العرب مغتربون عن أنفسهم.. ولذلك هم مغتربون عن ذاكرتهم حاوره: عبد السلام لصيلع لا شكّ أنّ الشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي.. قامة شعرية عربية من قامات الشعر العربي في العصر الحديث ومن أهمّ رموزه بما قدّمه للمكتبة الشعرية العربية من الدّواوين الشعرية الكثيرة، أوّلها «مدينة بلا قلب» الصّادر في عام 1959، وآخرها «طلل الوقت» منذ مدّة. كما أصدر عدة كتب في النقد والمتابعات الثقافية.. وترجمت مختارات من قصائده الى العديد من اللغات الحيّة.. وحصل على عدّة جوائز أدبيّة منها جائزة الدولة التقديرية في مصر وجائزة الشعر الافريقي من منتدى «أصيلة» في المغرب. في هذا الحوار الخاصّ يتحدّث الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي ل«التونسية»: في زياراتك العديدة الى تونس، كثيرا ما عبّرت عن اعجابك بشاعرها الرّائد أبي القاسم الشابي الذي أصبح شاعرا عالميّا بعد 80 سنة من وفاته. فما هو رأيك في هذا الشاعر العبقري؟ يمثّل أبو القاسم الشابّي إضافة أصيلة للشّعر العربي عموما وللشّعر العربي الحديث بشكل خاصّ. قصيدة النّثر في كتابك «قصيدة النّثر أو القصيدرة الخرساء» لماذا أنت ترفض هذه القصيدة وهي منتشرة بشكل واسع الآن في الوطن العربي ولا تشكل خطرا على القصيدة التقليدية الخليليّة؟ أنا لي ملحوظات على قصيدة النّثر. الملحوظة الأساسية هي أنّ قصيدة النثر لا تنتفع بأداة رئيسية وعنصر أساسي جوهري في خلق اللغة الشعرية وهو عنصر أساسي جوهري في خلق اللغة لأنه يجب أن نحدّد موقفنا من الوزن إمّا أن نقول إنّ الوزن ليس ضروريا للشعر وإمّا أن نقول إنّ الوزن ضروريّ للشعر ولكنّنا سنتخلّى عنه. الأولى أشكّ شكّا كبيرا فيها، فالوزن ضروريّ للشعر، والدّليل على هذا أنّ الشعر العربي والشعر في اللغات الأخرى كان مرتبطا دائما منذ بداياته بالوزن. وعندما نحدّد الأدوات الأساسية أو العناصر الرئيسية في اللغة الشعرية نقول إنّهما عنصران إثنان، العنصر الأوّل هو عنصر اللغة الرمزيّة أو لغة التصوير، لغة المجاز لأن الشعر لا يستعمل لغة التصوير. والعنصر الآخر هو الموسيقى، وهما ليسا منفصلين، فالموسيقى مرتبطة بالمجاز، والمجاز مرتبط بالموسيقى.. الموسيقى تستدعي المجاز، والمجاز يستدعي الموسيقى. والقصيدة كما يقال وكما تسمّى فنّ غنائي مرتبط بالغناء والموسيقى ومرتبط حتى بالرّقص. وإذن، فالموسيقى في الشعر جوهريّة. إذا كانت الموسيقى جوهريّة في الشعر فالتخلّي عنها خسارة طبعا. لا شكّ أنّنا نستطيع أن نجد في قصيدة النّثر شعرا لكنّه كما ذكرت في كتابي شعر ناقص، شعر كما تقول إنّ في مشهد غروب الشمس شعرا، أو كما تقول مثلا إنّ التصوير في لوحة من اللوحات فيه أسلوب شعري، أو كما تقول في النثر إنّ الرواية أيضا يمكن أن تستخدم اللغة الشعرية على الأقلّ في بعض الفصول أو في بعض المقاطع، وهكذا... فالشعر يمكن أن يكون في اللغة وفي غير اللغة، وحتى يمكن أن يكون موجودا في الطبيعة. أما الشعر بالمعنى الاصطلاحي والذي نجده في القصيدة فلا يمكن أن يستغني عن الموسيقى، وإذا تخلّينا عن الموسيقى، إذن، نحن تخلّينا عن عنصر رئيسي في قيام اللغة الشعرية، وهذا ليس في صالح القصيدة. أنا لا أرفض بالمعنى المطلق، لا،.. وإنّما أقول: لماذا لا نستفيد من الموسيقى؟.. وأستطيع أن أقرأ قصيدة النّثر وأستمتع بها لكن دون أن أعتبرها قصيدة.. أعتبرها نصّا فيه شاعريّة ولكنّه ليس هو القصيدة. وجهة نظر وقلت في هذا الكتاب إنّك لست في معركة شخصيّة مع قصيدة النّثر.. فهل من توضيح؟ بمعنى آخر أنا لا أشنّ حربا على قصيدة النثر لكنّي أوضّح وجهة نظر فقط. وبالعكس أنا أنشر قصيدة النثر في المجلة التي أرأس تحريرها، وهي «إبداع» ولي أصدقاء قريبون من الذين يكتبون قصيدة النّثر، وأستطيع أن أقرأ ما يكتبه مثلا شعراء مصريّون مثل محمود قرني ورفعت سلاّم وسواهما، وأستمتع بما يكتبون، بالإضافة طبعا إلى الآخرين. فالفكرة هي: أن نجيب عن السّؤال الآتي: لماذا لم تدخل قصيدة النّثر في تراث الشعر العربي حتى الآن ولماذا لم تستطع أن تحصل على الاعتراف من الجمهور؟ ليس كافيا أن يكون هناك ألف شابّ يكتبون قصيدة النّثر إنّما يجب أن يكون في مقابل كل شاعر يكتب قصيدة النثر جمهور يحبّ هذا الشعر ويعتبره شعرا بالفعل. وأنا لا أرى أنّ قصيدة النّثر لها هذا الجمهور المتذوّق، وأرى أن قصيدة النثر شيوعها خطر وليس حجّة لها وإنّما هو حجّة عليها وأعتقد أنّنا نمرّ بمرحلة لا نستطيع أن نعتبرها مرحلة ازدهار أبديّ، وهذه المرحلة من سيماتها الأساسية أنّ اللغة فيها متراجعة، ولذلك أعتقد أن الرّواج الذي تعرفه قصيدة النّثر في هذه الأيّام له علاقة بتراجع اللغة وبتراجع المعرفة اللغوية وبتراجع معرفة الناس باللغة. يجب أن نعيد النّظر في هذا كله وأن نحكم على المسائل دون تعصّب ودون أن نعتبر أنفسنا في معسكر.. لا.. يجب أن ننظر إلى الانتاج الأدبي باعتبارنا مسؤولين عنه كلّه ولسنا مسؤولين عنه الآن فقط وإنّما نحن مسؤولون عنه أيضا في المستقبل لأنّنا نورّث ما نقوم به الآن للأجيال القادمة، وبالتالي لا بدّ أن نشعر بالمسؤوليّة. ليست المسألة أن نجلس في مقهى وجماعة تعتبر نفسها حزبا أو طائفة خاصّة تدافع عن نفسها إزاء معسكر آخر، هذا ما لا أراه صوابا. بين الشاعر والنّاقد ما الذي بينك وبين الدكتور جابر عصفور؟ ما الذي يمكن أن يكون بين الشاعر والنّاقد. من ديوانك الأوّل «مدينة بلا قلب» إلى ديوانك الأخير، ما الذي بقي ثابتا فيك وما الذي تغيّر؟ لا أدري.. هذا السؤال يوجّه إلى النقّاد. ماذا تقول للأجيال الشعريّة القادمة؟ أن يحبّوا الشعر أكثر من أنفسهم. عرب بلا ذاكرة أنت شاعر عربي من شعراء ذلك الزّمن العربي الجميل في خمسينات وستّينات وسبعينات القرن الماضي.. فما الذي بقي من شعراء وشعر تلك المرحلة؟ بقي الكثير.. بقي الكثير.. ويجب أن نعترف بأنّنا ضعاف الذاكرة وأن مؤسّساتنا التي تقوم على المحافظة على التّراث والتذكير بالتراث الأدبي والثقافي والفنّي الذي يجب أن نتذكّره لا تقوم بواجبها.. أحيانا تمرّ الشهور دون أن أستمع إلى لحن لعبد الوهاب. ما الذي حدث لهذه البلاد؟.. مثلا، كيف ننظر الآن في الصحّف والكتب والمجلات ولا نجد ذكرا لبدر شاكر السيّاب؟.. هذا فقدان للذّاكرة.. وفقدان الذاكرة هو في الواقع نوع من الاغتراب عن النفس وعن الذات، يعني العرب الآن مغتربون عن أنفسهم، ولذلك هم مغتربون عن ذاكرتهم، لأنه ما هي النفس أو ما هي الذات القوميّة؟ هي التراث الذي صنعته لنا الأجيال الماضية ونحن ورثناه. إذا لم نتذكّر هذا التّراث فكأنّنا مولودون بالأمس.. والبشر الذين يولدون بالأمس هم الحيوانات.. بمعنى أن الإنسان هو الحيوان الذي له تاريخ، فإذا لم يكن له تاريخ فهو حيوان فقط.. الإنسان له تاريخ بأنّ الإنسان حيوان ناطق. إذا لم يكن للإنسان تاريخ فهو ليس ناطقا، وبالتالي هو حيوان فحسب.