إبّان انهيار الاتحاد السوفياتي وخضوع السياسة والقانون الدّوليّين لإرادة ومزاج ومصالح القطب الأمريكيّ الواحد الأحد وإمعان واشنطن بتواطؤ حلفائها الغربيين في تطبيق قانون الغاب عبْرَ العالم ، صَدَرَ قرار الأممالمتحدة رقم 661يوم06/08/1990لإجبار القيادة العراقيّة آنذاك على الانسحاب من الكويت ، ونصَّ القرار على عقوبات اقتصاديّة خانقة ، لم تُرفَع بَعْدَ خروج الجيش العراقي من الكويت بل أضيفت إليها عقوبات شاملة أشدّ وَطأة بذرائع اعترف المسؤولون الأمريكيون والبريطانيّون لاحقا بأنّها كانت مفبركة وزائفة وكاذبة ، لكنّها مع ذلك اعتُمِدَتْ لكي تستمرّ العقوباتُ الدّوليّة ثلاث عشرة سنة حُرِمَ الشعبُ العراقي خِلالها مِن الغذاء والدواء وجميع مُتَطَلَّبات الحياة اليوميّة الأساسيّة ناهيك عن وسائل التقدّم والتكنولوجيا ، وأودى هذا الحصار الدّولي بما تضمّنه مِن عقوباتٍ اقتصاديّة إلى وفاة مليون ونصف المليون طفل إضافة إلى مئات الآلاف من النساء والشيوخ ، بدون أن نعدّ ضحايا الاعتداءات العسكريّة الأمريكيّة المتواصلة منذ حَرب "حَفْر الباطن" مُرورا بثعلب الصحراء وغيرها وصولا إلى احتلال العراق سنة 2003. وهذه الحماسة الأمريكيّة بالتأكيد لم تصدر عن حرْصٍ على سيادة الكويت التي انتهكها نظام الرئيس صدّام حسين ولا على تنفيذ القانون الدّولي ، وإلّا ما كانت واشنطن ذاتها تتصدّر الغرْب في الحُؤول بقوّة حاسمة دون تنفيذ القرارات الدوليّة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي ولصالح حقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس على التراب الوطني الفلسطيني وفي حدود 04/06/1967. قَبْلَ ذلك وبموازاته وَبَعدَه لم تتوقّف الإدارات الأمريكيّة عن فرْض العقوبات الاقتصاديّة ضدّ الدّوَل التي ترفض حكوماتها الخضوع للسياسات والمصالح الأمريكيّة التي تتعارض مع المصالح الوطنيّة لتلك الدّول. وإذا كانت واشنطن قد بالغت بوحشيّة مُطْلَقة في التمثيل بالشعب العراقي متكئة إلى القانون الأممي رقم 661، فإنّها غَزَت العراق واحتلّته بدون غطاء سياسي أو غطاء قانوني دولي مُحافظةً على تلكَ الدرجة القصوى مِن الوحشيّة في التعامل مع العراقيين تحت الاحتلال . وعلى الرّغم مِن ملامسةِ سمعتها قاع الحضيض واعتماد الرئيس أوباما حملة علاقات عامّة بائسة لتحسين سمعة بلاده ، إلّا أنّ واشنطن عادت إلى سياساتها العدوانيّة ضدّ البشريّة المعاصرة مستخدمة السلاح الفتّاك ذاته : العقوبات الاقتصاديّة ، جارّةً خلفَها للمشاركة في ارتكاب هذه الجرائم حلفاءها وأتباعها شَرقاً وَغرباً ، جَنوباً وَشمالاً. والمُفارَقة أنَّ واشنطن غالباً ما ترتكب جرائمها ضدّ الشُّعُوب تحتَ شِعار تصدير الديمقراطيّة إليها غَيْرَ آبِهَةٍباحتجاجات شُعُوب العالم في شوارع عواصم ومدن الكوكب كافّة بما فيها شوارع المدن الأوربيّة والأمريكيّة ضدّ السياسات الأمريكيّة وضدّ ما يمكنني تسميته الديمقراطيّة القاتلة التي باتت عنوان تلك السياسات. وَبَعْدَ صُعود موسكو سياسيّاً وعسكريّاً واستعادتها المكانة التي كانت لها في الزمن السوفياتي على الساحة الدولية ، وَبَعْدَ التفوّق الذي أحرزته الصّين على الولاياتالمتحدة نفسها اقتصاديّاً فباتت بكّين الأولى عالميّاً في هذا المجال مزيحَةً واشنطن عن هذه المرتبة لأوّل مرّة منذ سبعة عقود تقريبا. بَعْدَ صعود هاتين القوّتين العظميين ومعهما الهند وجنوب أفريقيا وإيران وفقدان الولاياتالمتحدة واقعيّاً سيطرتها المُطْلَقة على السياسة والقانون الدوليين وبالتالي عَدَم التّحَكُّم بقرارات مجلس الأمن كما كانت تفعل وتفرض على الإنسانيّة أن تدفع ضريبة ذلك التّحكُّم دما وموتا ومرضا وجهلا ودمارا كما حصلَ في العراق وليبيا تمثيلاً لا حَصْراً ، ولكنّ واشنطن ترفض الاستسلام أو الاعتراف بهذا الواقع الجديد على الرغم مِن أنّ هذه القوى الجديدة ما فتئت تلوي عصا الغطرسة والهيمنة في يد أمريكا وَأحياناً تفتكّ تلك العصا وَتهوي بها على مؤخّرة واشنطن. ولذلك تُكابر الإدارة الأمريكيّة الجديدة وَترفَع سلاحَ العقوبات الاقتصاديّة ليس فقط ضدَّ الدول الصغيرة نسبيّاً ككوباوسورياوإيران ، بل وأيضاً ضدَّ مُنافِسَتَيْهَا على إدارة السياسة الدولية :روسيا والصّين. وعلى العكسِ مِن سياسة الدولة العراقيّة بدءاً مِن أواخر سبعينات القرن الماضي التي أغرقَها تورُّطُها في حرب الثماني سنوات مع إيران في ديونٍ خارجيّة ، خاصّةً لصالح دول الخليج التي كانت تنفخ على جمار تلك الحرب ، والتي اعتَمَدَت اقتصاديّاً على الرّيعِ النّفطي فأهملت بلاد ما بين النّهرين الجانب الزراعي في بناء اقتصادها الأمْر الذي افتقدَتْه بِحِدّة لحظة الحصار الشامِل الجائر، فإنَّ سوريا منذ تواتُر العقوباتُ الاقتصاديّة الأمريكيّة عليها بَدْءاً مِن سنة 1973وصولا إلى ما تتناقله وسائلُ الإعلام مِن عقوبات اقتصاديّة على سوريا بالتوازي مع الحرب الإرهابيّة التي يشنّها على الشعب السوري وجيشه ودولته الوطنيّة أمريكا وأدواتها من حلفائها الأوربيين وأتباعها الخليجيين والأتراك والإخوان المسلمين والوهابيين، على الرغم مِن ذلك تمكّنت سوريا حتى آذار 2011من الصمود في وجه ذلك الحصار باعتماد سياسة الاكتفاء الذاتي باقتصاد ينتج به مجتمع الدولة الوطنيّة ما يستهلكه خاصّة على مستوى الغذاء والدّواء والكساء ، وربّما يُفَسِّرُ ذلكَ حقدَ المُعتدين وعملائهم على وسائل الانتاج الوطنيّة السوريّة الصناعيّة والزراعيّة عندما فككت مصانعَ حلب وباعتها في أسواق السمسار الإخونجي رجب أردوغان ، وتحرق الآن حقول قمح الجزيرة السوريّة إلخ. وفي كوبا الصامدة على خاصرة الإمبرياليّة الأمريكيّة قاوَمَ الشعبُ الكوبي الحصارَ الأمريكي الشّرس والمتواصل لعقود بالتماسُك الوطني اقتصاديّاً اعتماداً في الأساس على الثّروة البشريّة التي جرى تأهيلها بالتعليم وتطوير العلوم فأمّنت لدول أمريكا اللاتينيّة جيشاً مِن الأطبّاء إضافة إلى ثروات الأرض كالتبغ وقصب السكّر والصناعات القائمة على هذين المنتجين ، تبادلها بحاجات الشعب الكوبي الأساسيّة ، وتكبح الوباء الاستهلاكيّ الذي تُسَوِّقه الدوائر الغربيّة الإمبرياليّة بالوعي الوطنيّ الذي يكتسبه الشعب مِن ثقافته الاشتراكيّة المناهضة للرأسماليّة خاصّة عندما تكون في أعلى مراحلها المتوحِّشَة. الأمْرُ ذاته يحدث الآن في إيران التي خَرَجَتْ مِن هزيمتها أمام العراق "المدعوم"(دَعْماً مُفَخَّخاً كما تَبَيَّنَ لاحِقاً) من الكيانات الخليجيّة ماليّاً ومِن الغرب الأوربي والأمريكي تقنيّاً ، خَرَجَتْ لتنكَفِئ على ذاتها انكفاءً إيجابيّاً مُنتِجاً يُحَقَّقُ لها الاكتفاءَ الذاتي في جميع المجالات الغذائية والصحيّة والدّفاعيّة إلخ. ولاشكَّ أنَّ فَرْضَ عقوبات اقتصاديّة أمريكيّة أو أوربيّة على دولةٍ كُبرى كروسيا قد يترك آثاراً سلبيّة على قطاع المال الروسي ، لكنّ دولةً قويّة كروسيا ستجعل مِن هذا الأمر الضارّ أمراً نافِعاً عندما يُصبحُ حافِزاً لتعزيز الاقتصاد الوطني الرّوسي برفع الإنتاج وربّما مضاعفته مِن جِهة والبحث عن أسواق بديلة مِن جِهَةٍ أخرى. لكنّ الأكثر تضرّراً في مهزلة فرض العقوبات الاقتصاديّة الأوربيّة على روسيا بذريعة استخدام السلطات الروسيّة أسلحة كيميائيّة في مدينة سالزبوري البريطانيّة كانت الشركات الأوربيّة في قطاع إنتاج المواد الغذائيّة والمنتجات الفلاحيّة ومشتقات الألبان التي خسرت السوقَ الروسية الكبيرة ، والكارثة تجلّت أكثر وأخذت أبعاداً دراميّة عند مزارعيّ فرنسا وألمانيا وإسبانيا وهنغاريا وبولونيا وهولندا الذين كسدت فواكههم وخضارهم فأتلفوا معظمها ممّا دَفَع كثيرين منهم إلى الانتحار تحت وطأة عجزهم عن القروض التي باتوا عاجزين عن تسديدها للبنوك بسبب التزام دولهم سياسات العقوبات الاقتصاديّة ضدّ روسيا . والأمر ذاته تقريبا بخصوص الصين القادرة بدورها على ردّ الصاع صاعين لسياسة العقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة التي تستخدمها واشنطن سلاحاً ذا حدّين في صراعها مع روسيا والصّين لأجل الهَيْمَنَةِ على السّوق العالميّة . فَبَعْدَ أن جُرِّدَتْ واشنطن مِن استخدام مجلس الأمن لفرْضِ قرارات تُعَزِّزُ وتؤكِّدُ هَيمنتَها على العالم وتفرض بهذه الهيمنَة السياسيّة وبالقوَّة العسكريّة مصالحها الاقتصاديّة عبْرَ أسواق العالم المختلفة تلجأ الآنَ إلى فَرْض العقوبات الاقتصاديّة على مَن لا ينضبِط لسياساتها ومصالحها وَإنْ لم تكن العقوبات الاقتصاديّة كافية لإخضاع الدولة أو الجِّهَة المُسْتَهدفة تُوَجَّه جَيشها للوصول إلى الهدَف الذي عجزَتْ العقوبات الاقتصاديّة عن الوصول إليه. فما لم يتمكّن التجويع مِن قَتْلَه يُوكَلُ أمر قَتْلِهِ إلى الرّصاص. ولكن كما أَشَرْنا ثَمَّتَ جانبٌ نافِع مِن هذه العقوبات الضارّة وهو أنّها تَدْفَع المتضرّرين مِن سياسة العقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة إلى الاصطفاف خلف روسيا والصّين وإلى جانب إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وسوريا وغيرها في مواجَهَةِ التّوَحُّش النيوليبرالي بقيادةِ دونالد ترامب الذي باستخدامه المُفْرِط إلى حدّ الهَوس والجنون سلاحَ العقوبات الاقتصاديّة القاتل للرامي وللهَدَف مَعاً ، لم يَدُس (أي ترامب)بعنجهيّة على مبادئ الديمقراطيّة الاقتصاديّة فَحَسْب إنّما وَسَّعَ مِن جبهةِ المُتَضَرِّرين مِن هذه السياسة حتى داخل الولاياتالمتحدة والدول الأربيّة أيضاً ، مِمّا يجعل شِعار "يا ضحايا العقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة اتَّحِدُوا" ذا صَدى لافِت.َ