حاليا لا أنتمي لأي حزب أتألم لوضع بعض المخلصين من مسؤولي العهد السابق ربما لم يدر بخلد منذر الزنايدي الذي قضى قرابة العشر سنوات في باريس مدينة «الجن والملائكة « (بعبارة طه حسين) خلال السبعينات طالبا بالمدرسة المركزية ثم بالمدرسة الوطنية للإدارة ، أن يعود إليها بعد أربعين عاما ليعيش فيها ثلاث سنوات بدأت في نهاية شهر مارس 2011 ولا أحد يعلم متى ستنتهي سوى المنذر الزنايدي نفسه... هو واحد من قلة من وزراء العهد السابق الذين يردّون بلا كلل على سيل المكالمات الهاتفية من أناس يعرفهم ومن كثيرين لا صلة له بهم سوى أنهم يتوسمون فيه الخير فيطلبون مساعدته لقضاء شأن ما ... ولا شك أن هاتفه لم يتوقف عن الرنين اول امس بعد أن قررت دائرة الإتهام إلغاء بطاقة الجلب الصادرة في شأنه بسبب قرض بنكي تحصل عليه دون ضمانات كافية كما ورد في ملف القضية . امتنع المنذر الزنايدي طيلة السنوات الماضية عن الخوض في القضية وإكتفى دائما بالقول إنها» قضية مفبركة لا أصل لها فقد قدمت للبنك ضمانا يفوق القرض وهي قطعة أرض على ملكي ، ولقد تولى والدي رحمه الله تسديد القرض كاملا سنة 2011 وسترى الحقيقة النور يوما ما» . ولكن هذا اليوم تأخر في ما يبدو قليلا فقد أعلن الدكتور حامد القروي في عيد المٍرأة 13 أوت عن مرشح الحركة الدستورية للانتخابات الرئاسية وهو السيد عبد الرحيم الزواري. وقد بادرت احدى الجهات من الحركة الدستورية عن ترشيح السد المنذر الزنايدي للانتخابات الرئاسة معارضة اختيار رئيس الحركة . حين إتصلنا بمنذر الزنايدي نسأله عن موقفه من الوضعية التي وجد نفسه فيها اليوم، تفادى الخوض في التفاصيل قائلا «الأهم من الحديث عن إسم هذا المرشح أو ذاك أن نفهم كسياسيين لماذا وصلنا إلى 14 جانفي ، أين فشلنا ولماذا؟ وعلينا أن نتحلى بالشجاعة لنتحمل المسؤولية في ما تحقق سلبا وإيجابا بلا أحقاد وبعيدا عن تصفية الحسابات الشخصية والحزبية والإيديولوجية ، وقتها يمكن النظر إلى المستقبل وطي صفحة الماضي والتوافق على مشروع وطني لبناء تونس لنتدارك ما فاتنا». أعدنا طرح أسئلتنا على منذر الزنايدي، هل ستعود إلى تونس وهل ستشارك في الحياة السياسية بمعنى هل ستترشح للانتخابات الرئاسية ؟ لم يخف الهاتف ضحكة مخاطبنا قبل أن يرد على سيل أسئلتنا قائلا» لقد قضيت الجزء الأكبر من حياتي في خدمة بلدي وخدمة مواطنيه منذ كنت رئيس بلدية سبيبة في القصرين نهاية السبعينات، تلك كانت عقيدتي التي رباني عليها والدي أحد بناة تونس الحديثة (المهندس الراحل عبد العزيز الزنايدي) ، ولم أحد يوما عن إلتزامي وأنا عضو في مجلس النواب أو عندما كنت مسؤولا في عدد من المؤسسات الوطنية (مدير عام مساعد بالديوان الوطني للسياحة من 1978 إلى 1981، مدير ديوان عزوز الأصرم وزير الاقتصاد الوطني 1981 - 1983، رئيس مدير عام الديوان التونسي للتجارة 1983 - 1987 أو وزيرا للنقل أو للسياحة أو للتجارة أو للصحة 1994 - 2011». ويضيف المنذر الزنايدي وكأن لسانه فك من عقاله» لم اشعر يوما بأني في خدمة شخص او عائلة أو جماعة، كنت أرد الجميل للبلد الذي مكنني من مواصلة تعليمي في اكبر الجامعات الفرنسية، وأبناء بلدي يعرفون جيدا ماذا قدمت طيلة هذه السنوات الطويلة من المسؤولية الشاقة في ظرفية سياسية يعرفها الجميع، ولكن ممارسة السلطة اليوم تغيرت، وهذا ما يجب أن ندركه جميعا، المسؤولية تفويض من الشعب ولا يمكن أن يأتي أي كان اليوم ليفرض على التونسيين ما يريده هو ويطلب من الناس أن يتبعوا خطاه، على رجل السياسة أن يستجيب لما تطلبه القواعد الشعبية، هذه هي قناعتي». هل يشفي هذا الكلام الغليل؟ هل يمكن أن نعتبره إجابة شافية عن سؤالنا هل ستترشح للانتخابات الرئاسية؟ في كل الحالات لا يضجر منذر الزنايدي من الإلحاح وتكرار السؤال ولكنه لا يمنحك المزيد فما قاله يكفي في المرحلة الحالية ... حين تسأل منذر الزنايدي عن والده أحد مهندسي الأشغال الأوائل في دولة إلاستقلال تتغير نبرة صوته ويحاول بلا نجاح إخفاء تأثره فقد حرم من حضور مراسم دفن أبيه لأنه لم يكن يملك وقتها جواز سفر ... ولا تجد تعليقا تخفف به من أحزان الرجل وتسأل نفسك لماذا يتكرر السيناريو ذاته باستخدام جواز السفر أداة ضغط على التونسيين يمنح متى أراد أهل الحل والعقد ويمنع متى أرادوا، الغريب أن أهل الحل والعقد تغيروا مرارا ولكن السلوك لم يتغير... وكنت ضحيته طيلة ثمانية عشر عاما دون أن يرف جفن أحد ... ويتذكر كثيرون أن عبد العزيز الزنايدي كان أحد الرجال الذين عوّل عليهم بورقيبة في بناء تونس بعد الاستقلال. وتفيد روايات متواترة أن الزنايدي الأب دخل على «المجاهد الأكبر» في اليوم الموالي لاكتشاف مؤامرة 1962 ، نظر بورقيبة لضيفه وسأله»هل تعرف من كنت ستجد في هذا المكان لو نجح الجماعة في إنقلابهم؟»، رد عبد العزيز الزنايدي «لا علم لي» قال بورقيبة» كنت ستجد الأزهر الشرايطي» ، ودون ان يدير عبد العزيز الزنايدي لسانه سبع مرات قبل أن ينطق قال لبورقيبة «شد مشومك لا يجي ما أشوم» . لم يكن أمام بورقيبة سوى أن يهضم الرد العفوي لعبد العزيز الزنايدي ويغير الموضوع... وتكشف هذه الحادثة عن جرأة الزنايدي الأب وقوة شخصيته وهما صفتان جعلتا الفتور يميز علاقته بالوزيرين الأولين السابقين الباهي الأدغم والهادي نويرة ... بعد تلك الحادثة بسنوات طويلة وحين عيّن بورقيبة في أواخر حكمه(27 أكتوبر 1987) المنذر الزنايدي كاتب دولة للاقتصاد مكلفا بالصناعة، تدخلت حاشية القصر لدى الزعيم في خريف عمره لتذكره بأن الزنايدي الأب كان مقربا من الماجدة وسيلة (كان بورقيبة طلقها قبل عام ونصف) فتراجع بورقيبة عن تعيين المنذر الزنايدي هو ومحمد الغنوشي وصالح الجبالي قبل أن يتراجع عن تراجعه ...كان بورقيبة أيامها واقعا بين فكي كماشة في قصر قرطاج بعد أن خرج منه كل أحبته والمخلصين له (كاتبه الخاص علالة العويتي، الحبيب بورقيبة الإبن، زوجته بعد طلاقهما...)، بعدها بأيام قليلة أزيح بورقيبة عن عرشه وتولى بن علي زمام الأمور، ولكن المقام لم يطل كثيرا بالمنذر الزنايدي في الحكومة فقد نجح سليم شيبوب في إزاحته سريعا بسبب خلافات تعود إلى أيام رئاسة الزنايدي للترجي الرياضي التونسي ... أيامها كان شيبوب لاعب كرة طائرة متوسط الموهبة قبل أن يعتلي صهره العرش... عاد منذر الزنايدي إلى الحكومة سنة 1994 ولم يغادرها حتى «هروب بن علي»، وعلى الرغم من أن إسمه تردد أكثر من مرة وزيرا للداخلية ووزيرا أول وأمينا عاما ل»التجمع» الحاكم آنذاك فان قوى خفية ومعلومة كانت تتدخل لمنع ذلك، يعلق المنذر الزنايدي على تلك المرحلة قائلا « الله ورضاية الوالدين، الحمد لله أني لم أعين في أي من هذه المناصب» . وحين تسأله عن حصيلة 23 سنة من حكم بن علي، يطلب إعفاءه من الرد فذلك دور المؤرخين والباحثين والدارسين، ولكنه بكثير من الحماس يحدثك عما بذله هو وكثير من زملائه في مختلف مواقع المسؤولية للتحكم في نسب التضخم(لم تتجاوز 3بالمائة حين كان وزيرا للتجارة) ومقاومة التجارة الموازية التي لم تتجاوز أبدا العشرين في المائة ، ويطنب في الحديث عن أساليبه وحيله للتحكم في الأسعار بالضغط تارة على الفلاحين وطورا على الصناعيين وتارة أخرى على التجار حفاظا على القدرة الشرائية للمواطن، ويذكّر الزنايدي بأن صندوق التعويض لم يتجاوز نسبة الواحد في المائة من الناتج المحلي الخام، ويتذكر المنذر الزنايدي كيف قضى ثلاث سنوات وزيرا للصحة دون أن يعرف القطاع إضرابا واحدا بفضل حرصه على إرساء علاقات تشاركية مع نقابات الصحة والإتحاد العام التونسي للشغل الذي تربطه بكثير من قياداته اليوم علاقات ود وصداقة ، وحين تسأله عن قطاع السياحة لا ينتظر فراغك من السؤال ليتحسر عمّا آلت إليه الأوضاع ويضيف»كان بوسعنا أن نكون اليوم في أعلى مستوى ولكننا لم ننجح جميعا في إدارة الملف، لقد أنجزنا الدراسات الإستراتيجية قبل سنوات ولكن يكفي أن يتغير وزير ليسقط المشروع كله في الماء واليوم تدفع السياحة الضريبة غاليا ومازلنا بصدد إنجاز دراسات جديدة وخطط لا أظن أنها سترى النور». وحين تسعى لإحراجه بالسؤال مجددا عن فساد نظام بن علي، يردّ المنذر الزنايدي بحسم « لقد سقط النظام اخلاقيا وقيميا قبل سنوات من إنهياره الفعلي يوم 14 جانفي، ليتحمل كل طرف مسؤوليته، ، ولكن علينا أن نكون منصفين إزاء كفاءات وطنية خدمت تونس بإخلاص، ولا يعقل أن نضع الجميع في سلة واحدة فما تحقق في العشريتين الماضيتين لا يمكن لأي كان أن ينكره ولم تكن تونس يوما صحراء قاحلة أو خرابا ، وأنا أتألم لما تعرض له عدد من زملائي أعرف جهدهم وإخلاصهم في أداء الواجب ويحاسبون لأنهم لم يقولوا «لا» لبن علي أو لأنهم نفذوا تعليماته الشفوية، من كان يجرؤ على ذلك في الظروف التي نعرفها جميعا خويا العزيز؟» وعندما تحاول جرّ المنذر الزنايدي للحديث عن الثورة لا يتردد في القول» الثورة قام بها أبناء شعبي وأنا أتشرف بها». أما عن الأوضاع التي تعرفها البلاد اليوم من تدهور اقتصادي وتراجع في الإستثمار وتدني الإنتاجية وضياع هيبة الدولة فيعيدها الزنايدي إلى ما يصفه ب«الخطيئة الأصلية» وهي عقيدة مسيحية تشير إلى وضع الإنسان الآثم الناتج من سقوط آدم، ويتصف هذا الوضع بأشكال عديدة، والمقصود من كلام المنذر الزنايدي أن التدمير طال القيمة الرمزية لرئيس الجمهورية ولمسؤولي الدولة فلم يعد لهم أي هيبة وفقدت الدولة زمام الأمور وهو ما يبرر حالة الفوضى في عدة أوجه من الحياة العامة وتراجع قيمة القانون لدى التونسيين. لا شك أن كثيرين يتذكرون أن المنذر الزنايدي كان الوزير الوحيد الذي دخل القصرين يوم الإثنين 10 جانفي 2011 بعد سقوط عدد من الشهداء برصاص البوليس ، ولم يتردد في مخاطبة الجماهير الغاضبة قائلا» أنا واحد منكم وإبنكم أعرف بعضكم وأعرف أعمامكم وآباءكم ... جئت إليكم متضامنا وأعبر عن تعاطفي معكم» وإتصل بقصر قرطاج ليطلب من بن علي سحب قوات البوليس وتعويضها بالجيش الوطني وهو ما أذعن له بعد تردد وحين سأله الرئيس المعزول عن آلام شعبه «شنوة صاير في القصرين؟» أجابه الوزير بلسان إبن القصرين «الفقر والبطالة كلاتهم». لا أحد يمكنه التكهن هل أدرك بن علي يومها معنى رد وزيره أو لا؟ ... ولكن حسنا فعل بن علي إن كان لم يفهم فقد عجّل بطء الفهم لديه برحيله بعد أيام قليلة ... في باريس» مدينة الجن والملائكة» يعيش المنذر الزنايدي صحبة زوجته وكثير من التونسيين هناك يخبرونك بأنهم شاهدوه في سيارة «فيات» أنيقة صغيرة الحجم في شوارع العاصمة أو صادفوه في شارع الشانزيليزي مترجلا أو في أحد المطاعم في «بالفيل»حيث الجالية التونسية، وحين يسأله أحدهم «وقتاش ترجع لتونس؟» يبتسم المنذر الزنايدي ويرد «خويا العزيز، قريبا إن شاء الله». فهل يعود المنذر الزنايدي إلى وطنه مرشحا رئاسيا وهل بوسعه أن يترشح بعد ان اختارت الحركة الدستورية مرشحا غيره؟ عن هذا السؤال يردّ الزنايدي بشيء من الحيطة قائلا «أنا دستوري وأتشرف بذلك ولكني أيضا إبن تونس الحديثة ، تونس المستقلة صاحبة السيادة، والقيم التي تجمعني بكثير من الأطياف السياسية وتجعلني أشعر بالإنتماء إليها جميعا ولكني لست منخرطا في أي حزب في الوقت الحالي ، والرئاسة ليست قضية أشخاص بل الأهم هو البرنامج ووضوح الرؤية والقدرة على الفعل»، والعارفون بالمنذر الزنايدي يشهدون بأن هذا الستيني مازال يتقد حيوية وبأنه مازال قادرا على تقديم الكثير لتونس وخدمتها كما فعل طيلة السنوات الماضية ...