حاوره: عبد السلام لصيلع التونسية (تونس) مرّت أمس ذكرى ميلاد الزّعيم الحبيب بورقيبة، وبهذه المناسبة التقت «التونسية» المناضل أحمد قلاّلة بن المناضل المعروف الشاذلي قلاّلة أحد أبرز رفاق بورقيبة الأوائل الذي تحدّث لنا في حوار خاص عن ذكرياته مع الزّعيم في سنواته وأيّامه الأخيرة في «إقامته الجبريّة» بالمنستير من سنة 1987 إلى سنة 2000... وقد كان المناضل أحمد قلاّلة من القلائل الذين كانوا يزورون الزّعيم إلى آخر يوم في حياته.. في هذا الحوار حقائق مثيرة وشهادة حيّة تبقى وثيقة للتاريخ... باعتبارك كنت مقرّبا من بورقيبة وكنت تزوره في إقامته الجبريّة في دار الولاية بالمنستير، ما هي ذكرياتك مع الزعيم في زياراتك الأخيرة إليه؟ - كنت أذهب إليه مع الدكتور عمر الشاذلي والوالي السابق المرحوم الحبيب براهم.. كان يفرح بنا وكان يطلب منّا أن نزوره باستمرار، وكان ينتظر زياراتنا بفارغ الصّبر. من المعلوم أنّ «المجاهد الأكبر» أمضى في «سجنه» بالمنستير 13 سنة من 1987 إلى 2000... وقد لاحظنا ولاحظ زوّاره من أفراد عائلته ومن أشخاص يعدّون على الأصابع كنت أحدهم، أنه كان يشعر بالضّيق والملل والقلق.. لم يكن مرتاحا.. وكان يسرح كثيرا في تفكير طويل وصمت عميق.. نعم، كان متضايقا كثيرا، خصوصا أنهم كانوا لا يسمحون له بالقيام بجولات خارج إقامته، وكذلك عندما كانوا يرفضون طلبات من يرغبون في زيارته. شخصيا كنت أزوره بعد إلحاحي الشديد صحبة الدكتور عمر الشاذلي، لكن تحت مراقبة والي المنستير الأسبق عبد العزيز شعبان الذي كان يرافقنا ويحملنا بسيارته بعدما نترك سيّارتنا أمام مقرّ الولاية. كان يقول لنا في شكل أوامر: «لا تبقوا أكثر من ربع ساعة.. وعندما أنظر إليكما انْهَضَا للمغادرة». لماذا كان الوالي يتصرّف معكما بهذه الطريقة؟ - ربّما كان ملتزما بتعليمات عليا.. وربّما الخوف من بورقيبة.. أو منّا.. هم كانوا يحرصون على بقائه في عزلة كاملة، وتحت حصار متواصل ليكون منقطعا عن العالم الخارجي. هل تحتفظ في ذاكرتك بوقائع حدثت أمامك في زياراتك إلى الزّعيم؟ - لم أنس أنّي ذهبت إليه مرّة صحبة شقيقي خالد قلاّلة، وقد فرح بنا فرحا كبيرا.. وأثناء الحديث معه أدخل يده إلى جيبه وأخرج ورقة نقديّة خضراء من فئة عشرة دنانير عليها صورته.. سألني لمن صورة هذا الرّجل؟» فقلت له: «هي صورتك، سيّدي الرئيس، محرّر تونس وباني نهضتها الحديثة؟» فقال في ألم وحسرة: «هذا الرّجل هو الآن في الحبس». والمسألة الثانية المؤثّرة، أنّنا ذهبنا إليه، أنا والدكتور عمر الشاذلي في شهر أوت رفقة الوالي عبد العزيز شعبان كالعادة.. في باب الدخول إلى دار إقامته كان هناك مركز كامل للحرس.. عند دخولنا بعدما خطونا الخطوة الأولى، قال لنا الوالي: «لا تبقوا كثيرا فبمجرّد إشارتي إليكما انهضا واخرجا». دخلنا، وصلنا إلى الزّعيم، وجدناه في «فيرَانْدا» الدار جالسا على «chaise longue» مرتديا جبّة قمراية.. حين شاهدنا أمامه فرح بنا ورحّب، جلسنا.. ثم نظر إلى ساعته اليدويّة، وقال لنا: «سامحوني، الآن حان موعدي مع المشي على القدمين (وهي عادته اليوميّة إذ يتمشّى مدّة في المساحة التابعة لدار إقامته)».. وأضاف في حديثه إلينا: «إذا أردتم قوموا امشوا معي».. نهضنا على أساس أنّنا سنسير معه حتى يكمل رياضته المفضّلة.. رياضة المشي على الأقدام.. وبمجرّد أن خطونا الخطوة الأولى، قال الوالي: «عندنا ما نعمل».. فقال بورقيبة: «نمارس المشي معا ثمّ أدعوكم إلى الغداء معي».. هنا قال الوالي: «عندي جلسة في الولاية، وسنعود بعد الجلسة».. وأخرجنا الوالي، أوصلنا بسيّارته إلى أمام مبنى ولاية المنستير.. وبقينا ننتظر، ثم انصرفنا، ولم نعد يومها إلى الزّعيم كما وعد الوالي. وفي مرّة أخرى، أراد بورقيبة أن يلقّن ذلك الوالي درسا بطريقة غير مباشرة.. حكى لنا عن تاريخ المنستير في عهد الاستعمار كيف كانت وكيف كانت سطوة الاستعمارييّن. قال: «كان لنا «قايد» (Caïde) اسمه الزّواري يقال له: «بَودَبُّوسْ» لأنّه كان يمارس سياسة ضرب المناضلين وقمعهم.. مرّة جاءه الشاذلي قلاّلة وأخذ يناقشه.. أراد «القايد» أن يضرب أحد المقاومين فنهض الشاذلي قلالة وضربه. وفي عيد ميلاد بورقيبة الخامس والتّسعين يوم 3 وت 1998، أهدى إليه بن علي باقة زهور كبيرة، قدّموها له ووضعوها أمامه بحضوري والوالي المرحوم الحبيب براهم، وكانت مع باقة الزّهور بطاقة من بن علي كتب فيها: «بمناسبة عيد ميلادكم السّعيد، أتمنّى لكم السّعادة..»، وكتب تحت هذه الكلمات في البطاقة: «ابنكم زين العابدين بن علي».. فقال لنا الزّعيم وأشار إلى الحبيب بورقيبة الابن الذي كان هو حاضرا أيضا: «هذا هو ابني».. كان يقصد أنّه ليس له ابن آخر غيره.. ما هي المرّة الأخيرة التي شاهدت فيها الزّعيم؟ - شاهدته آخر مرّة وهو يحتضر يوم 6 أفريل 2000.. توفّي أمامي في نفس الدّار التي سُجن فيها.. كان معنا ابنه وبعض أفراد عائلته.. وللتّاريخ اهتمّ به الأطبّاء كلّهم اهتماما كبيرا وهم الذين كانوا يعتنون بصحّته.. وذلك من باب المحبّة والتّقدير والرّعاية اعترافا بما قدّمه لتونس من خدمات عظيمة رغم ما عومل به من تجاهل في آخر أيّامه. في رأيك، وحسب معرفتك، كيف كان الزّعيم في آخر أيّامه؟ - آخر أيّامه كانت مآس... كان كأنّه إنسان غير معترف به.. كانوا يتجاهلونه أحيانا. بعد عبد العزيز شعبان، جاء الوالي محمّد بن نصر الذي قام بشؤونه كما ينبغي، ثم جاء الوالي الحبيب براهم الذي اهتمّ به كثيرا وعامله معاملة جيّدة، وبعد وفاته ألّف عنه كتابا هامّا عنوانه: «بورقيبة خارج زمن الحكم» (مذكّرات والي المنستير). وقد لاحظنا أنّه لم تعد لبورقيبة رغبة في الأكل قبل شهر من وفاته، حيث أنّه هزل بدنيّا وأصبح يمشي بصعوبة. حسب علمك هل ترك بورقيبة وصيّة؟ - لم يترك وصيّة.. وابنه كان الوحيد الذي يدخل إلى والده متى شاء رغم الحراسة المشدّدة التي كانت مفروضة عليه. كيف كان بورقيبة يتصرّف مع السّاهرين على خدمته؟ - أذكر لك حادثة.. وعلى القارئ أن يستنتج ما يريد.. كان هناك ممرّض يعتني بالزّعيم مكلّفا بمتابعة صحّته.. جاءه مرّة متكدّرا بسبب ديون أرهقته عجز عن تسديدها، وطلب من الزّعيم مساعدته على تسديد تلك الدّيون، فقدّم إليه بورقيبة شيكا بعشرة آلاف دينار.. كان يرحمه الله كريما مع المحيطين به وإنسانيّا. ماذا تقول بمناسبة مرور 112 سنة على ذكرى ميلاد الزّعيم؟ - الحبيب بورقيبة فلتة من فلتات الزّمان وفريد من نوعه، إخلاصا ووطنيّة واستشرافا للمستقبل.. إن شاء الله يعمل الشعب التونسي بتوصياته وتوجيهاته وفكره، ويستفيد من تجربته العميقة، فهو الزّعيم والمجاهد الأكبر الذي حقّق الوحدة الوطنيّة من شمال البلاد إلى جنوبها، وهو الذي حرّر الوطن والمواطن بحنكته وبعد نظره وتجرّده وكفاحه وخدمته للغير.. وخرج من هذه الدّنيا ولم يكسب شيئا سوى دار والده، إنّه البطل العظيم الذي لم يأت الزّمان بمثله وكان له الدّور الفعّال في تحرير تونس وبنائها بصدق وإخلاص، بلا جزاء أو شكور.. ضحّى بحياته وتعذّب وسجن ونفي من 9 أفريل 1938 إلى 8 أفريل 1943 مع والدي الشاذلي قلاّلة وزعماء ومناضلين وطنييّن آخرين مثل الهادي شاكر والبشير بن يوسف، وغيرهم في برج «البُوفْ»... وكان بورقيبة يدعو الشعب دائما إلى المحافظة على وحدته الوطنيّة والعمل الجدّي وكان يقول: «لا أخاف على تونس إلاّ من أبنائها». بالمناسبة، هل فكّرت في جمع تراث والدك المناضل الكبير الشاذلي قلاّلة؟ - أنا حاليا بصدد جمع تراث والدي المناضل الشاذلي قلاّلة يرحمه الله والذي كان يقول عنه صديقه الحبيب بورقيبة: «رفيقي الأوّل وعضدي الأيمن والمناضل الفذّ».. وسوف أصدر كتابا في هذا الشأن يتضمّن حياة والدي ونضاله ورسائله وما كتب عنه في حياته وبعد وفاته، وهو من مواليد سنة 1898، وفارق الحياة سنة 1962.. المناضل أحمد قلاّلة صورة نادرة تنشر لأوّل مرّة تجمع الحبيب بورقيبة والشاذلي قلاّلة والطّاهر صفر في بداية ثلاثينات القرن الماضي في عيد ميلاد الزّعيم يوم 3 أوت 1998 بحضور الدكتور عمر الشاذلي وأحمد قلاّلة والوالي الحبيب براهم وعدد من أفراد العائلة