نذكر جيدا أنه عندما وصل ترامب الى البيت الأبيض بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية أمام منافسته هيلاري كلينتون انتشرت الاحتجاجات في عديد المدن الأمريكية رافضة له ، وهو ما لم يحصل من قبل مع أي رئيس سابق لأمريكا. هذا الرفض كانت له أسباب كثيرة ، منها التشكيك في نزاهة ترامب وفريقه في حملته الانتخابية وهو ما تفجر بعد ذلك ، ثم معرفة الأمريكان بطبيعة شخصية هذا الرجل الذي يخلط بين كونه رئيسا لأكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم وبين رجل أعمال شعاره الوحيد هو الربح وعقد الصفقات . بل أكثر من هذا ، فلأول مرة في أمريكا ينشر كتابان عن رئيس وهو في البيت الأبيض الأول "النار والغضب" والثاني "المعتوه"، مع العلم أن الكتاب الثاني ألفته موظفة سابقة في البيت الأبيض وقع عزلها بسبب آرائها من ترامب أو بالأصح لأنها كشفت الحقائق عما قالت أنه عنصريته وتصرفاته الغريبة وهو سيد البيت الأبيض. كل هذا مؤشرات يمكن تجاوزها واعتبارها شأن أمريكي داخلي، لكن المسألة تجاوزت هذا بكثير، فأمريكا تحكم من رئيس "تويتري" كما صار يوصف يتحدث عن مسائل تتعلق بالأمن القومي لأمريكا في هذا الموقع للتواصل الاجتماعي ولا يتورع عن نشر تغريدات تحرج أعضاء فريقه بما فيهم وزراء كثيرا ما كانوا يجدون أنفسهم في وضعية محرجة وصعبة للغاية بسبب رئيس يكشف أسرار ملفات خطيرة في تدوينة على تويتر . ما نريد أن نحيل عليه هنا هو: هل السياسة التي يتبعها ترامب والتي لم ير مثلها حتى في فترة حكم بوش الابن هي سياسة صناع القرار في أمريكا أم أنه يهمش الجميع ويتصرف في البيت الأبيض وفي ملفات تتعلق بأمن واستراتيجية الولاياتالمتحدة كونها صفقات يعقدها في احدى شركاته ؟ الغريب أن سياسة ترامب لا تبعد كثيرا عن هذا، فهو مثلا يحرج حلفاءه القدامى بمواقف وتصريحات كان من الممكن قولها في الكواليس على غرار استنزافه للسعودية وقوله أن أمريكا تحمي هذه الدول وتحارب بدلا عنها وعليهم أن يدفعوا . الأمر هنا لم يبق مجرد كلام وتصريحات بل تحول الى استنزاف بأتم معنى الكلمة ، أي رئيس دولة كبرى لها ثقلها وتأثيرها وتوازنات تراعى في العلاقات الخارجية لا يتورع عن التهديد والوعيد وطلب مئات المليارات . الأمر لم يقف هنا فتصرفات ترامب الغريبة توجهت حتى الى الأممالمتحدة التي هدد بتقليص الدعم الأمريكي الموجه لها ليصل به الأمر أن يتهكم على حلف شمال الأطلسي ويتعامل معه وكأنه في خدمة أمريكا . بل حتى الحلفاء الاستراتيجيين لم يسلموا من تصرفاته ، حيث انتقلت عدوى معاركه والأزمات التي يصنعها الى الاتحاد الاوروبي ، وأيضا لم يتوقف هنا بل أطلق حربا تجارية ضد الصين ثم وبجرة قلم ألغى الاتفاق النووي مع ايران ليخلق أزمة كبيرة لا مع خصمه الايراني فقط بل ومع شركائه الأوروبيين. أخر طلعات ترامب قرار مفاجئ بسحب القوات من سوريا والمشكل ليس في الاجراء في حد ذاته بل نحن نقيسة بالمقياس الامريكي. هنا علينا ان نتساءل: هل أن تصرفات ترامب تعكس توجهات صناع القرار الأمريكي؟ علينا أن نعلم هنا أن الولاياتالمتحدة لا يسيرها شخص بمفرده حتى وان كان الرئيس وحتى ان قبل و بارك بعض المسؤولين تصرفاته واجراءاته التي تكون في أحيان كثيرة غريبة فان الثابت أن هناك أزمة حقيقية داخل أمريكا وهي أن هناك صراعا خفيا بين الرئيس ومساعديه في البيت الأبيض والمؤسسات الأمريكية ، فالرئيس اليوم بات ينسف ويدمر سياسة أمريكية بنيت في عقود طويلة ، تقوم على مراعاة التوازنات الدولية والحفاظ على الحلفاء الاستراتيجيين خاصة في المناطق الحيوية بما فيها الشرق الأوسط ، وما حصل من خلق "حرب " اقتصادية ضد أهم حلفائه وأقواهم تأثيرا وثقلا في المنطقة ونقصد تركيا ثم توجيه اهانات لحليف آخر قوي وهو السعودية سيجعل الولاياتالمتحدة تخسر كل ما ربحته عبر عقود طويلة ان لم يتم تعديل البوصلة والضغط على هذا الرئيس ليدرك كونه لا يهدد مصالح تلك الدولة التي يستهدفها فقط بل ومصالح الولاياتالمتحدة نفسها. لذلك فالسؤال المهم حاليا هو : هل مازال صناع القرار في أمريكا قادرين على تحمل جنون ترامب وتهديده لما بنته الولاياتالمتحدة في العالم في عقود أم أنهم سيتحركون للجمه؟ ما يحصل من حملة في الكونغرس ضده عقب عملية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي هي الذريعة التي بحث عنها صناع القرار للجم الرئيس "المجنون" وهي صفة أطلقها عنه محللون أمريكان وليست من عندنا والأمر لن يقف هنا بل له تبعات ستتجاوز قضية خاشقجي التي كانت وسيلة للإلهاء عن ملف التدخل الروسي في الانتخابات والتي ستعود بقوة بعد فترة.