معادلة الحرية والقانون والأمن القومي.. حجر الزّاوية استرجاع هيبة الدّولة يقتضي ضرب الكبار بدل ملاحقة الصّغار تلقى أعضاء القنصلية العامة لتونس بطرابلس مساء أمس الأوّل باستياء وتوجّس بالغين وقع كلام أحد المتدخلين على منبر إحدى القنوات التلفزية التونسية الخاصة توجه إلى إقحام أعضاء القنصلية في ملف على صلة بالإرهاب على الملإ. صاحب التدخل أكّد على أنه حاول الاتصال دون جدوى بمقر القنصلية عبر الهاتف مسقطا من حساباته فارق التوقيت بين تونس وطرابلس! بالمحصلة قد لا يكون المتدخل على معرفة بنواميس العمل الديبلوماسي و«تعقد» الأوضاع بما يكفي في ليبيا بما يعني أن خوض أعضاء القنصلية على الملإ في ما أثاره كان يمكن أن يؤول إلى عواقب وخيمة قد تصل إلى تهديدات جدية بنسقها. الدولة والإعلام ! لقد كنت على امتداد عقدين من الزمن من المنتصرين لحرية الإعلام لقناعة راسخة بأن نفس الإصلاح لن يتعمّق في هذا البلد دون إعلام قادر على الولوج إلى أعماق الأشياء وخلق حوار وطني صريح وربما مؤلم للبعض لكنه يصنع الحلول.. لكن تلك الحرية تقتضي الوعي بأن وقودها واستدامتها هما أولا احترام القانون ثم إعطاء المثال في الفهم الدقيق للقضايا الحقيقية للبلاد وحدود التمفصل بين الحريات والمصلحة الوطنية التي يفترض أن تكون أعلى من الجميع.. دون استثناء. إن طفرة الإعلام التي أدركتها تونس خلال السنوات الأخيرة قد تكون المكسب الوحيد في خضم «الصدمة الحضارية» الناشئة عن التردّي الخطير لسائر الأوضاع لا سيما إبّان حكم «الترويكا» وبعيدها.. لكن تلك الطفرة تحتاج اليوم إلى غربلة وترشيد وتثقيف بالتوازي مع مسار إعادة الرّوح إلى كيان الدّولة التي ظلت «طريدة» على مدى الرباعية الأخيرة. حسّ سياسي ذاك التحدّي موكول رأسا وبالدرجة الأولى إلى المهنيين قبل غيرهم من إعلاميين وأصحاب مؤسّسات عبر تفعيل ما يتوفّر لديهم أكثر من غيرهم من حس سياسي مرهف وتفعيل خزان الكفاءات الذي تمتلكه الأسرة الإعلامية الوطنية لأخذ زمام المبادرة والسبق في فهم استحقاقات المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها البلاد ودفع الجميع إلى جدار الحقيقة بما في ذلك قطاعات واسعة مما يسمى النخبة السياسية التي تحتاج أغلب مكوناتها اليوم إلى دروس في محو الأمية حتى تعي جيّدا حدود دورها وتفهم أوجاع الوطن وعلاّته وتطلعاته وورقاته الرابحة التي تبوّئه لمكان أكثر تقدما في كوكبة الدول متى تخلص من الشعبويات والتجاذبات والاختلال المزمن في منظومة الحقوق والواجبات. لكن تلك المتطلبات الداخلية لا تعدو أن تكون سوى نزرا قليلا من شروط استكمال صرح إعلامي يكون القاطرة الأولى التي تدفع مسار الإصلاح والتقدّم والحداثة وإزالة كثير من الأدران الحضارية التي تمسك بتلابيب الوطن منذ عقود والناشئة عن عدم الحسم في مسائل جوهرية منها موقع الدين وحدود التمفصل بين العام والخاص والاقتصادي والاجتماعي.. والحق والواجب. تلوّث.. إلى متى ؟ بمعنى آخر إنّ الإعلام هو تلك المرآة التي تعكس ما يتفاعل وينشأ داخل المجتمع بجميع مكوناته وعليه فإنّ ما يختزله من كفاءات وقدرات لن يكون كافيا لتحقيق المنعرج المنشود على صعيد الحوار الوطني في مرتكزاته وأولوياته ومراميه لجهة التلوّث الذي مازال جاثما على الحياة العامة بكل مكوناتها ومفاصلها. ذاك التلوث تتحمله بالدرجة الأولى الحكومة من خلال الكآبة التي مازالت تطبع أدواتها الاتصالية إلاّ في بعض المواقع والتي تحول دون ملء الساحة الإعلامية والدفع نحو حوار يستبدل الشعبويات بالهيكلي والعقلاني والإثارة بالدقة والوضوح وذلك عبر حسن توظيف الكثير من الملفات والمعطيات حبيسة المكاتب والرفوف والجدران المغلقة. القانون فوق الجميع ؟ تلك المسؤولية تتحمّلها أيضا من خلال فتور عدم الحسم والحزم في تطهير الحياة العامة ووضع حدّ لمفهوم الإفلات من العقاب الذي لا يمكن الحديث عن «دولة» في ظلّ تواصله بشكل يدفع إلى الإحباط ويقطع الطريق أمام ما تحتاجه هذه المرحلة من إنعاش للأمل.. والذي وصل إلى حدّ ازدراء مواقع حساسة في رأس النظام «The System» بما في ذلك «الأمن» أو الخوض على الملإ في مسائل يفترض أن تعالج داخل بيته الحصين وهي شطحات مربكة لصورة الدولة وتقلّص من وقع المكاسب التي تحصدها الحكومة في عديد الميادين وأولها الأمنيات ومحيط العيش رغم قلة ذات اليد وجبل المشاكل المتراكمة. بمعنى آخر إنّ البلاد تحتاج اليوم إلى رسائل قوية ترسخ الاقتناع بعودة علوية القانون وهيبة الدولة ولن يتحقّق ذلك إلاّ بضربات كبرى تستهدف «الحيتان» في قطاعات عدّة مثل التهريب والاحتكار وسائر مفاصل الحياة العامة بدل مطاردة الصغار. ثغرات وعلى الحكومة أيضا أن تغلق كثيرا من الثغرات التي مازالت قائمة وتربك المشهد الإعلامي وأولها غياب الشفافية والعدل في الاستشهار العمومي عقب نسف وكالة الاتصال الخارجي وعدم إيجاد بديل وهو فراغ قد تكون افتعلته واستثمرته جهات حكمت البلاد بهدف خلق ضغط على وسائل الإعلام قد يسهل التأثير على بعض خياراته. ومن تلك الثغرات أيضا التغاضي عن ملفات قد توحي بتوجه نحو تركيع الإعلام ومنها إيقاف الإعلامي معز بن غربية مؤخرا والذي جاء متزامنا مع انتقادات لاذعة كان قد وجهها إلى جانب أطراف أخرى إلى «الهايكا» على خلفية عدم وضوح معايير إسناد الرخص للمؤسسات الإعلامية. الإعلاميون والحيف في ذات الإطار تطرح مسألة الحاجة الملحة لوضع حدّ للحيف الذي يستشعره الإعلاميون لجهة أن كل القطاعات بلا استثناء قد استفادت من مؤازرة الدولة سواء في مرحلة بناء النسيج الاقتصادي أو حقبة التأهيل التي تزامنت مع تعميق مسار الانفتاح الاقتصادي.. فيما لم تبادل الدول إلى حدّ الآن إلى إرساء برنامج لدعم قطاع الإعلام يوفر الإمكانيات والآليات اللازمة لتطوير هيكلته وظروف اشتغاله. خطوات مشتركة لقد أنفقت الدولة بسخاء على كلّ القطاعات باستثناء الإعلام والحال أنه قاطرة الإصلاح التي بإمكانها أن تدفع بمسار التنمية الشاملة إلى مداه بما ينعكس بشكل إيجابي على كلّ القطاعات بما في ذلك خزائن الدولة من خلال العائدات الجبائية الإضافية لشحذ نسق النمو وبالتالي فإنّ وضع صندوق لتأهيل الإعلام سيكون استثمارا مجزيا إلى أبعد حدّ. كما أنّ خصوصية الصحافة تجعل الإعلاميين في حاجة إلى مستوى معيشي واجتماعي يختلف عن غيرهم وهو ما يتعارض مع حالةالكفاف التي يعيش عليها كثير من الإعلاميين. بالمحصلة إنّ استكمال بناء إعلام فاعل في مسار التقدم يحتاج بالضرورة إلى خطوات مشتركة تدفع باتجاه حراك إعلامي يعطي المثال في فهم المعادلة بين الحرية وسلطة القانون وأبعاد الأمن القومي... ويوفر الظروف الملائمة لاستدامة المؤسسات الإعلامية ويمكن الإعلاميين من المكانة المادية والمعنوية التي هم جديرون بها.