لا شيء يشيرالى أن تونس ستكون محطة ضمن جولة وزير الخارجية الامريكي جون كيري في الشرق الأوسط وشمال افريقيا اذ لم يتضمّن الإعلان عن برنامج الزيارة إشارة في هذا الصدد، ومع ذلك فلا شيء يمكن أن يلغي الإمر والحال أن المغرب والجزائر ستكون ضمن جولة المسؤول الأمريكي الذي بدأ أول أمس جولة مطولة لمدّة أحد عشر يوما انطلقت من العاصمة المصرية القاهرة ومنها الى السعودية وبولونيا الى جانب فلسطينالمحتلة وإسرائيل والأردن والامارات والمغرب والجزائر. جولة تفترض أكثر من قراءة في توقيتها وأهدافها لا سيما فيما يتعلق بالملفات والأزمات العالقة التي تغرق المنطقة يوما بعد يوم في الدماء والصراعات وأسوإ السيناريوهات وكأنه لا مناص لهذه الدول من التوصل الى ما يمكن أن يغيّر المشهد بدون وصاية أو تدخل خارجي. العنوان الأبرز الذي رافق جولة وزير الخارجية الامريكية قبل حتى انطلاقها كان وكالعادة لإعادة دفع عملية السلام في الشرق الأوسط بحثا عن تفعيل حل الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهو العنوان الذي رافق زيارة سلفه هيلاري كلينتون وغيرها أيضا والذي ظل على حاله على مدى العقود الماضية فلا العنوان تغيّر ولا توجّهات الخارجية الامريكية تغيّرت ولا مشروع السلام تقدم في ظل استمرار الاستيطان ومصادرة الأرض وتراجع فرص السلام وانعدام الإرادة الدولية لوضع حد لأسوإ أنواع الاحتلال في عالم اليوم. طبعا نقول أنه من المحتمل أن تكون تونس ضمن جدول زيارة كيري الى المنطقة والحال أن مصر لم تكن بدورها ضمن الدول المعنية بهذه الجولة، وأغلب التوقعات استبعدت زيارة كيري في مثل هذا التوقيت، ومع ذلك فقد اختار كيري ان تكون محطته الثانية في هذه الجولة بالقاهرة ولم يعلن عنها الا عندما حطت طائرته بالمطار، وقد يكون التكتم على هذا الأمر فرضته اعتبارات أمنية ولكن الواقع أن في هذا التصرف ما أعاد الى الاذهان زيارات كبار المسؤولين الأمريكيين الى العراق وأفغانستان والتي كانت تتم بصفة مفاجئة ودون سابق اعلان وكأن الامر يتعلق بولاية أمريكية وليس بدولة ذات سيادة. عموما لئن استمرّت الزيارة بضع ساعات فإنها تعتبر الأولى منذ عزل الرئيس مرسي، وقد فتح توقيتها الأبواب على كل القراءات لا سيما وأنها تأتي عشية انطلاق المحاكمة المثيرة للرئيس المعزول. وحسب ما تم تسريبه عن الزيارة فإن مرسي التقى الرئيس المصري المؤقت ورئيس الحكومة ووزير الخارجية كما التقى السيسي وأيضا ممثلين عن المجتمع المدني، ولكنه، وعلى عكس مبعوثة الاتحاد الأوروبي أشتون، لم يلتق مرسي واتجهت تصريحاته بشأن العلاقات بين مصر وواشنطن الى التهدئة والى تجاوز ما شابها في المدة الأخيرة من اهتزازات رغم أنه لم يشر الى مسألة قطع المساعدات العسكرية عن مصر. وقد اختار كيري بدلا من ذلك توجيه رسائل طمأنة للسلطات المصرية بأن إدارة أوباما على ثقة بأن النظام الحالي في مصر سيوفي بوعده إعادة الديموقراطية الى الحياة... ولم تكن رسالة كيري القادمة من السعودية أكثر وضوحا من سابقاتها وهو الذي شدّد على أن المهمّ أن تظل العلاقات بين واشنطن والرياض على الطريق الصحيح، ولا شك أن الأيام القليلة القادمة ستثبت أبعاد هذا التوجّه اذا ما كتب لمؤتمر جنيف 2 الانعقاد في حينه بعد أن تجاوز النزيف السوري كل حدود الخيال ... اللافت للانتباه في زيارة المسؤول الأمريكي ما يتعلق بزيارة الجارين المغرب والجزائر في هذه المرحلة التي تشهد فيها العلاقات المغربية الجزائرية تصعيدا حقيقيا على خلفية تصريحات الرئيس بوتفليقة عن الحريات والحقوق في منطقة الصحراء الغربية وما اثاره ذلك من غضب من جانب الرباط التي ذهبت الى حدّ استدعاء سفيرها بالجزائر وتعقد المشهد الى حدّ اقتحام القنصلية الجزائرية وإهانة العلم الجزائري بالدار البيضاء، وهي زيارة لا تخلو بدورها من أبعاد أمنية ومصالح استراتيجية على خلفية تفاقم الخطر الإرهابي ل»القاعدة» وما انبثق عنها في المنطقة والدور الجزائري في مكافحة هذه الظاهرة ومنها ربما الى مستقبل الوجود الأمريكي ومستقبل «الافريكوم» في المتوسط . واذا كانت ليبيا خارج إطار جولة كيري فإن ذلك لا يعني أنها خارج اهتمامات الإدارة الامريكية التي لم تكشف بعد كل حقائق وأطوار الهجوم على السفارة الامريكية التي استهدفت السفير الأمريكي وثلاثة من مساعديه أيام هيلاري كلينتون العام الماضي. ومن هذا المنطلق وفي انتظار اتضاح الرؤية وتوفر الإرادة المفقودة وزوال الغموض السائد في المشهد السياسي الراهن في بلادنا والتوصل الى حل بشأن من سيتولى خلافة رئيس الحكومة الحالي فإن زيارة كيري وان كانت غير مؤكدة، سيكون لها مدلولاتها واشاراتها التي تنسحب على مختلف العواصم العربية، وهي أنه وللأسف، قياداتها ستظل دوما في حاجة لمن يتولى تحريكها باللمز أو بالهمز وستظل دوما في حاجة الى نوع من الوصاية المعلنة أو الخفية وإلى حضور سياسة العصا والجزرة لتحكيم لغة المنطق والرضوخ لمبدإ المصلحة الوطنية العليا للانصياع للأمر الواقع وإنقاذ ما يجب إنقاذه. وسواء تمّت زيارة كيري أو لم تتمّ، فإن الحديث عن تدخل خارجي سواء من جانب السفير الأمريكي أو الألماني أو الفرنسي، سيلقي بظلاله على حوارنا الوطني المتعثر بفضل براعة وتفنن النخبة السياسية الحاكمة في البلاد في إضاعة الوقت وتفويت الفرص وإصرارها على قراءة الواقع قراءة معاكسة، وكأنها مصرّة على استجداء القوى الأجنبية للتدخل فيما استعصى عليها مفضلة الوصاية على استقلالية القرار وتجنب محاكمة تاريخية ستأتي حتما ...