شاهدنا عبر القنوات التلفزية كلّها ولا نزال كيف أن رجال الأمن والجيش لا تنام لهم عيون من أجل فرض احترام الحجر الصحي العام والذاتي في الشوارع، في الأنهج، في الأزقة، أمام المؤسسات الحكومية وفي كل التجمعات السكنية. ولاحظنا جيدا أن هذه المتابعة الأمنية والعسكرية قد اُستعملت فيها الطائرات لحصر التجاوزات وضبط أماكنها وذلك بالتنسيق مع قاعة العمليات. كما اُستعملت مكبرات الصوت مطالبة بالتي هي أحسن المواطنين بالالتزام بالبقاء في بيوتهم حتى لا يزداد وباء الكورونا انتشارا فتكون العواقب لا قدّر الله وخيمة على صحة التونسيين وحياتهم: "يرحم والديكم و والدين والديكم شدوا دياركم"، إيبارك فيكم شدوا دياركم". لكن ومع الأسف الشديد، تطالعنا المشاهد وتأتينا الأخبار من كل حدب وصوب بأن الشارع التونسي تسير فيه الحركة بصفة شبه طبيعية في عديد من مناطق بالبلاد شمالا وجنوبا، شرقا وغربا وأن المجهودات المبذولة من مختلف الأطراف وعلى رأسها وزارات الصحة والداخلية والدفاع قد تذهب هباء منثورا. وهنا نتساءل: لماذا لم تستجب مجموعة كبيرة من المواطنين إلى واجب البقاء في البيت والخروج فقط في الحالات القصوى؟ أ لا تعي هذه الفئة بأنها تلقي بأيديها إلى التهلكة وأنها تسوق لنفسها الأخطار؟ ورغم أن المشهد في الحقيقة مزعج ويبعث على عدم الاطمئنان نقول بكل هدوء ودون انفعالات: هذه بضاعتنا تردّ إلينا، هذا زرعنا يعطي حصاده وثماره. إنّ الوعي لا يُكتسب بين عشية وضحاها. وأولى لنا ثم أولى أن نجد المواطن في الصورة التي نريدها ونأملها بمجرد أن نضغط على الزر. مواطن اليوم اللاّمسؤول هو نتاج ما تلقاه من تربية داخل أسرته لسنوات منذ الولادة مرورا بالطفولة وصولا إلى الشباب. فهل كان للعائلة حضور؟ وهل تحملت مسؤوليتها في تربية أبنائها كأن يفرض الأبوان الانضباط والاحترام في الأسرة عن طريق الحوار والاقناع دون التسلط والقمع؟ هل تخلّت الأسرة عن دورها؟ ماذا قدمت الأسرة لأبنائها؟ كيف نريد اليوم أن يُعير المواطن أهمية واعتبارا لأوامر رجال الأمن والجيش وأن يلزم بيته وقد تجاوز طيلة حياته هيبة الأبوين؟ ثم هل كان بإمكان العائلة أن تُؤطّر أبناءها أم حالت الظروف الاجتماعية والمادية بينها وبين ذلك فالأبوان يلهثان وراء القوت من طلوع الشمس إلى غروبها وشمل العائلة لا يُجمع في أغلب الأسر التونسية إلا في ساعات الليل هذا إن قٌدر لها أن تتحلق حول مائدة العشاء أو أمام شاشة التلفاز بعد اجتياح مواقع التواصل الاجتماعي لكل زاوية في الدار حتى صار كل فرد في شأن يغنيه؟ مواطن اليوم اللاّمسؤول هو كذلك نتاج ما قدّمته له وسائل الاعلام السمعية والبصرية وما تنهض به من دور في تكوين الوعي والارتقاء بمستوى المواطن فكرا وذهنا وذوقا. فهل عملت وسائل الاعلام على الأخذ بيد المستمع والمشاهد حتى ينضج ويدرك جيدا ما له وما عليه؟ هل قدّمت نقاشات وحوارات يحضرها رجال أكفاء في جميع المجالات؟ هل دفع الإعلام وزارة الثقافة إلى أن تكون برامجها ونشاطاتها هادفة إلى السمو بذائقة المواطن فكريا وفنيا؟ وهل حال دون أن تكون هيكليا لا تتعدى مسؤولياته القيام بحفلات ومهرجانات يختلط فيها الحابل بالنابل لا همّ له سوى تأثيث الأمسيات والسهرات بأي عرض موسيقي أو مسرحي يعترض طريقه؟ هل شدّدت وسائل الإعلام بصفة يومية على جعل المطالعة ضرورة حياتية بالتنسيق مع وزارة الثقافة حتى لا يتحول تناول الكتاب إلى سلوك غريب وعجيب؟ مواطن اليوم اللاّمسؤول هو أيضا نتاج المنظومة التربوية. فإلى أيّ مدى ارتقت المنظومة التربوية بوعي التلميذ وعمّقت فيه الشعور بالمواطنة وعلّمته أساليب ممارستها؟ لقد حوّلت البرامج التعليمية التلميذ إلى وعاء يُملأ بمعلومات صالحة وطالحة يتحصل بفضلها على أعداد يرتقي بها من قسم إلى آخر ومن مرحلة تعليمية إلى أخرى. ناشئتنا تفتقر للفكر التحليلي والنقدي والموضوعي بعد أن أُجبرت على الحفظ والحفظ وتحبير ما حفظته على أوراق الامتحانات لا تلوي على شيء غير ذلك ولو في مراحل متقدمة من التعليم العالي. مواطن اليوم اللامسؤول هو كذلك نتاج النظام السياسي التونسي. إذ لطالما أرغم أصحاب السلطة الشعب بعصاهم الغليظة على الطاعة والانصياع دون أن ينبس ببنت شفة. فنشأ المواطنون على قهر الدّولة والخوف والذعر والرعب منها لينقلب ذلك بعد 14 جانفي 2011 إلى تمرّد على الدولة وعصيان لها وخرق صارخ لقوانينها في غياب شبه تام للدور التحسيسي لمختلف مكونات المشهد السياسي والنقابي والمدني.
وعلى العموم، فإن درجة الوعي المتدنية لدى أغلب التونسيين التي أدّت بهم إلى خرق واجب احترام الحجر الصحي الذاتي والعام سببها انغماس العائلة في ما هو يومي طوعا أوكرها وما قدّمته أغلب وسائل الإعلام ووزارة الثقافة من برامج تهريجية لا تزيد المتلقي إلا سذاجة و سطحية في مجملها إضافة إلى السياسة التي انتهجتها المنظومة التربوية في تعليب المعلومة و سلعنتها والسلطة الحاكمة خاصة قبل 14 جانفي 2011 في ترهيب المواطنين وحملهم على تطبيق القانون خوفا لا استبطانا