ليس ثمة ما يعكس حال المشهد السياسي أفضل من القنبلة التي فجرها السيد البحري الجلاصي رئيس حزب «الانفتاح والوفاء». صحيح أن الرأي العام تعوّد على تصريحات السيد البحري الجلاصي السابقة الى حدّ التندر بها دون أن يقدر جيدا خطورة مضامينها وهذا خطأ أول، في حين يبدو أن البعض يسعى الى لملمة تداعيات تصريحه الأخير وهذا خطأ ثان لا يتحمّل غض الطرف عنه والمرور عليه مرور الكرام. في قضية الحال لا يتعلق الأمر بموقف سياسي مثير للسيد البحري الجلاصي أو بنكث حركة «النهضة» لعهد قطعته معه ولا باختلاف في وجهات النظر أو بتباين في الآراء أو في المواقف بينه وبين النواب المحسوبين عليه في المجلس الوطني التأسيسي فجميعها حالات وفرضيات يمكن فهمها أو تقبّلها الى حدود ما، وانما يتعلق الأمر بأداء وبسلوك يتعيّن التشهير به مثلما يتعيّن التعهد به على واجهتين، على الواجهة القضائية وعلى الواجهة السياسية. فعلى الواجهة القضائية، يعتبر تصريح السيد البحري الجلاصي اشعارا علنيا الى النيابة العمومية كان من المفروض أن يدفعها للتعهّد تلقائيا بالموضوع، لكن حتى اللحظة فإن هذه الأخيرة لم تحرك ساكنا رغم خطورة أقوال المعني بالأمر التي تحمل تهما مباشرة وصريحة لعدد من نواب المجلس الوطني التأسيسي لا يمكن السكوت عنها مهما كانت الأسباب. أما على الواجهة السياسية وتحديدا على مستوى المجلس الوطني التأسيسي فإن كل ما سجّل هو تعبير السيد رئيس المجلس حسب بعض المصادر عن غضبه الشديد من مضمون تصريح رئيس «حزب الانفتاح والوفاء» والحال أن المسألة كانت تستوجب على الأقل من السيد رئيس المجلس الوطني التأسيسي الاعلان عن تكوين لجنة تحقيق برلمانية تحقق من جهتها في صحة ما نسب الى عدد من نواب المجلس واتخاذ ما يلزم من قرارات تتوافق مع خطورته. ان المشهد السياسي العام يعيش حالة من الفوضى والتسيب لا مثيل ولا حدود لهما تحت غطاء الديمقراطية وحرية التعبير، وفي الأثناء نغفل أو نتغافل عن الأهم وعن الأساسي، والأهم والأساسي في قضية الحال أن حالة الفوضى والتسيب هذه تنتج من جملة ما تنتج أداء وسلوكا وممارسة سياسية منفلتة لا تخضع الى الحدّ الأدنى من ضوابط كما من أخلاقيات ومن قيم الفعل السياسي، فإذا كانت «ديمقراطيتنا الناشئة» على هذا النحو من الانفلات السياسي الذي ينضاف الى مظاهر الانفلات الاقتصادي والأمني والاجتماعي المألوفة، فكيف سيكون حالها مستقبلا؟ نستنتج من كلام السيد البحري الجلاصي أن مؤسسة مجلسنا الوطني التأسيسي أصبحت بالنسبة للبعض مرتعا للتحيّل وللانتهازية وللغش وللابتزاز ولتأثير المال السياسي القذر. وإذا كانت هذه المظاهر المقيتة كامنة في بعض أوساط مجلسنا الموقّر دون تعميم في المطلق، فهي تعكس العقلية السائدة داخله وهي عقلية التمعش في أوجهها المختلفة سواء كان هذا التمعش سياسيا أو ماليا، وكلاهما مرفوض. ومن حيث لا يشعر، يطلق السيد البحري الجلاصي صيحة فزع عسى أن يظهر في مظهر ضحية تحيّل عدد من نواب المجلس ونسي أو تناسى أنه طرف في هذه المهزلة الفضيحة، فمن المفروض أن تهتز أركان المجلس الوطني التأسيسي ليتم التعامل معها بكل جدية وبكل شفافية عوض الاتجاه الى قبرها درءا لها حتى لا يلعن الله الراشي والمرتشي! ولما كان الأمر على النحو المذكور، فإن تصريح السيد البحري الجلاصي يسقط بالضربة القاضية الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها حتى المنزّهة منها عن مثل هذه الممارسات لصمتها ولعجزها عن تحصين نفسها ضد مخاطر المال السياسي القذر، ويسقط بالضربة القاضية ما تبقى من ثقة الرأي العام الوطني في المجلس التأسيسي. حينها يصبح مشروعا التساؤل ان كان بالامكان مواصلة الوثوق بمجلس وطني تأسيسي مؤمن على مستقبل هذه البلاد. فإذا مات الحوار الوطني سريريا، وسقط المجلس الوطني التأسيسي أخلاقيا، فأي مصير ينتظرنا؟