بقلم الأستاذ مختار الحجلاوي (المحامي والباحث في تصحيح الفكر الإسلامي [email protected]) بعد تطرّقنا في الجزء الأوّل إلى أوّل الكلام (انظر «التونسية» العدد 1127 ص 8) حيث بيّنا فيه كيف أنّ «داعش» ومشتقّاتها ما هي إلاّ انعكاس ومآل حتمي لفقهٍ وفكرٍ كلاهما متعفّن، تُصرّ الغالبية العظمى من زاعمي التفقّه في الدّين على وصفه بالإسلامي.. نلج الآن إلى تحليل الشواهد على صحّة الحكم الذي أطلقنا عسى أن تتجلّى حقائق الأمور في هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي يجب أن يُفضح فيها ويُعرّى كلّ ما يتهدّد وجودنا ويمنعنا من بناء مستقبلنا على قواعد متينة من الحرّية والعدالة والسّلام.. وإنّه لا دفاع عن الإسلام الحقّ وعن الذات وعن القيم الإنسانية السامية إلاّ بمعرفة الأنا وإدراك الماهية الفكرية والعقلية الذهنية التي يقوم عليها هذا الأنا الراهن المرتبط بتراكمات تشكّله عبر التاريخ.. مركزية فكرة التكفير وحدّ الردّة من أعمدة الفكر الإسلامي –الذي يتعيّن تصحيحه وإحلال فكر بديل عنه- فكرة التكفير وابتداع حدّ القتل لما يُسمّى بالردّة، وكم كثرت في موروثنا الفقهفكري حدود القتل دون سند قرآني صحيح حتّى جاز وصف هذا الفقه بفقه القتل، كما جاز وصفه في مواضع أخرى بفقه الجنس، وفي العموم أعتبره فقه الفواحش لأنّه ما من فاحشة إلاّ أبيحت فيه.. أباحوا سبي النساء واتخاذهن جواري وإماء، وبرّروا العبودية والاسترقاق، ونظّروا للنفاق وحرّضوا عليه، وجوّزوا الاستبداد وقدّسوا معاوية بن أبي سفيان مغتصب السلطة محتكرها في ذرّيته، كما أباحوا القتل على أتفه الأسباب وتفنّنوا في ابتداع أشكال القتل بالتحريق ورضخ الرؤوس والرمي من أعالي الجبال والنكس في الآبار والخزق بالنبال.. والقائمة تطول كما سنرى. لا يخلو أيّ كتاب مِن كتب مَن نسمّيهم أئمّة، ولا أيّ كتاب مِن كتب تلامذتهم ومريديهم مِن وصف الأخر بالكفر وإطلاق العنان لذلك دون حسيب ولا رقيب، وهو موقف لو يعلمون خطير، لا تكمن خطورته في العلاقة مع الخالق فقط وإنّما تتعدّى هذا المستوى العمودي لتشمل المستوى الأفقي المرتبط مع المخلوق.. جهلوا أنّ الله وحده من يحتكر الصلاحية المطلقة لوصف أيّ فعل أو شخص بالكفر فهو الوحيد العليم بمن آمن وبمن جحد، يطّلع على الصدور ولا يقدر على ذلك أحد منّا أو من أئمّتنا ومشائخنا الذين تحوّلوا ضمن موروثنا الفقهفكري إلى أصنام نعبدها من دون الله وأنشؤوا أدياناً بموازاة دين الله. إنّه لا يملك أيّ أحد مهما ادعى مِن علم ودراية الحقَّ في نسبة صفة الكفر لغيره كما لا يملك من باب أولى وأحرى أن يزكّي نفسه ويختم بالتالي له أو لغيره صكّ دخول الجنّة والخلود فيها. لقد حكم الله على أولئك بأنّهم «لا يعلمون» وشبّههم باليهود حينما قالت ليست النصارى على شيء وبالنصارى حينما قالت ليست اليهود على شيء واعتبر كلّ ذلك مجرّد أضغاث أماني ليس إلاّ (سورة البقرة الآيتان111 و113). وجهلوا بأنّ العلاقة بين الإنسان والإنسان لا يحكمها الكفر ولا الإيمان لأنّ الله وحده من يحاسب ويجزي، وإنّما تحكمها جملة الروابط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لأنّ الله ما خلق الذكر والأنثى وجعلهم شعوباً وقبائل إلاّ ليتعارفوا (سورة الحجرات آية13) وجرّهم جهلهم ذاك إلى الاعتقاد بدعوة الإسلام إلى إقامة دولة دينية أطلقوا عليها وصف الخلافة، اعتقاد خُرّبت به الأرض بعد إذ كانت عامرة وانتهكت على أساسه حرمات كانت مصانة واستعبدت شعوب ورُهّبت بعد إذ كانت آمنة وسالت من جرّائه دماء طاهرة زكية واشتوت لحوم بشرية وارتُكبت الفضاعات. واقتضت فكرة التكفير ابتداع حدّ القتل للمرتدّ، والإسلام الحقّ من ذلك براء، ولبّست لأجل ذلك على الرسول(ص) أحاديث كثيرة وروايات متنوّعة تزخر بها كتب الأحاديث والسِيَر، والأخطر من كلّ ذلك الكتب الدراسية التي ينهل منها تلامذتنا منذ نعومة أظافرهم.. ثمّ نتساءل من أين أتت إلينا «داعش» وكلّ الحركات الإسلاموية على اختلاف تسمياتها وتصنيفاتها، فالكلّ عندي سواء، يتّحدون في المنطلقات وفي الغايات ولا يختلفون إلاّ في الوسائل والتكتيكات؟ أو نتحسّر على فلذات أكبادنا وقد جرّتهم هذه التيّارات لساحات القتل والتخريب والتدمير والتفجير؟ حان الوقت لرفع الصوت عاليا: ليس في الإسلام الحقّ، دين الله وليس أديان البشر شيء اسمه حدّ الردّة، بل ثمّة مبدأ الحرّية المطلقة في الإيمان والكفر.. ولا بدّ أن نعي أنّ من الجنايات الكبرى للموروث الفقهفكري علينا إنكاره لهذه الحرّية واستبدالها بفرية التكفير.. ألا لعن الله التكفيريين، خرّبوا الدين ويبتغون تخريب الدنيا.. ألا سحقاً لخَبَل الموروث مشوِّه الدّين ومُذهب عقول البسطاء والتافهين.. لم يكتف الموروث بذلك، وكان عليه أن يزيّف التاريخ فيروي لنا أنّ الصحابة مارسوا كلّ تلك الفضاعات والشناعات، فتنطلق المخيّلات في التباهي بمحاربة أبي بكر الصديق للمرتدّين عقب وفات الرسول(ص) وما ذلك بالصحيح في التاريخ بالمطلق.. ويبقى الأدهى من كلّ ذلك تلفيق روايات الحرق بالنار على أبي بكر وعليّ بن أبي طالب.. الحرق بالنار ممارسة مشروعة لدى الخلفاء الراشدين ليس هذا قولنا، فنحن نردّه ونمتلك أدوات دحضه من القرآن والسنّة الحقّ وأحداث التاريخ الصحيحة وبالعقل والمنطق والتحليل السليم.. وإنّما هو قول «علماء وفقهاء» الموروث ورواة الحديث الملفّق كما سنرى، لتزول وقتها كلّ أسباب الحيرة لدى الكثيرين منّا وهم يقرؤون عمّا يصنع الدواعش ومَن في ركبهم أو يسمعون عنه أو يشاهدونه، ونعني بذلك القتل عن طريق الرجم بالحجارة أو الرمي من أعالي البنايات وفي أعمق الحفر أو الذبح أو الحرق وفي العموم جميع أشكال التنكيل بابن آدم الذي كرّمه الله فشاء بعض البشر إلاّ به تشنيعاً.. ويحصل الاقتناع بأنّ التصدّي لإرهاب «داعش» وأخواتها سواء أكانوا حمائم أم صقوراً يجب أن يسبقه علم بالموروث والسموم المدسوسة فيه، لنُقْلِعَ عنه نحو فكرٍ متحررٍ وفقهٍ مستنيرٍ يلبّي موجبات الاستخلاف الحقيقي للإنسان في الأرض.. أورد الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك خطاباً ينسبه لأبي بكر الصدّيق موجّهاً إلى القبائل بمناسبة ما وُصف غلطاً بحروب الردّة وما هي في الحقيقية إلاّ حرب على من راموا الانسلاخ عن دولة المدينة والاستقلال عنها بما كان يمثّل تهديداً لها ولوجودها، فكانت لذلك أسبابها سياسية لا دينية، نقتطع من نصّه ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله (ص) إلى من بلغه كتابي هذا من عامّة وخاصّة، أقام على إسلامه أو رجع عنه، سلام على من اتبع الهدى (...) وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله، نقرّ بما جاء به، ونكفّر من أبى ونجاهده (...) وضرب رسول الله (ص) بإذنه من أدبر عنه حتّى صار إلى الإسلام طوعاً وكرهاً (...) ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثمّ لا يُبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلاّ الإسلام (...)».. كما أورد أيضاً كتاباً ينسبه إلى أبي بكر موجّهاً إيّاه إلى أمراء حربه، نقتطع منه النصّ التالي: «... ومن لم يُجب داعية الله قُتِل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمه لا يُقبل من أحد شيئًا أعطاه إلاّ الإسلام فمن أجابه وأقرّ قُبل منه، وعلمه ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه قتل منهم كلّ قتلة بالسلاح والنيران (...)» وهذان الكتابان المنسوبان لأبي بكر يمثّلان لدى الطبري وغيره من المؤرّخين والفقهاء السلف أحد أبرز الحجج والأدلّة التي يستندون عليها في إطلاق وصف حروب الردّة على تلك المعارك التي شهدتها أطراف دولة المدينة عقب وفاة الرسول(ص)، ويتخذها الموروث والحركات الإسلاموية المعاصرة ذريعة للتكفير والتشنيع في القتل والحرق بالنار والرضخ بالحجارة ورمي الناس من فوق الجبال ونكسهم في الآبار وخزقهم بالنبال وسبي النساء والذراري.. وسمحا للطبري بعرض الأحاديث التالية، بعد تسليمه بصحتها: «حدّثنا السري عن(فلان عن علان) فقبل منهم إلاّ قرة بن هبيرة، ونفراً معه أوثقهم، ومثّل بالذين عدوا على الإسلام فأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة ورمى بهم من الجبال ونكسهم في الآبار وخزقهم بالنبال (...)».. والحديث: «حدّثنا السري قال (فلان عن علان) فمنهم من أحرق، ومنهم من قمطه ورضخه بالحجارة ومنهم من رمى به من رؤوس الجبال (...)».. والحديث: «قال السري، قال شعيب (فلان عن علان) وهرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره، ثمّ بعث به إلى أبي بكر فقدم به على أبي بكر فأمر فأوقد له ناراً في مصلّى المدينة على حطب كثير ثمّ رُمي به فيها مقموطاً.».. كما أورد البخاري في «صحيحه» وابن حجر العسقلاني في كتابه المِلل والنِحَل أحاديث يزعمون فيها أنّ علي بن أبي طالب حرق بالنار عبد الله بن سبإ وجماعة معه من الخوارج.. فكيفكم تلومون «داعش» وتُنكرون شنيع أفعالها وفي ذات الوقت تستطيبون روائح العفن المنبعث من كتب الموروث «المجيد التليد المقدّس» !!.. لقد حقّ قوله جلّ وعلا:{وقال الرسول يا رب إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } (سورة الفرقان آية30) هجروا القرآن إلى أحاديث زعموا أنّها للرسول(ص) وإلى أقوال ومعتقدات مَن تجوز تسميتهم بأصنام التاريخ، آلهة البسطاء والسُذج المساكين، بناة الموروث العتيق المتهالك المسبب للهلاك.. (يتبع)