أتابع باستمرار احاديث وتصريحات وكتابات الأستاذ مصطفى الفيلالي، فأجد فيها دوما، تلك الروح المفعمة بالحكمة والتعقل والتبصر وثراء التجربة، وقد اختلف معه أحيانا في المناهج والأساليب وحتى في المقاصد والأهداف، ولكني أعترف بقدرته الفائقة على الاقناع يوم السبت الفارط حظيت بشرف التواصل الفكري معه في موعدين اثنين، الأول عبر مقاله الرابع بجريدة الصريح بعنوان «معركة أرقام» والثاني مباشرة في اجتماع المنتدى الوطني للفكر البورقيبي. وفي الموعدين كان الرجل مبهرا بأفكاره ومقارباته وما يختزنه في ذاكرته من تجارب وما يحفظه من أرقام وشواهد ودلالات وأمثلة خارجة لتوها من رحم آخر الوقائع في تونس والعالم. في مقاله بجريدة الصريح كتب:«أستسمح الإخوة الكرام، في الأحزاب السياسية وفي الهيئات الاستشارية وفي غيرها من مكوّنات الطيف السياسي فاقترح عليهم في غير صلف ولاغرور واقتصادا في زمن التوكل والحزم ان نسلك سبيل اخوتنا في مصر فنعهد الى ثلّة معدودة من أبنائنا أساتذة القانون الدستوري من امثال الصادق بلعيد وقيس سعيد وسمير العنابي وغيرهم كثيرين بمراجعة دستور 1959 وتنظيفه من شوائب الحكم مدى الحياة، وانفراد رئيس الدولة بالمبادرة القانونية وبتعيين اعضاء الحكومة ومراقبتهم، وبالتدخل في صلاحيات السلطة القضائية، وغيرها من النقائص المتراكمة ثم يتولى رئيس الدولة الانتقالية عرض المشروع البديل على الاستفتاء...» وفي المنتدى الوطني للفكر البورقيبي بسط آراءه بوضوح تام، وأكد أن هذا التوجه سوف يجنب البلاد اهدار المزيد من المال نحن في أمس الحاجة اليه ويقلص من مساحة الانتظار المربك للناس، ويحوّل الجهد المضاعف الى ماينفع البلاد في مجالات تتطلب شيئا من ملحمة «برومتيوس» الذي لاتلين له قناة ولاتفتر عزيمة، هكذا فهمت كلامه واستوعبت معانيه ووضعته في هذه الجمل على طريقتي. ان المسألة على غاية من الأهمية، وهي تنبض في مخيلة أغلب التونسيين، منذ مدّة ليست بالقصيرة، وتحديدا منذ الأسابيع الأولى لمرحلة مابعد الثورة، لكن تعاقب الأحداث بشكل هستيري قبرها حتى جاء الاستاذ مصطفى الفيلالي ليرفع عنها حجاب التعتيم ويفكّ الأسر الذي طوّقها. اتذكر ان صديقنا المشترك المحامي والسياسي الأستاذ الطاهر بوسمة قد طرح الموضوع في مجالسه بالطريقة ذاتها ولكنه لم يبسطه أمام الرأي العام، وكذلك فعل الكثيرون من رجال السياسة والقانون والفكر والإعلام، اما أن تأتي المبادرة من سياسي محنك ووزير سابق في العهد البورقيبي ومناضل عاش جنينيّة الدولة الحديثة وساهم بطريقة أو بأخرى في وضع دستور 1959 يصبح الأمر مختلفا اذ المقترح هذه المرّة يتضمن شرعية صاحبه. فهل بلادنا بحاجة، فعلا، الى دستور جديد؟ لا أعتقد ذلك مطلقا، فروح دستور 1959 المنبثقة من رغبة شعبية جامحة لبناء دولة حديثة تقطع مع الماضي الاستعماري والاقطاعي قطعا نهائيا مازالت ترفرف في ربوعنا، وما علينا الا توظيفها لكسب الوقت والجهد والمال ونشر الطمأنينة وتثبيت الاستقرار، والاسراع ببسط الشرعية. لنضع دستور 1959 بين أيدي جمع من الكفاءات والخبرات العالية لتنقيته من الشوائب والزوائد ثم عرضه على الاستفتاء الشعبي فتلك لعمري أقصر الطرق وأنجعها لتأمين جانب هام من مسيرة الانتقال الديمقراطي.