قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت انّ شرارة «الحركات الثورية العربية» اندلعت من أرض تونس المنتفضة على الظلم والظلام ذات شتاء قاتم من سنة 2010 . واليوم، بعد عشر سنوات ونيف على انطلاق مخاض التحولات، تصمد التجربة التونسية في الإنتقال السياسي وتبقى خارج دائرة الفوضى التدميرية التي امتدت من ليبيا إلى سوريا.. ولكن يبدو أن تفاقم الأزمة الإقتصادية وقلة الدعم الدولي واحتدام الجدل السياسي والأيديولوجي، وكذا الصراع بين طرفَي النزاع: القصبة وقرطاج،كل هذه العوامل وضعت البلاد والعباد أمام منعطف دقيق يستلزم ورشة إنقاذ داخلية واهتماما دوليا لا يقتصر على مكافحة الإرهاب. فقضايا ومطالب التونسيين في هذا الظرف الدقيق والحاسم الذي تمرّ به البلاد،باتت أهم من الصراعات الشخصية والمناورات الحزبية و المحاصصات السياسية التي لا طائل من ورائها سوى تغليب الفتق على الرتق والزج بالبلاد والعباد في متاهات مبهمة ومعقّدة من الصعوبة بمكان التخلّص من عقالها والنأي بأنفسنا عن تداعياتها الدراماتيكية في المدى المنظور.. وبغض النظر عن المنطق الحسابي، ورهانات الربح والخسارة، لا يزال المشهد السياسي في تونس يفتقر إلى الإستقرار بصورة نهائية،بالنظر إلى حالة التشتت الحزبي وغياب القواعد الثابتة للأحزاب،مما سيفضي مستقبلاً -في تقديري-إلى تجمع القوى المتقاربة،إذا أزمعت تأكيد حضورها السياسي. ومن هنا يتوجب التذكير بتغليب الديمقراطية التوافقية ودور النقابات والمرأة والمجتمع المدني إبان المرحلة الحرجة في 2013،إذ أن إسقاط منطق العنف السياسي لم يستند قط إلى تلاقي الإرادات،بل أيضا إلى إرث تونس الفكري والقانوني والسياسي من ابن خلدون إلى الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة، وكذلك بسبب الأولوية الدولية للحرب ضد الإرهاب وخشية سقوط تونس-لا قدّر الله-في المحظور.. ما أريد أن أقول ؟ أردت القول انّ دروس الماضي والحاضر تؤكّد أهمية اليقظة الداخلية والتشديد على منع استخدام العنف والتمسك بالوحدة الوطنية كي تترسخ الدولة التونسية وتتطور باتجاه تمثيل أفضل للشباب والجهات المهمشة كضمانة لديمومتها. لن أناقش هنا قيمة القرارات التي اتخذتها حكومة المشيشي لصالح ولاية تطاوين ولغيرها من الولايات الداخلية التي تشكو البؤس والحرمان جراء سياسة التهميش طيلة سنوات الإستقلال،لكن المفارقة أن ذات القرارات فقدت مصداقيتها وأثرها على المواطن بعد أن آثرت الحكومة استجلاب هذه الخطوات الإيجابية في وقت متأخر وضمن-مقاربات إطفائية-تسعى إلى كسب الوقت والتنفيس الإجتماعي أكثر من تأصيل التنمية. بهذا المعنى تستنزف الإجراءات الإصلاحية وعوضا من أن تكون لبنة في الإصلاح،تصير من حيث يدري الفاعل الرسمي أو لا يدري خطوة ترقيعية لمنع الإنفجار المجتمعي وهو ما يلوح في سماء تطاوين سيما بعد تصعيد "الكاموريين" وعزمهم على استرداد الحقوق السليبة والمستلَبة عبر أشكال مختلفة من الاحتجاجات على -حد تعبيرهم- وإذن؟ تونس إذا،في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية،ومن ثم إنجاز مشروع مجتمعي طموح ينأى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن،الإثارة المسمومة والإنفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية،وهذا يستدعي منا-كما أسلفت-هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراقوسوريا وليبيا.. ما المطلوب..؟ لا بد اليوم-في تقديري-من عقد اجتماعي جديد في تونس قوامه التوازن في توزيع الثروات بين الجهات،وتشبيب الإستثمار،وإعادة النظر في دور الدولة الاجتماعي والإقتصادي،لا من زاوية مقتضيات وإملاءات الجهات الدولية المانحة، وإنما من بوابة بيئة الإستثمار الجديد وتدعيم اللامركزية دون إلغاء المركز،والدفع بمنظومة الحقّ في الإضراب دون ضرب موارد الدولة. أقول هذا وأنا على يقين بأن تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات،أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية،ومع على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع-النهم المصلحي والإنتفاعي-المسيطر عليهم ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح،ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية،من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها،وذلك تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديمقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم.فجدلية العلاقة بين-محتج-يطالب بالعدل والعيش الكريم في كنف ديمقراطية ناشئة،ودولة منهَكَة-أصلا-ومطلوبة،تفرض-حتما-عدم استبطان منهاج ما بعد الليبرالية،حيث تتحوّل الدولة إلى مجرّد إدارة تعنى بالدفاع والأمن والوثائق الإدارية فقط،بل وهو الأهمّ المزاوجة بين فرص الإستثمار الخاص والدولة المستثمرة في القطاعات الإستراتيجية. قلت هذا،إيمانا مني بأنّ اليأس ممنوع في مفردات القاموس السياسي التونسي. وهذا ليس بغريب على بلد يتمتّع بقسط كبير من العقلانية والحداثة، ويمكن أن يشكّل نموذجا يمكن شعوب العالم العربي من الدخول إلى التاريخ من جديد.