أنت تونسي وتعيش جيل شباب الثورة ورائدها، أنت إذن جزء من الثورة الثقافية وفي خدمتها قبل أن تكون من هذا الحزب أو ذاك. أنا لا أدعوك إلى الانفكاك عن حزبك، ولا أن تكون من دعاة تهشيم فسيفساء الأحزاب بالرغم من أن الثورة التي نتنفسها كلنا الآن في وطننا لم يقم بها حزب ولا منظمة ولا جمعيات مدنية ولا قائد على دبابة ولم تأت من الخارج، وإنما هي سليلة ثقافتنا الأم التي نحن من كيانها وفي قلبها، أدعوك فقط أن تتصرف أينما كان موقعك بما يتجانس مع ثقافتنا الأساسية التي أركانها الكرامة والمحبة بين الجميع والأمن والرخاء للجميع، هذه القيم التي تبرز اليوم وستبقى معبّرة عن ضميرنا الثقافي، وستظل النبض الدائم لثورة ثقافية عارمة تنشر من القيم الإنسانية والسياسية ما يرقى بتونس إلى مستوى الريادة على المستويات الإقليمية والعالمية باعتبارها أول ثورة ثقافية تغمر العقلية الإسلامية العربية لتستيقظ وتتفتح وهي التي أصيبت بالتحجر والاحتقان ما أن شرع المسلمون منذ وفاة الرسول (ص) في التقاتل بين المؤمنين من أجل أن يفوز هذا أو ذاك بالسلطة ويحتكرها. الأحزاب بصورها القديمة والسابقة والأسبق قد جعلت السلطة في بلادنا كما في بلاد العرب جميعهم على مدى الأحقاب والدهور صراعا على المناصب والمغانم، وقلبت المفاهيم الثقافية فجعلت الخلاف في مضمونه على مَن يحكم وليس على كيف يحكم، وأحالت الممارسة السياسية إلى تسلط ثم استبداد ثم إلى جحيم من الشجار السياسي المزمن التافه حيث المضمون فارغ من القيم الأخلاقية والإنسانية، مضمون فيه من التكالب على المنافع ما أدى إلى العبث بحظوظ الدولة ومؤسساتها وإلى صنوف من الكيدية الشخصية بمختلف درجاتها من الاعتداء على الحقوق إلى السجن الاعتباطي إلى الإعدام المبيّت. مفهوم الأحزاب نفسه جعل ينقلب من كون الأحزاب مجال فسيح للتنوع الفكري الخلاق من أجل التقدم في تنمية الحرية والحوار الديموقراطي الحضاري الملتزم بالقيم الإنسانية واحترام أولويات بناء الدولة، إلى تسابق محموم على نيل أصوات الجماهير من أجل الاستئثار بالسلطة وأقل من ذلك من أجل خدمة الجماهير، حتى أن تسعة أعشار الشعارات التي تُرفع في الحملات الانتخابية – إن كانت هناك انتخابات نزيهة- سرعان ما يأتي ما يعاكسها تطبيقيا بعد الظفر بآلة السلطة لفرض النوايا المخفية لمضمون "فلسفة" الحزب الفائز أو الأحزاب المتحالفة معه بحكم تقارب الاتجاهات، كأنما الفوز بآلة الحكم باب للانفلات السياسي واستباحة استقلال السلط الدستورية. هذه الأنماط من الانفلات السياسي الذي تضخم ليصبح حكما مطلقا مستبدا قد عانت منها بلادنا وشعبنا المسالم على مدى ستين سنة من الاستقلال. لماذا؟ لأن السلطة الثقافية الكابحة قد غابت أو غُيّبت، فلم يعد لها في ساحة الحكم لا مكان ولا دور ولا حتى إطلالة إيجابية تُحترم ويُقرؤ لها حساب في التعاطي السياسي، بل إن هذا التعاطي المنحرف استطاع أن يروّج لضرورة التزام الثقافة بالسياسة، بينما العكس هو الصحيح الذي يجب أن يُمارس وهو أن تلتزم السياسة بالثقافة. فلطالما أخضت السياسةُ الثقافةَ ودجّنتها، ويتبين اليوم أن السياسة هي التي كانت الخاسرة لأنها بازدرائها الشنيع للجسم الثقافي فقدت أقوى أداة للتعاطي السياسي السليم القادر على الإنجاز الحضاري، ولأنها لم تستوعب أن الجسم السياسي لا يستطيع أن يفصل عنه الجسم الثقافي، وعندما فعل حصل له وللدولة وللبلاد ما حصل. وهكذا في غياب الثقافة والإعلام الحر عانت بلادنا على مدى عقود من السنين مختلف أنواع الخداع والتلاعب بالقوانين والعبث المأساوي بحقوق الإنسان ومقومات حياته وأولها كرامته وعيشه وصحته وأمنه وآماله. وباتت أشباح المضطهدين تصرخ: هل أنت يا عالم السياسة عديم الإيمان أم أنت ميّت الضمير؟ في غياب الثقافة غرقت الساحة السياسية إذن في مساوئ الساسة، لاسيما الرؤساء، في بلادنا كما في البلاد العربية، أولئك الذين أسسوا فضاءات لمقاومة الشرائع الأخلاقية والاجتماعية والحضارية، حتى قامت ثورتنا متحدية عالم السياسة العديم الإيمان والميت الضمير، ومستلهمة من أصول الثقافة لتوقظ العقلية العربية الإسلامية وتُحيي فيها الضمير الثقافي، وتُلهمها ضرورة قيام الثورة الثقافية في كل مكان على أساس تلك الأصول. العقلية الثقافية العربية الإسلامية التي وإن خمد بريقها فتوارت وتقهقرت فإنها لم تمت ولن تموت. هذه الثورة الثقافية قد خاضها شعبنا متضامنا وبأساليب ثقافية وتقاليد اجتماعية صرفة، وليس منظماتنا ولا أحزابنا ولا جمعياتنا، وجعلها موعدا متألقا يتخذ منه التاريخ العربي الإسلامي منعرجا حضاريا هائلا. إنها الفضاء الفسيح الذي يجب أن تتجسم فيه فكرة التقدم بلا حدود عن طريق الكرامة والمحبة والحوار وسلامة المسار، تلك الفكرة التي كان الأمين الأسبق للأمم المتحدة خافيردي كويلار يتعلق بها ولكنه كان يخشى في نفس الوقت أن تتحول إلى وهم بلا حدود تحت سيطرة الرغبة والاستيلاء. وحتى لا تتحول الفكرة إلى وهم، فتنقذ دي كويلار من خوفه وتوقظ العالم من أوهامه، وتكرّس الثورة فعلا للمجد هالة على رأس تونس، يكون لزاما إيجاد الآلية السياسية المناسبة لهذا التكريس، ويكون من المتأكد استنباط آلة عمل دستورية جديدة لا تُخترق مثلما اختُرِقت المعارضات الحزبية فأصبحت عمليّا معارضات موالية، ومثلما اختُرقت الجمعيات المدنية فباتت أداة في يد النظام المتسلط يمرّر على ظهرها ما يشاء من مغالطات وخداع. هذه الآلية الدستورية عرضها وشرحها للإعلام المناضل رائد الفكر الثقافي الأستاذ البشير بن سلامة الذي نتمنى أن تنادي معه جميع النخب أن قد حان وقت التغيير السياسي الحقيقي على طريق الحرية والديموقراطية والمشاركة العارمة والمتيقظة. هذه الآلية السياسية توحي بها اليوم ثورة الشباب في بلادنا وهي أساسا ثورة ثقافية بامتياز. من هذه الأصول الثقافية والشبابية فكرا ومحتوى، ولتكون تونس رائدة في التحول السياسي من الجذور مثلما كانت أدوات ثورتها رائدة في القيم الإنسانية، يتأكد أن تقتعد الثقافة وضمنها الإعلام مكانها الحيوي في دستور البلاد، فيرفعها إلى سلطة دستورية لا يهم أن تكون الأولى أو الرابعة بل يهم كثيرا أن تكون سلطة فاعلة من أجل مناعة الثورة، فتفحص القرار السياسي وتؤطّره وتراقب الفعل السياسي وتمنع عنه المراوغات. هكذا يكون لتونس، بفضل ثورتها الشبابية ومن خلالها، كيان اسمه الدولة، و حكومة تدير شؤون الدولة، وسلط دستورية تزداد مناعة وقوة عندما تضاف إليها سلطة جديدة اسمها سلطة الثقافة والإعلام تتجسم في برلمان اسمه البرلمان الثقافي. عندذاك نستطيع أن نقول مع الفيلسوف العربي جابر عصفور: الثقافة وراءنا وحولنا. بهذا نضمن للحرية قيمها وللديموقراطية مناخها ولتونس مكانتها الريادية بين الشعوب والأمم.