أمراض الانتاج لا تنتقل بالعدوى الى مصانع التحويل 80 ٪ من الأعلاف والأدوية والتلاقيح الخاصة ب«الدجاجة» مستوردة من الخارج! فيما ارتفعت القدرة التنافسية لعديد القطاعات على غرار الصناعات الميكانيكة والالكترونية الى مستويات سمحت لها بالولوج الى «أشرس» الأسواق العالمية مازالت اذرع هامة من النسيج الصناعي والفلاحي «تتقوقع» في السوق المحلية غير قادرة على تجاوز أمراضها المزمنة وتبعاتها على الجودة والكلفة وحتى.. السلامة. من الحليب الى الدواجن مرورا باللحوم ومعجون الطماطم إخلالات بالجملة يبدو أنها قد ساهمت فيها بقسط كبير «المطلة الحمائية» التي لم تشجع على بذل مجهود أكبر للخروج من العباءة التقليدية ومسايرة التقدم التكنولوجي بما يفتح لها نافذة على العالم تلك المنتوجات «ممنوعة من السفر» أو بالأحرى ليس بامكانها أن تجتاز «المتوسط» إما بسبب ضعف نسبة الاندماج أو عدم توفر فائض هيكلي يوجه للتصدير أو بفعل إخلالات على مستوى الجودة تجعلها لا تحصل على «تأشيرة» الدخول إلى الأسواق الأوروبية وذلك لجملة من الأسباب أهمها عدم التوفق إلى حدّ الآن في تكريس علاقات تعاقدية تضامنية بين المنتجين والمحولين تؤدي الى غلق الثغرات الناجمة عن ضعف القدرات المالية والهيكلية للقطاع الفلاحي. تسويق عشوائي وجراثيم! قطاع الحليب يطرح في خضم الوضع الراهن مخاطر جسيمة على صحة وسلامة المستهلك بفضل ضعف التحكم في وسائل الوقاية , وعناصر الجودة من المراعي والإسطبلات إلى المحلات التجارية والباعة المتجولين مرورا بسائر حلقات التجميع والنقل. بل إن أحد الخبراء أكد أن حجم المخاطر الموجودة في مسالك الترويج العشوائي لهذا المنتوج الحساس مفتوح على كل الاحتمالات لغياب الرقابة أصلا. ويؤدي ضعف الوعي بالتقنيات الوقائية على مستوى الانتاج والنقل إلى تمركز الجراثيم بنسب تعادل عشرات أضعاف المعدلات الأوروبية. كما تمثل «عقابا» لقطاع التحويل أو مركزيات الحليب التي لا يمكنها أن تتحكم كليا في تبعات تلك المراحل رغم استعمالها لأحدث التجهيزات ودخولها في علاقات شراكة مع علامات أوروبية. وفيما يزيد التعقيم في درجات حرارة مرتفعة «U.H.V» على مستوى المصانع من القضاء بنسبة 100 ٪ على الجراثيم فإنه لا يوقف تبعات إخلالات أخرى على مستوى الجودة منها ضعف نسبة البروتينات التي لا تتعدى 27 غرام مقابل معدل 33 غرام في منطقة اليورو إلى جانب ضعف نسبة الكثافة Densité نتيجة زيادة كميات من الماء الى الحليب في طور الانتاج والتوزيع. وتعدّ تلك الثغرات الى جانب عدم توفر فائض هيكلي للإنتاج سببا مباشرا لقصور «الحليب التونسي» على النفاذ الى السوق الأوروبية حيث أن الصادرات الضئيلة التي تنجز في بعض المواسم توجه الى بعض دول الجوار الافريقية. من وراء البحار من جهته يطرح قطاع الدواجن مفارقات بالجملة أولها أنه الاضعف تقريبا على مستوى نسبة الاندماج أي مساهمة المكونات الوطنية في «الدجاجة» والتي لا تتعدى 20 ٪ حيث تضطر تونس توريد ال 80 ٪ الأخرى من وراء البحار ومنها بالخصوص الأعلاف أساسا القطانيا والصوجا الي جانب الأدوية والتلاقيح وأحيانا «بيض التفقيس » وهو ما قد يدفع إلى التساؤل: لماذا ننتج لحوم الدواجن في تونس والحال أن أغلب مكوناتها مستورد من الخارج كما أن سعر اللحوم الموردة أقل من سعر البيع للعموم في تونس؟ مصانع متورطة! وتطرح في السياق ذاته مخاطر صحية جسيمة وأخرى تتعلق بالجودة لجهة عدم التوفق في غلق روافد «الدجاج الحي» رغم التحجيرات القانونية والترتيبية العديدة التي ظهرت خاصة عقب الانتشار الواسع لأنفلونزا الطيور على الصعيد العالمي والتي تنص على توثيق العلاقة بين المربين ووحدات التحويل التي يفترض أن تكون المزود الوحيد للحوم الدواجن ومشتقاتها بل إن بعض وحدات التحويل ضالعة في تسويق الدجاج الحي عبر ما يعرف بظاهرة «الدوارجية»! ومن جهته مازال قطاع معجون الطماطم يعاني من عديد الاخلالات رغم القفزة التي شهدها منذ نهاية الثمانينات والمتمثلة خاصة في مضاعفة معدل الانتاجية وتأهيل وحدات التحويل وتحقيق صادرات بمعدل 20 ألف طن في العام. وفيما يعتبر التونسي أول مستهلك لمعجون الطماطم في العالم بمعدل نحو 10 كلغ في العالم فإن هذا الموطن لم يحفز كما ينبغي منظومة الطماطم على مسايرة التقدم التكنولوجي والتحكم في المردودية والجودة. وفي حين تعد تونس من بين كبار المنتجين في العالم فإنها تعد الأضعف من ناحية المردودية الفلاحية التي لا تتجاوز 40 طنا في الهكتار وكذلك على مستوى وحدات التحويل حيث يتطلب إنتاج كلغ واحد من معجون الطماطم نحو 6 كلغ من الطماطم الطازجة علما وأن هذا المشكل زادت حدته في المواسم الأربعة الأخيرة. كما أن كثرة الشوائب والطماطم غير مكتملة النضج في طور الانتاج الفلاحي يلقي بظلاله لا فقط على مردودية وحدات التحويل بل وأيضا على جودة المنتوج النهائي خصوصا وأن نحو 20 ٪ فقط من المصانع مجهزة بخطوط تعقيم أولية. تعقيم كيمياوي! وفيما حجّر الاتحاد الأوروبي منذ أواسط التسعينات التعقيم بالمواد الكيميائية للمواد الغذاذية والمنتوجات الجلدية فإن قطاع «المصبرات» برمته مازال يحتكم الى تلك المواد التي تؤدي بفعل التراكم الي احتمال الاصابة بالأمراض الخبيثة علما وأن البنية الأساسية في تونس تؤخر البدائل المتمثلة في التعقيم النووي. ويشكو ذات القطاع من اخلالات أخرى على مستوى طرق العرض حيث أن كامل الانتاج تقريبا مازال يعرض في علب معدنية كما أنه رغم ثراء تشكيلة المنتجات التي يمكن استخراجها من الطماطم فإن في تونس ظلت تقتصر على ثنائي التركيز مع تطور محتشم لبقية المنتجات مثل «الكات شوب» والطماطم «كعب» أو المجففة. أسعار في السماء وعلى صعيد أخر تطرح منظومة اللحوم الحمراء أسئلة كثيرة حائرة في خضم تراجع مستوى الانتاج وضعف هيكلة كامل حلقات المنظومة وخاصة التوزيع التي مازال يحتكم الى أساليب تقليدية عشوائية ويبدو أن تلك الاخلالات ساهمت تدريجيا في جعل اللحوم الحمراء تقفز فوق القدرة الشرائية لقطاعات واسعة من المجتمع وكذلك عاجزة عن توفير كل الاحتياجات الوطنية رغم التراجع المسجل على مستوى الاستهلاك والذي أدى الى غلق محلات مئات القصابين؟ بل إن الأغرب من ذلك أنه لم يتم الى حد الآن ارساء سياسة واضحة لتعديل السوق تقوم على وجود عجز هيكلي في الانتاج إلى جانب التشتت الحاصل على مستوى الاختيار بين توريد اللحوم الجاهزة للاستهلاك أو العجول المعدة للتسمين التي تزيد في تأزيم النقص الهيكلي على مستوى الأعلاف وغلائها. ويطرح التسويق العشوائي للحوم الحمراء بدوره رهانات أخرى على مستوى جودة وسلامة المنتوجات المعروضة كما يقف حجر عثرة أمام تطوير أساليب العرض ومزيد التحكم في الأسعار وخاصة عبر اعتماد تصنيف مماثل لماهو موجود في المنطقة الأوروبية حيث تتوزع اللحوم على عشرات الأصناف. نافذة على العالم بالمحصلة إن تلك المنظومات التي تضطلع بدور بارز على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي في حاجة اليوم الى أن تعديل ساعتها على «التوقيت العالمي» عبر ارساء سياسات جدية شاملة تخرجها من عباءتها المحلية وتذكي المنافسة تدريجيا لاستقطاب الشركات والاستفادة من فرص نقل التكنولوجيا ووضع حد للإخلالات الناشئة عن محدودية القدرات المالية والهيكلية للفلاحين والمربين خاصة من خلال علاقات شراكة تضامنية مع قطاع التحويل يبدو أنه طال انتظارها أكثر من اللزوم بمعنى آخر إن تلك القطاعات تحتاج الى الخروج من دائرة «ملاحقة الكلفة» والتقوقع في السوق الداخلية عبر احكام الاستفادة من الطاقات الهامة الكامنة في العديد منها لتحقيق انتظام الانتاج والنهوض بالجودة واكتساح الأسواق العالمية وهو ما سيتيح لها مزيد التحكم في الكلفة.