تحركت أيدي الفتنة من جديد محرضة على الفوضى والإنفلات والتمرد ، و0ستهدفت مرة أخرى بعض المناطق ذات الأوضاع الصعبة أكثر من غيرها في وقت دقيق وحرج محليا وإقليميا خدمة لأجندات مشبوهة لم تعد خافية على أحد بعد أن أصبح الشعب بكل فئاته على بينة منها. إن ما يحدث هذه الأيام في بعض المناطق هو إمتداد لما حدث سابقا في مناطق أخرى وإن إختلفت المطالب والشعارات وهي ممارسات تحريضية مؤلمة ومفزعة ومحبطة ولكن الأدهى والأمر من كل ذلك هو أنها مخجلة ومهينة لكل التونسيين دون إستثناء . أجل إنها مهينة في بلد أسس لمسار ديمقراطي ونظم إنتخابات نزيهة و0ختار بكل حرية وديمقراطية سلطة شرعية تحكمه ، ومما زاد من أثقال الإهانة ان وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم تتناقل حيثيات هذه المهازل وخلفياتها وأهدافها الدنيئة ومقاصد مقترفيها والمحرضين عليها ، وصنفتها تمردا وعصيانا وتراجعا عن المسار الديمقراطي . بعد ما يقرب عن إثنتين ستين سنة من الإستقلال وبناء الدولة الحديثة ، وبعد سبع سنوات من البناء الديمقراطي وتكريس قيم الحرية ووضع آليات دستورية لصيانة حقوق الإنسان نجد أنفسنا وقد عدنا إلى مربع الفوضى والإنفلات والتطاول على الدولة ومؤسساتها وعلى القوانين والتشريعات ،وغرقنا من جديد في مستنقعات الفتن. لا أحد وجد الجرأة الكافية ليسمي الأشياء بأسمائها، كلهم يتحدثون عن " أطراف محرضة"، مع إيحاءات تشير إلى بعض السياسيين والأحزاب والتيارات، ولكن ، وبالرغم من إرتفاع نسق الإنفلات و0تساع رقعته لم نصل بعد إلى تحديد هذه الأطراف بدقة ، وحتى ما كان أتاه رئيس الحكومة بذكره لحزب معارض قال انه متورط في أحداث الشغب لم يكن مصحوبا بتوضيحات إضافية ولم يتم اتخاذ أي اجراءات في ما يخص هذه المسألة ، لم تحاول السلط شد الثور من قرنيه والكشف عن المتورطين في التحريض رغم أن الشعب شاهد عليهم ويتساءل بحيرة بالغة :" ما الفائدة من الكشف عنهم دون إتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضدهم ؟ . إن المواطن يريد أن يكون على بينة مما يحدث في البلاد ومعرفة كل الذين يعملون على تأجيج نيران الفتنة وتأزيم الأوضاع ، وما على الحكومة إلا أن تتحرك بجدية وفاعلية وتستخلص العبرة من أخطاء الحكومات السابقة وتأخذ الدرس المفيد من تجارب الديمقراطيات الكبرى في العالم وذلك بتوظيف شرعيتها للقطع مع التذبذب والإرتجال والتردد والحسابات الضيقة ، تلك التي تؤثر سلبا على مصداقيتها وعلى معنويات المواطنين ، فالمسألة على غاية من الخطورة وتشير إلى تدهور في المنظومة بأكملها ، ومع ذلك لم نسمع بأن السلطة ومؤسساتها قد استعملت صلاحياتها في الكشف عن الحقائق أو إتخذت إجراءات عملية فاعلة للحد من هذه الممارسات التخريبية بالرغم من تعمد بعض الأحزاب والتيارات السياسية إختلاق الأزمات طبقا لأجندات مشبوهة ، وبث الإشاعات المغرضة والتحريض العلني على الإحتجاج والتمرد والعصيان، مستغلة الظروف الإجتماعية الصعبة في بعض المناطق. إن هذه الممارسات التي تأتيها شخصيات وتيارات تدعي الدفاع عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان تهدد المسار الديمقراطي الناشئ وتعرقل انسيابه وتطعن منظومة القيم والمبادئ والإلتزامات التي بني عليها وهي لا تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى الفوضى العارمة وضياع المكاسب ، كما أنها تعطي للناس صورة سيئة عن الحرية والديمقراطية وتمكن أعداءهما من مبررات إضافية للقدح في جدواهما أو إدعاء عدم نضج الشعب لتبنيهما وتطبيقهما لأن الديمقراطية الحقيقية هي إنضباط و0لتزام و0حترام للشرعية، وما على الفاعلين والمؤثرين في الأحزاب والتيارات والإتحادات والمنظمات إلا إعطاء المثل في احترام القيم الديمقراطية و0لتزاماتها القانونية والأخلاقية. لا شك ان التجاوزات موجودة في كل الديمقراطيات دون استثناء وبنسب مختلفة ، لكنها تمثل حالات عابرة سرعان ما يتم تداركها وهو ما لم يقع في بلادنا إلى حد الآن إذ يتواصل غض الطرف عن هذه الممارسات الخطيرة التي تهدد المسار الديمقراطي برمته ، وتزعزع أمن البلاد و0ستقرارها في ظرف يتطلب الكثير من الحزم والجرأة والإرادة والحرص على تطبيق القانون.