إن كان التوظيف والاحتواء والمصادرة، كما أكدنا مرارا، آفة الثورات، فالمزايدات هي الحزام التدميري الذي يطوقها حتى الاجهاض. فجميع الثورات في كل مراحل التاريخ الإنساني، وخاصة الشعبية والتلقائية منها، لا تتحمل المزايدات فترفضها وتصدها في البداية، فإن تراجعت امتد تدفق الثورة وتواصل مدها التحرري، وبلغت منتهاها الإصلاحي والتأسيسي، وإن صمدت تلك المزايدات وتكثفت فالثورة ستختنق وترتد حتى التلاشي، فينهار، تبعا لذلك، صرح من الآمال والطموحات، ويتوقف التاريخ، مرة أخرى، لتنطفأ قطرات الضوء التي غذت توقنا. ولا شك أن ثورة الرابع عشر من جانفي قد تعرضت إلى كل صنوف التوظيف الايديولوجي والمذهبي، وكافة أشكال الاحتواء الفئوي والسياسي والقطاعي الخطير، ولكنها صمدت بعزيمة مفجريها من أبناء الشعب، وحافظت على نقاوتها وتلقائيتها. وها هي الآن تواجه مدا طاغيا من المزايدات أشد وطأة من التوظيف. صحيح أن طبيعة البشر مجبولة، في مثل هذه اللحظات التاريخية، على المزايدة ومداومة المزايدة، وصحيح أيضا ان الانتهازية تطل، دوما من وراء الفوضى والانفلات والفراغ، فتتفشى كالآفات. لكن هذه الثورة التي أردناها نموذجية، اندلعت لإنقاذ البلاد والارتقاء بها إلى مرافئ الحرية والعدالة والكرامة والاستقرار، فلماذا يريدون تغيير مسارها إلى متاهات الدمار؟ لماذا يريدون الارتداد على مقاصدها لتصبح مصدرا لتعميق آلام المجتمع؟ لماذا كل هذا الحقد بين أبناء الشعب الواحد؟ كل هذه الأسئلة وأخرى تتناسل عنها تتردد على ألسنة الغالبية المطلقة من المواطنين. لقد وصل الأمر إلى درجة لم يعد معها السكوت ممكنا، فالبلد ينزلق إلى الهاوية أمام أعيننا، والعجز يلف الجميع إلا قلة تحاول ممارسة واجبها في التصدي واستنباط الحلول دون جدوى. فالمؤسسات والهياكل فقدت هيبتها وبالتالي وظائفها، والرموز، وخاصة الابداعية والفكرية والعلمية منها اختفت في جحور الخوف والانكماش بعد أن طالتها أصوات الفوضويين ورجال الأعمال وأصحاب رأس المال جمدوا مشاريعهم بعد أن اصبحوا «الدابة السوداء» للشارع المنفلت، وحتى السياسيين الذين أظهروا شيئا من الاعتدال لم يجدوا لأصواتهم صدى لدى دعاة الفوضى والعنف والفتنة. لم يتركوا الحكومة الوقتية تعمل، فحاصروا أعضاءها وشككوا في مساعيهم ونواياهم. ولم يوفروا الظروف الملائمة للهيئات كي تؤدي مهامها الانتقالية تعبيدا لمسالك الاصلاح. إن نسبة هؤلاء في الشعب التونسي قليلة جدا، ومع ذلك نجدهم يتحركون كأغلبية مطلقة! إننا أمام مفارقة غريبة لم تشهدها الثورات في كل الأمكنة والأزمنة. فالأغلبية التي صمتت طويلا تحت عسف الديكتاتورية ثم انتفضت تسقطها وتطيح برموزها، عادت فجأة إلى صمتها وتقوقعها وتركت الساحة لأقلية منفلتة تريد فرض إرادتها على الجميع. أجدد التأكيد، مرة أخرى، على ان الوقت المسموح به قد أوشك على النهاية ولا بد من انتفاضة وعي شامل لإنقاذ البلاد.