ببادرة من الجمعية التونسية للتربية والثقافة التي يرأسها المربي الأستاذ رضا الكشتبان وبالاشتراك مع دار الكتب الوطنية التأمت ندوة علمية بعد ظهر يوم الجمعة 23 فيفري المنقضي أرادها من كان وراءها تكريما للأستاذ الجامعي والمؤرخ والمفكر اليساري الهادي التيمومي على الجهد الكبير الذي يبذله في قضايا الفكر وقضايا التاريخ المعاصر واحتفاء بإصداره الجديد الذي اختار له عنوانا " إلى الساسة العرب : ارفعوا أيديكم عن تاريخنا " وهو الكتاب الثامن عشر الذي يضاف إلى مدونته الثرية. في هذه الندوة التي حضرها عدد من أصدقاء المحتفى به من أساتذة الجامعة التونسية تم التطرق إلى قضية راهنية تكثّف الحديث عنها بعد الثورة وكثر الحديث بخصوصها خاصة بعد الشهادات الحية التي قدمت في هيئة الحقيقة والكرامة المتعلقة بالانتهاكات التي حصلت بعد الاستقلال هذه القضية هي كيف نكتب تاريخنا بطريقة تقربه إلى حقيقة ما حصل فعلا ؟ وبأي منهجية يمكن للمؤرخ أن يكتب أحداث الزمن الراهن تعكس الحقيقة التاريخية التي يبحث عنها الجميع ؟ وتم التساؤل حول من له أحقية كتابة التاريخ هل يكتبه السياسي ومن يحكم ؟ أم يكتبه المعارض للحكم والجهات غير الرسمية ؟ أم يكتبه المؤرخ وصاحب الاختصاص ؟ وإذا سلمنا بأسبقية المؤرخ فهل نطمئن لعمل هذا الأخير من عدم انحيازه للسياسي ومن عدم انحيازه لقناعته الايديولوجية ؟ وفي هذا الأطار هل نطلب من المؤرخ أن يلتزم الحياد الايديولوجي ويفصل الذاتي عن الموضوعي ؟ في كتاب إلى الساسة العرب إرفعوا أيديكم عن تاريخنا يتناول الهادي التيمومي قضية مهمة جدا ودقيقة في كتابة التاريخ نجدها تقريبا في كل التاريخ العربي وهي تدخل رجل السياسة في عملية الكتابة التاريخية لذلك فهو يعتبر أن لدي كل الشعوب والأمم سردية تاريخية رسمية يكتبها رجل السياسة ومن يحكم وسرية تاريخية أخرى يكتبها المؤرخ المحترف فالفكرة المحورية والرئيسية التي يدور حولها هذا الكتاب هي المطالبة بضرورة ان يتنحى رجل السياسة عن كتابة التاريخ وأن يترك هذه المهمة للمؤرخين غير أن التيمومي ينبه إلى أن المقصود بالسياسيين ليس الكيانات الحاكمة ودوائرها ومن يدور في فلكها وإنما كذلك الحركات السياسية المعارضة ودوائرها فلكل واحد من هذه الدوائر السياسية سرديتها للأحداث التاريخية وقراءتها لما حصل وهي سرديات يعتبرها مؤدلجة وموجهة ومنتقاة وتبتعد عن الحقيقة التاريخية كما ينبه عند كتابة التاريخ من طرف المؤرخ المحترف إلى ضرورة أن يفصل الايديولوجي عن التاريخي ووضع مسافة بين قناعات المؤرخ وانتمائه الفكري وبين ما يحصل من أحداث فعملية الكتابة التاريخية الموضوعية التي تعكس حقيقة التاريخ تتطلب أن يتخل المؤرخ عن ايديولوجيته وانتمائه الحزبي - وهي عملية عسيرة وصعبة - عند كتابه للتاريخ. يعترف الهادي التيمومي بأن السردية التاريخية التي يكتبها السياسي مهمة وضرورية لتحقيق اللحمة الوطنية وتجنب الخلاف وأن السياسي يحتاج إلى سردية من زاوية نظره يحقق بها الاندماج الوطني المطلوب ولكن الخطورة في هذا المقصد من كتابة التاريخ من قبل السياسي أنها تصطدم بمعضلة كبيرة وهي الانتقائية واختزالية في قراءة الأحداث فما حصل مثلا في السردية التونسية أن من كتب التاريخ قد تجاوز محطات تاريخية مهمة لم يسلط عليها الضوء بالقدر الكافي وتجاوز أحداث أخرى وجزئيات وتفاصيل مهمة قد يؤدي ذكرها إلى تغيير في مسار السردية التاريخية أو تقديم صورة مغايرة عن الرواية الرسمية للتاريخ. المشكلة في هذا النوع من الكتابة المسيّسة هي أنها تجعل الكثير من الناس يشكون فيما كتب من أحداث ويطالبون باستمرار بإعادة كتابة التاريخ وفق نظرتهم هم للأحداث وفي هذا النوع من الكتابة التاريخية التي يتولاها السياسي نكون أمام أكثر من سردية تاريخية وهي سرديات كلها مؤدلجة وانتقائية ومغيبة لأحداث لا تخدم روايتها وتكون مركزة على أحداث لا نجدها في السرديات الأخرى وفي كل الحالات نكون أمام تاريخ مشوه ومنقوص ومشكوك في صحته أو على الاقل لا يحضا بالثقة في جزء من أحداثه ومحطاته. والمشكلة الأخرى في الكتابة التاريخية السياسية هي أنها كتابة متشنجة ومتسرعة وموجهة وعاطفية وتبتعد من غايتها البحث الحقيقة و تقديم صورة ناصعة البياض عن الزعيم والحاكم كما هو الحال في السردية التونسية التي كانت في البداية ردة فعل عن التاريخ الذي كتبه المستعمر ورفضا لما كتبه مؤرخوه واعتباره تاريخا لا وطني وتقديم بدل ذلك رواية مضادة لرواية المحتل اعتبرت تاريخا موازيا يبحث عن الحقيقة غير أن هذا الاتجاه قد تغير بعد عشر سنوات من الاستقلال لنجد أنفسنا أمام تاريخ رسمي وسردية كتبها المنتصر وفرضها الرئيس بورقيبة جعل التاريخ المعاصر ينحصر في شخصه الأمر الذي دفع معارضوه إلى كتابة سرديتهم الخاصة بهم لذلك ظهرت بعد الاستقلال سردية تاريخية من وجهة نظر قومية وأخرى يسارية وثالثة إسلامية وكل هذه الروايات هي كتابة تاريخية حاولت تجاوز من نقص من أحداث التاريخ الرسمي والادعاء بأنها هي التاريخي الصحيح والحقيقي . المهم في كتاب الهادي التيمومي هو دعوته إلى تحرير التاريخ من الايدولوجيا والابتعاد بالكتابة التاريخية عن التوظيف والقراءة السياسية وهو ما يطرح إشكالية العلاقة بين الساسة والتاريخ والذاتي والموضوعي في الكتابة الموضوعية وسؤال هل يمكن أن ننجز كتابة تاريخية هادئة بعيدة عن الأسلوب النفسي والمنهج القطعي وعن الرؤية الواحدة . والسؤال الذي يثيره هذا الكتاب ويفرضه تحليل صاحبه هو إلى أي حد التزم الهادي التيمومي وهو المؤرخ الماركسي بهذا المطلب فصل الايديولوجية عن التاريخ ؟ وهل كان في كل ما كتبه كمؤرخ قد تخلى عن انتمائه الفكري وحرر كتابته من الايدولوجيا خاصة في مطلب إعادة كتابة التاريخ التونسي في بعض محطاته التي اتضح أنها تحتاج إلى إعادة قراءة جديدة وكتابة مختلفة عن الرواية الرسمية حيث فاجأنا التيمومي برفضه لهذه الدعوة واعتباره أن التاريخ التونسي لا يحتاج الى كتابة جديدة أو اعادة كتابة وأن ما كتب كان في مجمله صحيحا فكيف يوفق بين هذا الموقف وبين اعتباره أن التاريخ هو إعادة كتابة لا تنتهي وأن كل كتابة تاريخية يكتبها السياسي هي كتابة موجهة للتاريخ وفي خدمة أغراضه الخاصة وهو على استعداد من أجل مصلحته أن يشوه ويزور التاريخ ؟