قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    سعيد: لا أحد فوق القانون والذين يدّعون بأنهم ضحايا لغياب الحرية هم من أشدّ أعدائها    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    يوميات المقاومة...تخوض اشتباكات ضارية بعد 200 يوم من الحرب ..المقاومة تواصل التصدي    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار الترجي الرياضي ...مخاوف من التحكيم وحذر من الانذارات    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    قرار قضائي بتجميد أموال شركة بيكيه لهذا السبب    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شكري المبخوت ل«التونسية»:الثورة التونسية لحظة شعرية وكل ما أتى بعدها نثر!
نشر في التونسية يوم 23 - 05 - 2015


الثورة انتهت
على المثقّف نقد كل شيء يتحرك ومجانًا
مواقفي السياسية واضحة، ولكنني لا أنتمي إلى أي حزب سياسي
كلّ الثورات منذورة للغدر والسرقة
حاورته: جيهان لغماري
أسئلة الحوار مع شكري المبخوت صائد الجوائز الأدبية في تونس وخارجها عن روايته البكر «الطلياني»، كانت جاهزة ومكتوبة ولكنّ إجاباته الدقيقة والمفصّلة فرّخت أسئلة أخرى، فإذا به يأخذنا من «الطلياني» وبه إلى عالم السياسة ورأيه في السياسيين، رؤيته لدور المثقف، موقفه من المشككين في جدارة روايته بالجوائز. طبعا لم يغفل عن طرح رؤاه في تقنيات الكتابة السردية ودافع عن شخصيات الرواية وترك حرية التأويل للقارئ،كما أكد أنّ «الطلياني» ليس سيرته الذاتية وسيكون له جزء ثان وربما أجزاء أخرى.دافع عن الروح التونسية للكتابة وبيّن ما ينقص الثقافة لتأخذ بُعدها المشعّ. وبين الرواية ومشاريعه المستقبلية والثقافة والسياسة والمرأة والثورة والشعر، تحدّث شكري المبخوت بإسهاب وطلاقة. فقط، حين تحدّث عن شكري بلعيد الشاعر، سكت لسانه وتحدثت عيناه بفائض من الدموع الغزيرة..
ما هي دوافع كتابة رواية «الطلياني» وما هي ظروفها؟ هل كانت تقريبا دفعة واحدة أم على فترات متباعدة؟
دوافع الكتابة لا تتطلب شروطا، فالإبداع لا يستشير والرواية أيضا. عموما السياق التي كتبت فيه الرواية سياق فيه كثير من الآمال وأيضا من المخاوف، هو سياق الفترة الانتقالية التي دائما ما تكون صعبة في البلدان التي عاشت مثل هذه التجربة. ما أهمّ من السياق هو أنّ الموضوع الذي أردت أن أتناوله لا تستوعبه في نظري إلا الرواية لأنها جنس أكول يهضم كل شيء ويقوم على الصراع والتحول لذلك فرض جنس الرواية نفسه باعتباره شكلا للموضوع الذي اخترت تناوله في «الطلياني».
كنتُ قادرا على كتابة سلسلة من المقالات الصحفية أو الاكتفاء بمقال مطول بمعنى essai ولكن كل ذلك ما كان ليكون كافيا للتعبير عن حاجة أساسية وهي كيف يرد الانسان الفعل إزاء محيطه المضطرب والمُتبلبل وكيف يدرك نفسه ويدرك الآخرين…
«الطلياني» كتبتها في فترة قصيرة دفعة واحدة.. «يحيى حقي» يقول عن احدى رواياته «خرجتْ كالطلقة» نفس الأمر حدث ل«الطلياني» دفعة واحدة.
لماذا اخترت أن تروي حكاية عبد الناصر على لسان الراوي وهو صديق مقرب منه؟ هل هي تقنية اخترتها عمدا أم حتى لا تُتَّهَمَ بكتابة سيرة ذاتية ليست لك القدرة على تحمّل تبعاتها الأدبية وأساسا الاجتماعية؟
أولا، اختيار الراوي مسألة لم تكن تقنية فقط فمن أسهل الاختيار لكتابة مثل هذه الرواية هو الراوي الكلاسيكي العليم الذي يعرف كل شيء. صادف أنْ تبيّن لي عند الكتابة أنّ الراوي لا يستطيع ان يكون إلا صديقا لعبد الناصر وصديق زينة في الآن نفسه وذلك لإضفاء نوع من المصداقية على مصدر الخبر ولتحقيق لعبة أخرى وهي التباعد بين الراوي والشخصية المنطمسة أو التي تقدم نفسها على أنها منطمسة لأن الراوي في «الطلياني» لديه خصوصيات.. وأنا لا اعرف الكثير من الروايات تشبهه وتحقق القصد، يكفي أنه (أي الراوي صديق عبد الناصر) أصبح مثار موضوع أدبي للنقاش. بعضهم يرى الراوي متعسفا والبعض الآخر يعتبره فكرة ذكية وهذا نقاش أدبي لأن الرواية تقترح جماليات أخرى في الكتابة. مع ذلك وحسب رأيي، إلى حد الآن لم يبرز الراوي وقيمته بطريقة حقيقية وسيكون له ذلك في الجزء الثاني من «الطلياني».
ولكن البعض من جيل شكري المبخوت يصرّ على أن الرواية وإن لم تكن سيرة ذاتية خالصة فإنها «شهادة على العصر»، على جيل كامل بخيباته وأحلامه مما يعطيها رغم محاولة تغليفها بتقنيات سردية، نفس السيرة الذاتية لعبد الناصر بطل الرواية والذي قد يكون اسمه الحقيقي شكري المبخوت أو صالح أو محسن أو الطاهر أو غيرها من الأسماء التي عايشها المبخوت..؟
(يضحك تم يتابع..) كنت أتمنى أن أكون أنا عبد الناصر بطل الرواية بما أن هذه الشخصية فتنت الناس ولكن اعتقد لو أنها كانت سيرة ذاتية فإنّ أخلاقيات الكتابة تفرض علينا احترامها وذلك بأن نقول بوضوح أنها سيرة ذاتية وهو ما يسمى السَّرْد بميثاق السيرة الذاتية. ليس في الأمر أي تخفّ أو تحيّل وإنما حين نبني شخصية متخيلة، تسمح لنا هذه الشخصية بأن ننتقي من مجال أوسع من ملامح أناس كثيرين ونضيف اليها من خيالنا. في بعض الأحيان أتعجب حين يقال لي شكري المبخوت هو الطلياني أو فيها سيرة ذاتية واتساءل هل حياتي أنا جديرة بأن تُكتب؟ وماذا عشتُ حتى أكتب سيرتي الذاتية؟. ليست كل حياة جديرة بالكتابة، ثم إننا حين نكتب السيرة الذاتية إمّا لنتفاخر وأنا لا أقصد ذلك أو كي نفهم ما عشنا وانا لله الحمد متوازن، أعرف ماذا عشت ومن أين انطلقت والى ماذا وصلت. المهم عندي أن نروي حكايتنا التونسية والحكاية التونسية تخرج عن الأنانية أو النرجسية أو الذاتية التي تفترضها السيرة الذاتية. لذلك،أحب أن أنزِّل عملي في إطار ما أسميه السرْديّة التونسية أي أن يضطلع الروائيون بإبراز هذه الروح التونسية وإبراز تناقضات المجتمع التونسي وأحلامه المُجْهَضة ومصائر البشر الذين يكافحون من أجل حريتهم. بهذا المعنى، اعتقد أن عملي يتجاوز حتى رواية جيلي لكي يتنزّل ضمن رؤية أوسع وهي أن يجد التونسيون أنفسهم في أدبهم.
ولكن في المطلق شخصية «عبد الناصر» يعرفها جيدا شكري المبخوت في أدق تفاصيلها!؟
افترض معك أنني أعرفها في الواقع، هل تعتقدين ان ما شد الناس إلى «عبد الناصر» هو حياته الواقعية المفترَضة لأن قوة الأدب لا تكمن في نقل أشياء واقعية بل تكمن في الإقناع بما يُنْقَلُ. لذلك اقلب سؤالك واسلّم لك بأنه شخصية واقعية ولكن الذي شدّ الناس ليس حكاية «عبد الناصر» بل كيف رُوِيَتْ. من هنا نعود الى أمر مهمّ وهو أن الأدب أشدّ تعبيرا عن الواقع.
الأمر الثاني، أواصل معك الافتراض أنّ عبد الناصر شخص أعرفه وهو موجود في الواقع فكيف تفسرين أن الكثرين وجدوا أنفسهم في شخصيته؟. قوة كلّ الشخصيات ليست في الوقائع التي حدثت لها بل في كيفية بنائها وما تحمله من قدرة على تحقيق التفاعل مع القارئ.
حتى لا تعودي الى مسألة الواقع، الواقع لا معنى له قبل أن يُكتَب، وإذا كُتِب فلا معنى له دون أسلوب يقوله. وإذا قلناه بأسلوب ما، فيعني ذلك أننا حوّلناه ذهنيا وفق مقتضيات الكتابة الروائية التخيلية ووفق قوانين الخيال لكي يصبح شخصية قابلة للاستهلاك الروائي.
شخصية زينة، بنت الريف المثقفة، هل كانت في تصرفاتها ومحاولة النجاح والصعود الاجتماعي مهما كانت الوسائل، مثالا ودليلا على الحقبة البورقيبية؟
لك الحق في تأويل ما تشائين ولكن لا تنتظري مني أن أقدّم لك (وللقارئ عموما) أو أحصر شخصيات الطلياني في رموز جامدة. مهما قلت عن هذه الشخصية فإنني لن أفيها حقّها لأنها شخصية متعددة الأبعاد وقيمتها ليس في ما ترمز اليه فقط بل في أنها تجسّد تردّدات الإنسانية وآلامها وطموحاتها ومساراتها وتعقداتها.. وهذا التعقّد لا يمكننا اختزاله في جانب واحد.
من حق القراء أن يروا في «زينة» أو غيرها من شخصيات الرواية، هذا البعد أو ذاك ولكن من واجبي أن أترك العمل محتملا وقابلا لقراءات مختلفة.
«نجلاء» صديقة «زينة» زوجة «عبد الناصر»، هل هي رمز لفترة بن علي؟ خاصة بإقامتها علاقة جسدية مع «عبد الناصر» بعد فراقه «زينة»؟
ألا ترين «نجلاء» في الواقع؟، نجلاء هي نمط من المرأة التونسية يعاني اشكالية أكبر وهي اشكالية التحرر من الزواج الذي يمثل عائقا أمام حرية المرأة (طبعا لهذا النمط من المرأة) ولكن إلى أي أمر يمكن أن يُفضي؟. الرواية اختارت اتجاهها. صحيح بعض المعطيات توهم بذلك أي حصر «نجلاء» في الترميز لحقبة بن علي مع أنّ الرواية لم تدخل حقبة بن علي إلا فترة قصيرة بين 87 و90، فليكن هذا من حق القراء لكن مرة أخرى لا أحب اختزال ثراء الشخصيات في الرمز فقط. هي قابلة لمثل هذا الترميز ولكل قارئ أن يرى فيها ما يشاء.
إذن هي رواية سياسية؟
لا يزعجني أن يقال إنها رواية سياسية لكن هل المنحى السياسي هو الذي شد الناس؟. ثمة تفاعل بين السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي وبين الجانب الفردي الحياتي الحميمي، فالرواية هي اتصال وانفصال وتفاعل بين هذين الجانبين. أكبر أمر يجسّد ذلك، تلك المشاهد التي جمعت «عبد الناصر» ب«نجلاء» في سياق خيانة زوجية وصبيحة انقلاب السابع من نوفمبر. هذا الفاصل اعتقد أنه يعبّر عن حركية الرواية لأنّ قيمة الرواية ليس في ذكرها للتاريخ الاجتماعي أو الثقافي لكن قيمتها في تعبيرها عن تفاعل الناس ووَقْع الواقِع على أنفسهم ومقاربتهم لذلك الواقع في شكل نفسي حميمي.
بصراحة، وأنت المعروف بمنهجيتك في النقد الأكاديمي، هل استطعت التخلص منه عند كتابتك الرواية؟
لماذا تريدينني أن أتخلص من ذلك؟ سؤالك يحمل فكرة مسبقة لا تتحملين أنت مسؤوليتها وهي أن الصرامة المنهجية غير مطلوبة في الرواية والحال انه العكس! لأن الرواية هي هندسة وبناء للعالم فكيف نبني عالما بلا صرامة ودقة؟.
يجب مراجعة مقولات كثيرة تتردّد لدى أهل الأدب والنقاد... مثلا فكرة أن هذه الرواية هي رواية كلاسيكية بمعنى أنّ لها بداية وتحولات ونهاية، إذا كان من يقول أنّ «الطلياني» كلاسيكية بهذا القصد، فهو لا يفهم الرواية!. إنهم يخلطون بين البناء الروائي والأسلوب السردي.
نلاحظ رغم التخفي، «الانتصار» لزينة رغم كل حماقاتها وتقديمها كشخصية بريئة رغم زلاتها وكأنها غير مسؤولة عنها، هل كانت صورة لتونس أخرى ممكنة في تلك الفترة ولكن اليسار ضيّعها بتكلّسه وقتها؟
لك حرية التأويل مرة ثالثة، لكن ما استطيع قوله هو أنّ شخصية «زينة» شخصية فاتنة واستثنائية، فقط أنا اشفقت على زينة في النهاية لأن منطق السرد يفرض ان تصاب زينة بالجنون أو أن تذهب الى الانتحار ففكرتُ في أحد الحلّيْن واشفاقي عليها جعلني أرحّلها من بلاد لا تستوعب طموحها القوي ونزعتها الجذرية الى الحرية. نعم انا انتصرت لها لكن الكثيرين خابت نظرتهم، في حين فعلتُ بها ما فعلت فمثل هذه الشخصيات لا يمكن أن تتلاءم مع مجتمع محافظ ورجعي.
قلت في تصريح صحفي: «الربيع العربي لم يمنعني أبدا من الكتابة» وهو تصريح قد يُستشَفّ منه موقف واضح، وأنه في الحقيقة خريف مضاد للإبداع والتفكير والكتابة والحرية الحق؟. هذا تأويلنا فما هو ردّكم؟
من يكتب لا يحتاج إلى ربيع أو خريف، فثمة ثوابت. الثوابت في الكتابة الأدبية هي توسيع أفق الحرية والدفاع عن الانسان وأن نقول التناقضات والصراعات بلا شفقة ولا رحمة والثوابت أيضا أن نقاوم اللغة الرسمية والسائدة لأنها بالضرورة نتيجة نفاق اجتماعي وكذب معمّم سواء كان رجعيا من السلطة (يمينا أو يسارا) أو كان ثوريا ويزعم الثورية. ثمة موقف نقدي للمثقف مهما كان نمط الكتابة الذي يكتب فيه من البحث الأكاديمي إلى المقال الصحفي أو المحاضرة والكتابة الروائية وهو نقد كل شيء يتحرك ومجانا، كما قالت زينة في الرواية، دون طموحات سياسية هذا دور المثقف.
كأنك في إجاباتك تحاول الابتعاد عن إعطاء مواقف سياسية مباشرة مع أن «الطلياني» رواية سياسية بامتياز وتعجّ بالمواقف السياسية من خلال شخصياتها وأحداثها. مع ذلك، هي لا يمكن أن تتبرأ من شخصية كاتبها، فهو المسيطر عليها والمحدد لتصرفاتها وعلاقاتها وكلامها ومواقفها !؟
موافقي السياسية واضحة، ولكنني لا انتمي الى أي حزب سياسي. موقفي السياسي يستند الى ثوابت: لا يمكنني أن أكون مدافعا عن الدكتاتورية مهما كانت سواء دكتاتورية مغلّفة بالحداثة أو دكتاتورية مغلّفة بالدين، لا يمكنني أن أكون متواطئا مع كل تيار لا يؤمن بالقيم الكونية ولا يمكن أن أكون مع هوية منغلقة تريد استعادة الماضي استعادة لن تكون، كما قال ماركس، إلا في شكل مهزلة أو مأساة. هل من موقف سياسي أوضح من هذا؟!. أنا لا اشتغل بالسياسة، اخترت موقعي منذ البداية خارج هذا المجال ومنحت نفسي حرية نقد كل شيء.
ما هو موقفك من «الربيع العربي»؟
يستكثرون علينا الحديث عن الثورة، أنا اعتبرها ثورة ولحظة مهمة ومفصلية في تاريخ البلاد بقطع النظر عن وجود الاسلاميين في فترة ما أو وجود حزب «النداء» الآن أو أيّا كان في المستقبل. يوم 14 جانفي لحظة شعرية فاتنة أي أنّ لحظة الثورة هي لحظة جمالية تعيدنا الى دهشتنا وكل ما أتى بعدها هو نثر. أنا أؤمن أن جميع الثورات منذورة للغدر والسرقة.
وهذا ما وقع في تونس؟
طبعا، الثورة انتهت!. تبيّن أن كل السياسيين (مهما كانوا) أصغر من الثورة لأن السياسة حسابات خسيسة في كثير من الأحيان وبذيئة، بينما لحظات الثورة هي كالبرق سرعان ما تزول.
في اعتقادك، هل استفاد التونسيون من ثورتهم؟
هذه الثورة حققت أمرين لا تراجع عنهما هما ظهور سلطة المجتمع المدني أو السلطة المضادة لأول مرة في تاريخ المجتمع العربي الاسلامي والثاني، وهو نتيجة للأول، حرية التعبير ولكنها ليست نهائية. نرى اليوم محاولات كثيرة بالمال الفاسد والإعلام الذي لا يحترم الاخلاقيات وبضغوطات المافيات والضغط السياسي من أجل كسر حرية التعبير، لابد من احتضان هذه الزهرة لكي تواصل أريجها.
«الطلياني» حسب بعض الآراء، هي كتاب الرذيلة لا بمعناه الأخلاقوي بل السياسي. فهي من خلال الشخصيات لم ترحم أحدا: دساترة، إسلاميين، قوميين، يساريين. هل هي رسالة بأن غياب مفهوم الحرية والديمقراطية قاتل لكل الأفكار بما فيها التقدمية؟ أم هو حذر واع منك كي لا تتهم بالانتصار لأحد الأطراف السياسية؟
ليس في العمل الروائي مثل هذه الحسابات السياسية. فالرواية إذا أخذناها بخطورتها وجديتها لا تقبل إلا النزاهة وقول الحقيقة والعدل والإنصاف لأنها ليست ممارسة جمالية فقط ولكنها ممارسة أخلاقية. فحين تتحدثين عن نقد جميع التيارات السياسية فقد ذكرت لك أنه موقف المثقف وحين نكشف آليات هذه الايديولوجيات المغلقة في تقديري وهذه التيارات السياسية التي اخفقت طيلة حياتها في ان تدافع عن حرية الانسان رغم تضحياتها ورغم صراعاتها، فإنها ليست إلا صورا متعددة أو مختلفة من جوهر أكبر وهو عدم الايمان بالحرية الفردية والتعدد والاختلاف. وأعرف عمّا أتحدث، فكيف لي أن انتصر إلى تيار سياسي وانا أدافع عن شيء جوهري أكبر من التيارات السياسية وهي الحرية الفردية؟
نهاية الرواية بدت شبه مفتوحة، كأن جزءا ثانيا يختمر في ذهنك، هل تفكر في جزء ثان ل«الطلياني»؟
حتى إذا وجد جزء ثان وهو موجود فأنا لم أصل بشخصية «عبد الناصر» إلاّ عند حدود 30 سنة وانت تتحدثين عن سيرة ذاتية وأنا عمري الآن 50 سنة، إذن بقي لدي عشرون سنة لأكمل الحكاية! . يمكن أن يكون هناك جزء ثان ويمكن أن تتطوّر. بنية الرواية منفتحة حسب اختيار وتتبّع مسار عبد الناصر وهذا يعني انه يمكن أن تكون هناك أجزاء لهذه الرواية وهي تتبع تاريخ تونس المعاصر الى حدود الثورة والى ما بعد الثورة. لكن أرجو ألا يصبح مسلسلا مكسيكيا. اعتقد انه من الصعب ان تكتب أجزاء لرواية نجحت الا اذا كنت قادرا على ان تقدم ما هو أجمل من الجزء الأول.
أنت معروف بكتاباتك الأكاديمية، هل لذلك تأخر ظهور روايتك؟
ببساطة.. لأنني لم أقرر كتابة الرواية.
يقال إنك تكتب الشعر، إن كان حقا، ننتظر إصدارا؟
يضحك ثم يتابع... هذا ادعاء بالباطل. لقد بدأت شاعرا لكنّي كنت اعتبر نفسي رجع صدى لشعراء كبار لذلك انقطعت عن كتابة الشعر ولست حريصا على أن أكون متعدّد المواهب الأدبية. لي كراس شعري أي قصيدة وحيدة مطولة جدا ولكن لابد من التثبت من شعريتها لأنه لا يمكنني أن أنشر نصّا يسيئ إلى مدّونتي وهو مازال في طور النقاش مع الاصدقاء، يمكن ان يصدر ويمكن ان يوضع في سلة المهملات.
في تقديمك لكتاب الشهيد شكري بلعيد الشعري، أكدت على ضرورة قراءة نصوصه وتناولها كشاعر لا كسياسي لماذا؟
لأنه شاعر حقيقي. اعتبر شكري بلعيد شاعرا قبل أن يكون سياسيا ولذلك كان سياسيا بارعا، له ثقافة متينة ورؤية شعرية. حديثه عن العدل والعدالة الاجتماعية والفقراء ليس موقفا ايديولوجيا قرأه في الكتب لكنه جزء من مقاربته الشعرية للحياة، هذا هو شكري بلعيد .
ألا ترى أن جمعه بين الشاعر والسياسي عجل باغتياله؟ الجمع بين قوة الحلم والإيمان به من جهة كشاعر، وقدرة السياسي على قراءة المشهد وموازين القوى ووضع الرؤى والتكتيك والاستراتيجيا من جهة أخرى؟
لا أدري.... أعتقد ان الذي عجل باغتياله هو الإعلام، كثرة الظهور والجرأة التي عُرِف بها في الاعلام جعلته في موضع بارز أكثر مما يجب بالنسبة للقَتَلة.
كيف عشت لحظة سماعك باغتيال شكري بلعيد؟
رقصت وغنّيت فرحا (طبعا يقصد نقيض ذلك، يصمت.. تبرق عيناه بالدموع الغزيرة) ثم يتابع: فقدت شخصا عزيزا، شكري الذي عرفته شابا فرّقتنا سبل الحياة ولكنّ صداقة الشعر والرّوح ظلّت... (يصمت مرة أخرى في محاولة لإخفاء دموعه التي انهمرت رغما عنه...)
في بادرة طيبة من بعض الأدباء وحتى المواطنين العاديين، استقبلك هؤلاء في المطار بالورود والكثير من الحب بعد فوزك بجائزة «البوكر». في المقابل، شكك بعض الكتّاب في جدارة الفوز، ماذا تقول لهؤلاء وأولئك؟
لا أقول شيئا، شكرا لهم جميعا وخاصة الذين عبروا عن شيء قد يبدو ذاتيا وشخصيا، هم استقبلوني بمحبّة أقدّرها كثيرا ولكن لم يلاحظ الكثيرون انه لأول مرة يقع ذلك لكاتب في الرواية (على ما أعلم وقد أكون مخطئا ) وهذا الاحتفاء بالأدب في مجتمع يحتقر الكتابة الادبية ويعتبرها من الاشياء الزائدة التي لا نفع فيها. لا ننسى أنّ بورقيبة في خطاب من خطاباته قال (يزّينا من القصة والأقصوصة). وحين يقع هذا الاستقبال في فترة تصبح فيها الرواية والقصة والاقصوصة رغم بورقيبة وبفضل المدرسة التي أسسها بورقيبة موضوع فخر ومفاخرة وطنية، علينا أن نفكر كيف نطوّر منزلة الأديب في المجتمع التونسي وهذا أمر موضوعي. هي فرصة للأدباء والمثقفين التونسيين كي يشتغلوا مع السياسيين على هذه النقطة ليس لانتزاع حقوق، ولكن لتبيان أنّ فكرة التنوير والتحديث وتطوير المجتمع لا يمكن ان تتم على حساب مكونات اخرى مثل الفن والادب، إنها فرصة لفتح حوار حول الأدب كتابة ونشرا وتوزيعا ونقدا وقراءة.
وبالنسبة الى من اعتبر أنني غير جدير بالجوائز فهو حرّ، على كل حال يمكن ألّا تكون «الطلياني» جديرة بهذه الجوائز لكن ما ذنبي انا؟. النقد طبيعي والانتقاد طبيعي أيضا وانا لا أنافس أحدا في أي شيء، ربما جريمتي التي لا تغتفر أني كتبتُ رواية.
ما هي شروطك لتحويل «الطلياني» إلى شريط سينمائي؟
صحيح «الطلياني» قد تتحول إلى صناعة سينمائية قريبا وهناك 4 عروض لتحويل الرواية إلى شريط سينمائي تونسي. ليس لي شروط سوى ضمان عوامل النجاح للاقتباس فنيا وماليا وعلى كل حال المسألة قيد الدرس مع الناشر.
بعد فوزك بجوائز «كومار» و«البوكر» ومعرض الكتاب، هل ستواصل ممارسة الكتابة بنفس الطريقة والخوض في المسكوت عنه أم أنّ النقّاد الذين سيتابعون كتاباتك القادمة لمقارنتها ب«الطلياني»، سيجعلونك أكثر حذرا وصرامة؟
المسكوت عنه نسبي وهو أقرب الى الرأي العام والرأي العام كذبة ونفاق وتوازنات وخلاصة فكر اجتماعي متخلّف لا يمكن أن يحدّد للكاتب ماذا سيكتب. الكاتب يبحث في التصورات السائدة... عن الشقوق والثغرات ليعشش فيها ويفضح الكذب الزيف والنفاق. هذا مبدئيا، لكنّ لحظة الكتابة هي التي تحدّد ماذا نكتب وكيف نقول، إذ لا يمكن بصفة مسبقة أن نبحث عن الإثارة أو الفضيحة أو غير ذلك. اعتقد أنني على قدر من الاتزان المعرفي حتى لا أقع في شراك البحث عن الفضيحة والشهرة المجانية، فأنا بطبعي خجول ولا أحب الأضواء كثيرا.
ماذا عن الشأن الثقافي في تونس؟
(تنهيدة طويلة ....)، الثقافة في تونس تحتاج إلى أمرين متناقضين، الأمر الأول أن يقتحم أكبر عدد ممكن من الكتّاب عالم الكتابة فنحن لم نبلغ بعد التراكم الكمّي المنشود، لذلك كل صوت روائي جديد أو شعري أو مسرحي هو إثراء لهذه الثقافة وتعبير عن حاجة الناس في أن نكتب وجودنا التونسي وحكايتنا التونسية. الأمر الثاني ولا وجود له في تونس (في الأدب على الاقل) وهو تلك الآليات التي تسمح للأدب التونسي أن يتقدم وأن ينتشر ويمد الثقافة العربية الحديثة بأجمل ما عندنا وبميزاتنا وخصوصياتنا التونسية التي تشد الناس في المشرق والخليج وهذا أمر مرتبط بصناعة الكتاب وهو دور المؤسسات الثقافية والرسمية.
هل هناك أزمة إبداع في تونس؟
المثقف يتساءل أحيانا عن الحافز الذي يجعله يكتب نصوصا أدبية إبداعية (لمن يكتب ولماذا يكتب؟)، ما الذي يجعل شخصا جالسا في بيته يتجشم عناء كتابة رواية إذا لم يكن هناك دافع وهاجس شخصي؟. هنا، رهان «البوكر العربي» مثّل مؤخرا حافزا كبيرا و إن كان ماديا لإغواء قريحة المثقف العربي حتى تقطر إبداعا.
تغييب دور المثقف في «الثورات»؟
من الطبيعي أن يتم تغييب المثقف. المثقف العربي متعب من «الثورات» .
في المقابل مثلت مرحلة «الثورات» العربية أرضية مناسبة لبروز مثقفي القانون و الدين و حقوق الإنسان و غيرهم.
والمشهد السياسي؟
من المؤسف أن الطبقة السياسية أثبتت يوما بعد يوم أنها عاجزة عن تنمية الأمل لدى الناس ولا أرى الافق إلا غائما، ربما نحتاج إلى تجديد الطبقة السياسية بأيّ شكل من الأشكال. هناك مشكلة في تكوين القيادات والسياسيون ومن عارضوا «بن علي» ليسوا سوى نسخة منه، لقد قضى «بن علي» على السياسة والسياسيين عندما كان في الحكم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.