بقلم : أحمد الرحموني (رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء) خيرت السيدة نورة البورصالي ان تقدم مساء أوّل أمس استقالتها من «هيئة الحقيقة والكرامة» وأن تعلم الرّأي العام بذلك قبل ان يتمّ البتّ في تلك الاستقالة مبيّنة أنه لا تراجع عن قرارها مغادرة الهيئة .ورغم ان طلب الاعفاء من المسؤولية يبقى حقا مشروعا لا يقبل مبدئيا أي تقييد فإنّ سياق هذه الاستقالة يدعو إلى ابداء عدد من الملاحظات في ضوء التبريرات المعلنة : أولا: ان استقالة السيدة البورصالي هي الثالثة من نوعها من جملة ثلاث استقالات تمّت بالتعاقب وقبل ان تبدأ هيئة الحقيقة والكرامة أعمالها ويتسلم الاعضاء مهامهم بصفة فعلية. ولذلك يبدو أكيدا أنه لا علاقة لهذه الاستقالة بممارسة صلاحيات الهيئة أو بالصعوبات الطارئة على عملها خصوصا وان الهيئة لم تبرح الى الآن مرحلة التحضيرات الأولية. ثانيا: ان هيئة الحقيقة والكرامة خضعت منذ انشائها الى اليوم وقبل ان تصرّح بتوجهاتها إلى انتقادات كثيرة تعلقت سواء بطريقة انتخابها أو بتركيبتها أو بحيادها إضافة الى هرسلة دائمة لم تشهدها أية من الهيئات المحدثة في هذه المرحلة الانتقالية .ويلاحظ اضافة إلى ذلك ان استهداف الهيئة قد اخذ مناحي اكثر جدية بعد التصريحات المباشرة للسيد الباجي قائد السبسي التي تحدثت عن «عدالة انتقامية» ورغبة في مراجعة المسار باكمله . ثالثا: ان ردود الافعال الصادرة من الهيئة تجاه استهدافها أو انتقادها لم تعبّر عن التضامن التقليدي المتوقع من هيئة متماسكة تعكس رؤية موحّدة بل ابرزت تصدّعا مثيرا للتساؤل وهو ما تجسّم في استقالة الاعضاء الثلاثة .ولذلك يبدو من البديهي ان نعتبر الاستقالة الاخيرة مظهرا سلبيا لهيئة ناشئة كان من المفروض ان يساعد الاعضاء انفسهم على«تلاحمها». رابعا:ان استقالة السيدة البورصالي تميّزت كسابقاتها بالغموض والتحفظ كما ان البلاغ الصحفي الصادر بشأن ذلك اخفى الدوافع الحقيقية للتخلي عن عضوية الهيئة واكتفى بالقول ان الاستقالة تعبّر عن قناعة السيدة البورصالي بانه من الضروري اليوم تصحيح مسار العدالة الانتقالية الذي يمثل في رأيها الضمان الوحيد لنجاحها. ولعل ابرز التداعيات المترتبة عن ذلك هو الحديث عن ازمة داخلية للهيئة ناشئة عن خلافات بين اعضائها وطريقة تسييرها. خامسا: يتبيّن ان السيدة البورصالي حاولت في خطاب استقالتها الموجه للرأي العام ان تبرز موقعها المستقل داخل الهيئة رغم ان ذلك مفترض في جميع الاعضاء وذلك بتاكيدها انها ترفض في آن واحد الاتجاهين السياسيين البارزين : أولهما: الاتجاه الذي يستعمل تعلة تهديد مسار العدالة الانتقالية من طرف قوى سياسية معادية له حتى لا يقع التفكير في تصحيحه ويمكن آن يكون من ضمن المقصودين القوى الموصوفة بالثورية والداعية الى المحاسبة والمساءلة ثانيهما: الاتجاه الذي ينظر الى العدالة الانتقالية كانها عدالة انتقائية أو انتقامية ويمكن ان يكون المقصود كل من يرفض مسار العدالة الانتقالية من رموز النظام القديم أو المنتفعين منه. لكن رغم كل ذلك الاقناع فمن الملاحظ ان اهم المنادين الآن«باعادة النظرفي قانون العدالة الانتقالية وفي تركيبة ورئاسة الهيئة على أساس معايير الكفاءة والاستقلالية السياسية الحقيقية» هو حزب حركة «نداء تونس» ومن شأن هذا السياق ان يدخل مزيدا من الالتباسات على مبادرة السيدة البورصالي بالاستقالة دون انتظار ان تتضح التوجهات ازاء قانون العدالة الانتقالية في مجلس الشعب القادم . أخيرا يمكن التاكيد بعيدا عن أي تجاذب سياسي ان الحكم على هيئة الحقيقة والكرامة في المرحلة القادمة يجب ان يكون مرتبطا بادائها وان العمل على إضعافها قبل أن تبدأ لا يبدو خيارا سليما وملائما لعملية الانتقال الديمقراطي دون ان يمنع ذلك من اعادة النظرفي آليات العدالة الانتقالية وهياكلها بقصد تطويرها وزيادة نجاعتها.