التونسية (تونس) فيما يشكّل التّدهور الحاصل في أوضاع المالية العمومية أكبر التحديات التي تواجهها تونس اليوم فإنّ الحكومة لم تظهر الى حدّ الآن ما يعكس الوعي بخطورة هذا الملف وتداعياته على الأصعدة الاجتماعية والمعيشية وحتّى الأمنية والسيادية. أزمة المالية العمومية التي برزت خلال السنوات الأربعة الأخيرة نشأت إجمالا عن البون الشاسع بين مستوى الجهد الوطني مختزلا أساسا في نسبة النمو الاقتصادي التي لم تتجاوز في أحسن الحالات 3 ٪ و يرجح أن تنزل هذا العام الى 1 ٪ مقابل تفاقم غريب للنفقات صنعته كثير من القرارات العشوائية منها إغراق الإدارة بنحو 200 ألف عون جديد في ظرف 3 سنوات فيما أنّها تشكو أصلا من كثرة الزائدين عن النّصاب بدل توجيه الجهد إلى زيادة نسق خلق الثروات باعتباره المدخل الوحيد لتفكيك جحافل البطالين. 700 ألف عاطل عن العمل بل إن إغراق الإدارة بهذا العدد من الأعوان الجدد لم يحل دون ارتفاع عدد العاطلين عن العمل الذي قفز من 500 ألف عاطل عن العمل عام 2010 إلى نحو 650 ألف حاليا ويرجح أن يتجاوز سقف 700 ألف في حال تواصل النسق الحالي للنموّ والانحصار الحاصل في الاستثمار بشقيه الوطني والأجنبي. تلك الأوضاع حتّمت زيادة التعويل على الإقتراض الأجنبي في تمويل ميزانية الدولة بشكل جعل نسبة التداين تزيد بنحو 10 نقاط لتتجاوز عتبة 50 ٪ مع شروط كانت في كل مرة أكثر إجحافا بفعل التدهور الحاصل على مستوى التوازنات الكبرى.. بل إن الأخطر من ذلك أن موارد الاقتراض التي كانت قبل 2011 توجه إلى تمويل التنمية.. صارت توجه لسد نفقات التصرف أي الحاجيات اليومية على غرار نفقات الأجور أو «ترقيع» أوضاع ميزان المدفوعات بالعملة الصعبة؟ ثقل خدمة الدين والأخطر من ذلك أن تواصل النسق الحالي لن تتوقف تداعياته عند جعل تحصيل القروض الأجنبية أكثر صعوبة وإنّما وبالأساس سيؤدي إلى تفاقم ثقل خدمة الدين أي دفع أقساط القروض على المجموعة الوطنية وروافد تمويل التنمية. هذا الميراث الثقيل الذي صنعته حكومات ما بعد 14 جانفي وتعمق إبان حكم «الترويكا» لم تواجهه حكومة الصيد إلى حدّ الآن بما يصنع بصيص أمل في إمكانية استقامة أحوال موازنات الدّولة ومن ثمّة زيادة قدرتها على الاضطلاع بمسؤولياتها ومجابهة تطلعات مختلف الفئات بما في ذلك المؤسسات الاقتصادية وجحافل البطالين. نتوءات كثيرة بمعنى آخر لم تبادر الحكومة بعد نحو ثمانية أشهر من تشكلها إلى رتق نتوءات كثيرة تجعلها تخسر ثروات طائلة ستؤدي استعادتها إلى اصلاح موازنات الدولة وربما إلى خلق واقع جديد في البلاد يعيدها الى نهج مراكمة المكاسب ويؤمن تحقيق نسب نمو تتلاءم مع حقيقة القدرات المتاحة في بلد يكتسب على الورق ميزات تفاضلية تمكنه من التموقع في ظرف وجيز ضمن البلدان الصاعدة. نزيف بلا توقف أولى تلك الحفر يسببها النزيف بلا توقف في الصندوق العام للتعويض الذي يدعم منذ بداية سبعينات القرن الماضي أسعار المواد الغذائية الأساسية حيث تكشف الأرقام عن ضياع نحو 500 مليون دينار سنويا تبتلعها أفواه المهربين وبدرجة أقل عدد من أصحاب المطاعم والمخابز وغيرهم. موازنات صندوق التعويض تبرز أن ما لا يقل عن 25 ٪ من نفقاته لا يوجد لها أي تفسير أي أنها لا تتوجه إلى الطبقات المعنية كما أنه من الواضح أن حجم النزيف قد تفاقم خلال السنوات الأربع الأخيرة حيث زادت نفقات الدعم بما لا يقل عن 50 ٪ دون أي تبرير خاصة لجهة أن أسعار الحبوب والزيوت النباتية في السوق العالمية كانت دون المستوى القياسي الذي عرفته في أعقاب العشرية الأخيرة. يحصل ذلك دون أن تضع الحكومة الى حدّ الآن اصبعها على الداء وهو شكل الدعم المعتمد في تونس والذي يصنع بطبيعته نزيفا حادا في موازنات الدعم بما يعني أنه مهما كانت جهود أجهزة الرقابة فاعلة فإنها لن تتمكن من محاصرة كل أشكال تحويل وجهة المواد المدعومة . حلول قاصرة بمعنى آخر أثبتت التجربة أنه ليس بالامكان مثلا منع سائح من بلدان الجوار من اصطحاب كميات من المواد المدعمة معه أثناء العودة الى بلاده كما لا يمكن وضع فريق مراقبة أمام كل محل لبيع المواد الغذائية في الشريط الغربي للبلاد. كما أن رفع دول الجوار منذ عدة سنوات للدعم على بعض المواد الأساسية يجعل تهريب الزيوت النباتية مثلا أكثر ربحية وأقل خطورة من المتاجرة في «الزطلة». تلك التجربة تؤكد أن الحل الجذري لتحقيق العدالة الاجتماعية وترشيد نفقات الدعم دون أن يكون لذلك تأثير على الطبقات المستهدفة هو المرور من سياسة دعم الأسعار الى دعم المداخيل أي صرف منح شهرية للعائلات المعنية تتوافق مع الفارق بين الأسعار المدعمة والأسعار الحقيقية. هذه الآلية ستمكن مع عرض السلع بأسعارها الحقيقية وهو ما يؤمن وقف كلّ أشكال تحويل وجهة المواد المدعمة إلى غير أغراضها وبالتالي تأمين انسجام كامل بين النفقات والحاجيات الحقيقية مع إخضاع المواد المدعمة لنظام تأطير الأسعار أي تحديد أسعارها من قبل الدولة حتي لا تصبح بدورها مجالا للاستكراش. وأكاد أجزم أن هياكل الدولة تملك الآليات التي بامكانها أن ترسي في ظرف وجيز جهازا شبيها بصندوق التأمين على المرض تكون مهمته صرف المنح للعائلات المعنية وهو ما يطرح مليون سؤال حول دوافع عدم حسم هذا الملف. أين الإصلاح الجبائي؟ على الضفة المقابلة تتبخر مبالغ ضخمة قد تتجاوز 10 مليارات من الدنانير كل عام نتيجة «الجمود» الحاصل في مسار الاصلاح الجبائي الذي بدأ بارساء الأداء على القيمة المضافة في بداية تسعينات القرن الماضي ومرّ بعدة مراحل منها التفكيك التدريجي للمعاليم الجمركية والترشيد النسبي للنظام التقديري. وتبعا لذلك كان يفترض أن يصل الإصلاح الجبائي منذ سنوات إلى تعميم المظلة الجبائية على كل الناشطين بما يعني التجسيم الفعلي لمبدإ «الدفع على قدر الدخل». تعميم هذا المبدإ كان سيفضي إلى إدماج عشرات الآلاف ان لم نقل مئات الآلاف تحت المظلة الجبائية أي أولئك الذين يحققون أرباحا طائلة في «المسالك السوداء» ويتحصنون بعناوين مختلفة منها «عاطل عن العمل» فيما لا تجني خزائن الدولة منهم ولو مليما واحدا. بل إن الأغرب من ذلك أن تلك الشريحة تتمتع بامكانيات نفاذ الى الامتيازات الاجتماعية تفوق بكثير ماهو متاح لغيرها.. فأين العدالة الاجتماعية؟ انفجار الموازي بمعنى آخر إن أوّل قرار كان على حكومة الصيد اتخاذه هو انتداب آلاف من المختصين في الأبحاث الجبائية بدل مواصلة إغراق قطاعات أخرى بانتدابات زائدة عن النصاب.. وذلك بما يؤمن جردا كاملا للأنشطة والأرباح يسلط الأضواء الكاشفة على المسالك السوداء التي انتعشت في السنوات الأخيرة حيث قفز وزن الأنشطة الموازية من 20 الى نحو 50 ٪ من اجمالي النشاط التجاري. إدماج تلك الشريحة سيؤمن للدولة استعادة ثروات طائلة تحسب بآلاف المليارات كما سيمكن من تفكيك العلاقة العضوية بين التهريب والإرهاب وسيعيد صياغة هيكلة الجباية بشكل يسمح بزيادة مداخيل الدولة بالتوازي مع تقليص الضغط الجبائي العام بما في ذلك الحط من نسبة الأداء على القيمة المضافة والأداء على الاستهلاك ويضمن كذلك إعفاء الطبقات الضعيفة من دفع الجباية بما يكرس فعليا مبدإ العدالة الجبائية. تهرّب ضريبي بل إنه من المفيد في هذا الصدد التأكيد على أن كل جهود مكافحة التهريب وما تسببه من استنزاف لقدرات أجهزة الرقابة الأمنية والإدارية ستظل قاصرة في غياب محور أساسي وهو تفعيل مكافحة التهرب الضريبي في محاصرة هذه الآفة. وفي ذات السياق تطرح مسألة الضغط الجبائي المرتفع الذي مازالت تخضع له عدة أصناف من الواردات وأساسا المواد الاستهلاكية والذي يشكل أرضية خصبة للتهريب انطلاقا من مبدإ اقتصادي بديهي وهو أن الحماية المفرطة هي من أسباب انتعاشة التوريد العشوائي. حماية مفرطة بمعنى آخر إنه بدل استنزاف قدرات الآلاف من أعوان الرقابة يوميا في ملاحقة المهربين كان من الأحرى إصدار قرارت تقضي بتحرير بعض الأصناف من الواردات بشكل يعطي أسبقية للنشاط المنظم كما يؤمن سلامة المستهلك ويوفر للدولة حدا أدنى من العائدات التي لا تحصّل منها شيئا حاليا. بالمحصلة يبدو في هذا الإطار أن «المطبخ» وهو أجهزة وزارة المالية لا تشتغل كما ينبغي ولا تتجاسر على اصلاحات هي أكثر من ملحة وتمثل لوحدها نصف الحلول للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من جهة وبسط الأمن ومكافحة الإرهاب من جهة أخرى. والواضح أيضا أن حال النخبة السياسية والمدنية ذاته والذي مازال غارقا في الشعبوية المقيتة أو يتفاعل من منطلق مصالح ضيقة ولا يتوانى عن دق المسامير في العجلة كلما أمكن ذلك.. وهي عوامل تكبت أي اصلاح وقد تكون شكلت حاجزا نفسانيا أمام الحكومة يجعلها تغرق في الشأن اليومي أكثر مما تسعى إلى حسم القضايا الجوهرية العالقة. ألم أقل سابقا إن على من يحكم هذا البلد أن يفعّل الفصل 60 من مجلة الطرقات وهو وجوبية ارتداء «الخوذة» حتىيتسنى له الولوج الى عمق القضايا ولا يتأثر بأجواء التشويش والتهميش على الشمال واليمين وحتى في عقر بيته.