادية أو رديئة يقع أحيانا العبث بصورة الاب والام والمدرسين وتصويرهم بشكل كاركاتوري وذلك لمخاطبة ميولات معينة لدى الاطفال والشباب تتمثل في الثورة على عالم الكبار ومخاطبة غريزة الثورة عندهم.. وهذا كله يمثل خطرا على الرموز والقيم الثقافية لدى الطفل والشباب". الاشهار والصحة أثار الاستاذ طارق بالحاج محمد مسألة أخرى طالما حدثنا عنها المختصون في التغذية لانها تقلقهم وهي تتمثل في تأثير الاشهار على الصحة وفي هذا الصدد يقول الباحث: "يمس الاشهار بشكل مباشر أو غير مباشر بأمننا الصحي والغذائي فالوقوع تحت تأثير وابل الاشهار لمواد غذائية مشكوك في جودتها وفائدتها الصحية واستهلاكها دون تمييز يمكن أن يضع مستقبل مجتمع بأسره في خطر باعتباره يمس شريحة كبيرة من هذا المجتمع وهم الاطفال والشباب ففي ما مضى كانت هناك أمراض مثل "سوء التغذية" و"فقر الدم" ناتجة عن ضعف الدخل وتدني مستوى المعيشة أما الان فقد أصبحت توجد أمراض ناتجة عن عاداتنا الغذائية السيئة فهي أمراض نشتريها بأموالنا وليست ناتجة عن قلة أموالنا. وفي ما مضى كانت أمراض مثل "السكري" و"الكولستيرول"... أمراضا تهم طبقات معينة وأعمارا معينة أما الان فهذه الامراض أصبحت تخص جل الطبقات وتمس جل الاعمار بما في ذلك الاطفال والشباب وكلها لها علاقة عضوية بالاشهار وتغير العادات الغذائية والانسياق وراء الصورة الجذابة والشعار الرنان الذي تطلقه دوائر الاشهار على منتوجاتها. ويخلص الباحث إلى الاشارة إلى الاثار النفسية للاشهار إذ يقوم به خبراء ومختصون ليخاطبوا من خلاله الغرائز والميولات.. ويقول: "إضافة إلى السلع فهو يخاطب أحاسيس.. فباستهلاكنا لاحدث المنتوجات نكون قد أقنعنا أنفسنا أننا ننتمى الى طبقة معينة.. ونجد الان اتجاها متزايدا لدى العائلات ولدى الشباب في الانخراط في الاستهلاك إلى درجة تخل بالاقتصاد. فلم نعد نستثمر أموالنا وطاقاتنا في برامج مستقبلية إستراتيجية بل أصبحنا نستثمر أكثر فأكثر في الاستهلاك اليومي وهذا ما يؤدي إلى كثرة الاقتراض والمديونية لدى العائلات وما ينجر عن ذلك من نتائج اقتصادية واجتماعية وتربوية مقلقة". ويقول الباحث إن الاكتفاء بوصف الاشهار وإدانة آثاره على حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ليس الحل. فمن واجب الاولياء والمربين نشر ثقافة استهلاكية متوازنة خاصة لدى الاطفال والشباب. سعيدة بوهلال