وصلنا مقال رأي من القيادي بحزب "نداء تونس" تناول فيه مسألة المساواة بين الجنسين في الميراث التي أثارت جدلا واسعا في مختلف الاوساط منذ خطاب رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي يوم 13 أوت . وفي ما يلي نص المقال عندما أقدم الزعيم الحبيب بورقيبة على فرض منع تعدد الزوجات سنة 1956، هاجت مراكز الافتاء وماجت معترضة عليه في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، فقد اعتبروا أنه تجرّأ على ركن من أركان الدّين وحكم من أحكام الله، لكن الأمر لم يكن سوى فصلا جديدا في المعركة الدائرة بين أهل الرأي وأهل الحديث الدائرة منذ أكثر من 14 قرنا. لسنا اليوم في تونس، بعد ستة عقود من ذلك القرار الاصلاحي الثوري، أقل إيمانا أو إسلاما - أو أكثر- من تلك الدول التي لم تتبنى قرارا مماثلا، بل إن تركيا الكمالية التي كانت أكثر راديكالية في موضوع العلاقة بين الدين والدولة، بأقل إيمانا أو إسلاما، وليس المسلمون الدين يعيشون في الغرب العلماني الصرف بأقل إيمانا أو إسلاما، فالإسلام لا يحتاج برأيي حتى يستقر في قلوب المؤمنين به دولة أو حكومة، وإن كان الإسلام قد منح منذ مرحلته المبكرة مكانة للدولة والحكومة ورأى في ذلك شرطا من شروط الاجتماع البشري السليم. والإسلام في رأيي، ثابت ومتحوّل، ثابت فيما يتصل بالعبادات التي تنظم العلاقة بين الله والإنسان، لأن الله ثابت في ذاته والإنسان كذلك، ومتحوّل في أحكامه المتعلقة بالمعاملات لأن الأمر يتصل بتنظيم علاقة الإنسان بالإنسان، والإنسان في موضوعه متحوّل، زمانا ومكانا، ومن هنا بنيت شريعته المعنية بهذه المعاملات على مقاصد وعلل تنظمها آيات قرآنية غير محكمات تستوجب التأويل الدائم حتى تتحق الغاية منها، وهي مناط الاجتهاد والتجديد الذي جعل أسّاً من أسس الدين. ومن هنا، فإنّه من الغلوِّ المنهي عنه والمحذّر منه قرآنا وحديثا، أن تتمّ المساواة بين العبادات والمعاملات في النظر إلى الأحكام الشرعية، فما يخص الشهادة أو الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج، لا يأتي في مقام واحد مع ما يتصل بأحكام المواريث أو البيع أو الزواج والطلاق أو غيرها مما بناه الشارع على مقاصد شرعية تجعل الثابت فيها الحفاظ على الغاية من تنظيمها لا الوسائل المعتمدة في ذلك أو التفاصيل المعتمدة في زمان النبوة ومكة والمدينة خلال القرن السابع الميلادي. إن المقصد من حكم توريث المرأة الذي أقره الاسلام قبل 14 قرنا، كان إدخال المرأة دائرة التوريث بعد أن كانت قبله محرومة مقصاة، وقد منحت النصف في حالات وأقل أو أكثر من ذلك في حالات أخرى بحسب ظروف المجتمع في ذلك الوقت وطبائع الاقتصاد... الخ، وهو حكم استحثاثي في الزمان، قابل للمراجعة في اتجاه مزيد من المساواة بين الجنسين، تماما كتلك الأحكام والآيات المتعلقة بالرق، والتي اعتمد المقصد منها أيام المشير المصلح أحمد باي الذي ألغى العبودية سنة 1846، ووجد تأييدا من علماء بلاده في حين خالفه وثار عليه علماء المدرسة الحرفية في سائر بلاد العرب والمسلمين. وكان الحكم في الإسلام من تحديد عدد الزوجات الى أربع بعد أن كان مطلقا قبله، هو إعداد المجتمع إلى واحدة حرصا على العدل، وهو كذلك حكم استحثاثي في مسألة تخص المعاملات لا العبادات، مسألة من المسائل التي شكّلت ورشات عمل مفتوحة في التاريخ، توجهها رؤية الاسلام التقدمية المستنيرة المجددة والاجتهادية، فإن لم نحتكم في هذه الورشات إلى روح المقاصد حكمنا على الاسلام بالجمود وبالاصطدام بقطار التاريخ والعصر الذي يترجم إرادة الله في خلقه، ولا يمكن لله أن يجعل شريعته في خلاف مع سننه الكونية، تماما كما لا نعتقد ان الله أنشأ النقل في تناقض مع العقل روحه التي بثها في بني آدم وجعلها أصل تميّزه وتكريمه. علينا أن نفتخر بأنّنا في تونس منارة لتجديد الدين، وأننا تحملنا باستمرار تبعات وتضحيات المجدِّدين، وللمجدّدين عند الله مكانة أرفع وأجر المجتهدين.