عندما يكتب تاريخ الاضطرابات الدامية التي شهدتها أوكرانيا ربما يسجل شاب عمره 26 عاما تعلم المهارات القتالية في صفوف الجيش باعتباره الرجل الذي جعل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش يحزم أمره ويهرب. وتطلق السيارات أبواقها ترحيبا بينما يمد المارة أيديهم لمصافحة فولوديمير باراسيوك ذي الوجه الصبياني الذي يبدو عليه الحرج ما أن يقال له أنه بطل. وهو يحتفظ بهذا اللقب لزملائه ومحتجين آخرين من بين نحو 80 شخصا قتلوا في شوارع العاصمة الاسبوع الماضي خلال ثلاثة أيام من الاشتباكات مع رجال الشرطة. إلا أنه بعد أن وقع زعماء المعارضة اتفاقا بوساطة الاتحاد الاوروبي مع الرئيس يانوكوفيتش لانهاء الصراع كان باراسيوك هو الذي اختطف الميكروفون مساء يوم الجمعة ليقلب المتظاهرين ضد الاتفاق. وبينما كان بطل الملاكمة السابق زعيم المعارضة فيتالي كليتشكو ينظر بوجه جامد الملامح ألقى باراسيوك الوافد من مدينة لفيف الغربية خطابا مرتجلا ألهب المشاعر ندد فيه بالمعارضة "لمصافحة هذا القاتل." وقال إن أحدا لن ينتظر الانتخابات المقررة في وقت لاحق من العام. وقبل صباح اليوم التالي اضطر يانوكوفيتش لمغادرة المدينة خشية مواجهة العواقب. وارتاع زعماء المعارضة من الأحداث المتوالية. فقد مس خطاب باراسيوك الحماسي الذي غلبته فيه انفعالاته عدة مرات وهو يتذكر زملاءه الذين فقدوا أراواحهم وترا حساسا بين الألوف المحتشدين في ساحة الاستقلال فهتفوا موافقين على ما نطق به. وفشلت المعارضة في اقناع الميدان بانجازاتها. والميدان هو الاسم الذي أطلق على الساحة وعلى حركة الاحتجاج. ووئد الاتفاق الذي تم التفاوض عليه بصعوبة مع وزراء خارجية من الاتحاد الاوروبي في ليلة لم تنم فيها الأعين. وقال القائم بأعمال وزير الداخلية إن يانوكوفيتش غادر كييف بطائرة هليكوبتر في تلك الليلة وإنه مازال يوم الثلاثاء هاربا في مكان غير معلوم من أوكرانيا بعد أن أصبح مطلوبا للعدالة بتهمة "القتل الجماعي". وقال باراسيوك لرويترز في مقابلة "قال زعماء المعارضة إنهم اتفقوا على اجراء انتخابات مبكرة في ديسمبر. واستنفد ذلك آخر ما لدى الشعب الاوكراني من الصبر." وأضاف "كانت الانفعالات متدفقة وكنا قد فقدنا عددا كبيرا من الناس. وفجأة يأتي هؤلاء الساسة ويقولون 'يانوكوفيتش سيبقى رئيسا وستجري انتخابات'. أنا موقفي واضح. يانوكوفيتش ارهابي. الارهابي رقم واحد بالنسبة لاوكرانيا." في ليلة الجمعة تلك انطلق بانوكوفيتش بالطائرة الهليكوبتر والسيارة في مسار متعرج عبر شرق أوكرانيا وجنوبها باحثا إما عن ملاذ آمن أو عن طائرة تنقله إلى الخارج. ويعتقد البعض أنه ربما كان قد اتخذ قرار الهرب قبل إسقاط الميدان للاتفاق. ويبدو أن الاتفاق الذي وقعته المعارضة الاوكرانية بفضل تدخل ثلاثة وزراء من ألمانيا وبولونيا وفرنسا كان يلبي الكثير من مطالبها. فقد نص على اجراء انتخابات مبكرة وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية والعودة إلى دستور سابق يسحب من يانوكوفيتش سلطات تتيح له التحكم في اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة وإعادة هذه السلطات للبرلمان. وعلى الفور بدأ التصويت على كثير من هذه الاقتراحات لاقرار قوانين بها في البرلمان الذي كانت قبضة يانوكوفيتش عليه قد بدأت تضعف بفعل انشقاق عدد من النواب عن حزبه. ورأى من شهدوا يانوكوفيتش وهو يوقع الاتفاق وجها جامدا يبدو عليه عدم الرضا للتخلي عما كان بصدد التخلي عنه ومدركا للمخاطر التي يجابهها في التطورات المتلاحقة. وقال أحد شهود مراسم التوقيع "بدا كأنه يدرك أكثر مما يبدي عن المأزق الذي كان فيه. ولم يبد بمظهر من لا يقهر مثلما كان الحال من قبل. لم يبد عليه الذعر لكنه لم يبد واثقا من نفسه." وعندما أخذ قادة المعارضة الاتفاق إلى الميدان طلبا للموافقة الشعبية مساء يوم الجمعة انفجر الامر في وجوههم بفضل الانفعالات المتدفقة في خطاب باراسيوك. كان كليتشكو وقادة آخرون من المعارضة قد تحدثوا بالفعل عن انجازاتهم في التوصل للاتفاق. لكن رد الفعل في الميدان جاء متباينا. وكانت صيحات وصفارات الاستهجان هي النقطة التي انطلق منها لسان باراسيوك. وبينما كانت الجماهير تنقل نعوشا مفتوحة لجثامين الضحايا إلى المسرح حيث يقف قادة المعارضة انطلق باراسيوك إلى الميكروفون بصوت مختنق متقطع. وهدرت أصوات التأييد من الجماهير عندما قال "نحن الناس العاديين نقول للساسة الواقفين خلفنا 'لن يكون يانوكوفيتش رئيسا لعام كامل.. أصاب الرصاص أقاربنا وزعماؤنا يصافحون هذا القاتل. هذا عار. لابد أن يرحل قبل الساعة العاشرة غدا." وفي الواقع رحل يانوكوفيتش قبل ذلك الموعد. فقد قال ارسن أفاكوف القائم بأعمال وزير المالية إنه غادر كييف بطائرة هليكوبتر مساء الجمعة إلى بلدة خاريف الشرقية. ويقول دبلوماسيون على علم ببواطن الأمور إن يانوكوفيتش ربما كانت تراوده الشكوك بالفعل فيما إذا كان الاتفاق سيصمد. واستفاد من تقارير الاستخبارات الواردة من الشوارع فعلم اتجاه الريح. وعقب خطاب باراسيوك غادر المسرح على عجل اثنان من قادة المعارضة هما وزير الاقتصاد السابق ارسني ياتسنيوك وأوليغ تياهنيبوك اليميني المتطرف. وعاد كليتشكو واعتذر لمصافحة يانوكوفيتش. ورغم قرار البرلمان الجديد بعزل الرئيس ظهر يانوكوفيتش في بلدة خاركيف يوم السبت وأصدر بيانا أذاعه التلفزيون قال فيه إنه مازال الرئيس. لكن السلطات الجديدة قالت يوم الاثنين إنه مطلوب للعدالة بتهمة "القتل الجماعي". وذكرت بعض التقارير أنه يختبيء في دير بمدينة دونتسك رغم أن مراسلي رويترز لم يشاهدوا يوم الاثنين أي علامة على نشاط غير عادي هناك. وربما كان في القرم. ويقول البعض إنه ربما كان على سفينة روسية نظرا لان روسيا تملك اسطولا في البحر الاسود ولها قاعدة في سيفاستوبول. وقال دبلوماسي إنه لو لم يخطف باراسيوك الميكروفون لفعلها شخص غيره. يعود باراسيوك الذي كان يرأس وحدة دفاع عن النفس مؤلفة مما بين 40 و130 مقاتلا بذاكرته إلى ليلة الجمعة ويدافع عن الانتقادات اللاذعة التي وجهها إلى كليتشكو وزعماء المعارضة الآخرين. وقال في مقابلة بمطعم في وسط كييف "كل ما تحقق حققه الناس في الميدان. لكنهم لم يحققوا شيئا." وقال باراسيوك وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة آسرة بينما كانت صديقته ايرينا تجلس بجواره إنه شارك مشاركة نشطة في الاشتباكات مع الشرطة رغم أنه امتنع عن الحديث عما إذا كان قد استخدم أسلحة. ودافع عن قوة الميدان بشغف أحد أبطال الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. وسئل متى يتم إزالة الحواجز في كييف فقال "إذا تفرق من في الميدان فسيتوقف الساسة عن الخوف. لن نرحل. ولن نسمح بتكرار ما حدث في 2004." كانت تلك إشارة منه إلى الثورة البرتقالية عامي 2004 و2005 التي أوقفت محاولة يانوكوفيتش الاولى لتولي الرئاسة لكنها جلبت حكومات انهارت وسط خلافات داخلية وسمحت له بالعودة للسلطة عام 2010. وأطلق باراسيوك رسالة ربما يتعين على القيادة الجديدة لاوكرانيا أن تحرص على العمل بها وهي تكافح للعبور بالبلاد بسلام خلال الفترة الانتقالية. وقال إن على السلطات الجديدة أن تفهم أن الميدان هو القوة الحقيقية وليس نواب البرلمان. وأضاف "ما أعلنته من على المسرح كان له هدف واحد وهو ان نقول للمعارضة 'تفهموا ذلك أنكم إذا لم تحققوا شروطنا فستؤول الأمور إلى ما نقرره نحن وليس ما تقررونه أنتم'. "قلنا لهم ببساطة: يا أولاد تصرفوا بحسم لأننا سنفعل ذلك إذا لم تفعلوه أنتم." (رويترز)