استوقفني تصريح مدير مهرجان قرطاج الدولي السيد مختار الرصاع في الندوة الصحفية التي أقيمت منذ أيام قليلة بمدينة الثقافة بالعاصمة لتقديم البرمجة الفنية لهذا العام عندما تناول برمجة حفل إضافي للفنانة لطيفة العرفاوي قوله : إن الفنانة لطيقة العرفاوي لم تكن مدرجة ضمن الفنانين الذين سوف يؤثثون برنامج الدورة غير أن استضافتها على مسرح قرطاج هذه السنة هو مجرد " مخذان بالخاطر " في إشارة إلى الضغوطات التي قد تكون مورست عليه من طرف جهات نافذة لفرض إسمها أو لتدخلات قد حصلت لفرض أسماء بعينها. كما استوقفتني الميزانية الضخمة التي تم رصدها للدورة 55 من مهرجان قرطاج الدولي لهذا العام والتي جاءت في حدود 5 مليون دينار ونصف وهو مبلغ مرتفع جدا في ظرف تعرف فيه البلاد صعوبات مالية كبيرة وتعرف فيه ميزانية الدولة اكراهات متعددة جراء تزايد نفقاتها العمومية وبسبب غلاء المعيشة وتزايد طلبات الشعب الذي لم تعد غالبيته قادرة على مسايرة لهيب ارتفاع الأسعار مع عجز المقدرة الشرائية على الصمود لأكثر من عشرين يوما في الشهر . كما لفت انتباهي قول مختار الرصاع في نفس الندوة الصحفية التي أشرنا إليها من أن مهرجان قرطاج هو تظاهرة تبقى بالأساس ترفيهية وللتسلية وهو ما يبحث عنه الجمهور التونسي لذلك استجاب المهرجان في برمجته إلى هذا الطلب الشعبي فتمت برمجة عروض فنية تطلبت إنفاق أموال طائلة على أمل أن يجني المهرجان من ورائها مرابيح في حدود مليارين. كما استوقفتني تصريحات بعض المختصين في النقد الفني والمتابعين لشأن المهرجانات وذلك بعد أن أعلنت كل المهرجانات التي ستقام هذه الصائفة عن برنامج عروضها من أن الملاحظة العامة هي أن جل المهرجانات تعيد نفسها وتستنسخ عروض بعضها وقد حافظت على نفس الصورة النمطية للمشهد الفني للعروض وللتصور والبرمجة التي كانت موجودة قبل الثورة بما يعني أن كل المهرجانات التونسية التي ستقام في هذه الصائفة هي نفسها التي كانت تقام قبل الثورة أي أن هذه الأنشطة الفنية قد حافظت على نفس التصور ونفس الفكرة ونفس التمشي القديم وكأن لا شيء قد حصل في تونس وكأن البلاد لم تعرف قيام ثورة ضد كل المنظومة القديمة بما في ذلك المنظومة الثقافية وكل النسق الذي كان يحكم البلاد وضد كل الفكر النمطي الذي يكرر نفسه باستمرار والذي استعمله النظام القديم لتوجيه الشعب والسيطرة عليه وقيادته من خلال توظيف الفن واستعمال الثقافة والإبداع لضبط المجتمع و التحكم في أفراده . بما يعني أن القائمين اليوم على إدارة هذه المهرجانات وعلى إعداد برمجتها الفنية قد حافظوا على نفس الخط القديم ونفس التمشي ونفس التصور ولم يجرؤوا على ادخال تغييرات وتعديلات جديدة تواكب ما حصل في البلاد من ثورة على السائد وعلى القديم وحافظوا على الإطار وعلى النمط فجاءت البرمجة الصيفية لهذه المهرجانات التي رصدت لها ميزانيات معتبرة كان من الأولى أن تذهب إلى أوليات أخرى طالما وأن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها هذه العروض هي الترفيه وتلبية احتياجات الجمهور من التسلية و الذي نبيع له مشهدا فنيا منمطا ومعادا ومستنسخا بتذاكر دخول باهظة تخصص لها الدولة أموالا طائلة من ميزانيتها لجلب فنانين يحصلون على اجورهم بالعملة الصعبة . إن ما لم يفهمه القائمون على هذه المهرجانات وجلهم من المنظومة القديمة ومن الذين لا تعنيهم في شيء مبادئ و الثورة وقيمها و أفكارها أن للفن رسالة نبيلة وأن الثقافة لا تمارس من أجل الفعل الثقافي لا غير وإنما الفن بمقدوره أن يغير الواقع كما أن الثقافة يمكن لها الارتقاء بالذائقة الفنية وإنتاج الوعي المطلوب الذي يواكب الواقع الجديد وأنه من الممكن أن نعد برمجة فنية تجمع بين الابداع والترفيه وأنه من الممكن كذلك أن نحقق المعادلة المطلوبة بين الارتقاء بالذائقة الفنية للشعب من خلال برمجة عروض فنية مختلفة تحقق الوعي وفي نفس الوقت نلبي رغبة الناس في الترفيه من دون تهريج ولا استبلاه للعقول أو تخديرها ومن دون تلهية ولا إلهاء للشعب عن قضاياه المصيرية بنوعية من الفن مستواه ضعيف. فما كان منقوصا في هذه الدورة وكل الدورات التي حصلت بعد الثورة هو التصور الجديد والفكرة البديلة والرؤية الثقافية المختلفة التي تقوم على الاجتهاد والتجديد والقطع مع المشهد النمطي الذي ساد لعقود طويلة .. ما كان منقوصا هو تغيير النظرة لهذه المهرجانات التي ليست كما يقول مختار الرصاع هي عروض فنية للتسلية والترفيه وإنما في الحقيقة هذه المهرجانات هي فرصة ومناسبة تتاح للجمهور من أجل اكتشاف فن جديد وغناء مختلف وإبداع غير معروف فيه تعبير وتصوير عن واقع الناس وقضاياهم الحقيقية يتم التعبير عنها بأنماط فينة وأشكال من الغناء والموسيقى الراقية التي تصقل الذائقة الفنية وتنقي ما تعرضت له من تلوث سمعي وبصري وذهني وتلوث فني بفعل نوعية من الموسيقى والغناء والثقافة فرضت على الناس في إطار استراتيجية باتت مفضوحة لإلهاء الشعب وتلهيته وإبعاده عن الفن الاصيل والإبداع الحقيقي والموسيقى الراقية، الجملة التي تزيد من إنسانية الإنسان وترتقي بذائفته الفنية نحو فضاءات وأفق أخرى .. غير أن المشكل الذي يحول دون تحقيق الثورة الفنية الغائبة وقيام الثورة الثقافية المنسية هو أنه لا يمكن بنفس الوجوه القديمة التي استعملها نظام بن علي في الميدان الثقافي ولا يمكن بنفس الرموز التي خدمت النظام القديم وتربت على أفكاره أن تغير من واقع الثقافة في تونس وأن تقدم تصورا جديدا للمهرجانات الصيفية تقطع مع الأساليب القديمة في اعداد البرمجة الصيفية فهؤلاء الماسكون اليوم بدواليب الثقافة همهم الوحيد هو المواصلة في نفس العقيدة من إلهاء الناس و تزييف ترفيهم وتسليتهم بعروض مستهلكة ومستنسخة ومعادة تزيد من تبليد الذهن وتكليس الفكر وتتفيه الثقافة بغاية جني مداخيل طائلة من وراء هذه العروض لا غير.