هكذا أصبح الارهاب حصان طروادة الاستعمار الجديد ما معنى أن يتشكّل تحالف دولي من 60 دولة لمقاومة الارهاب في العراق ويفشل في منع سقوط الموصل.. وما معنى أن يجتمع الأمريكان والرّوس على محاربة «داعش» في سوريا ويعجزون عن القضاء على «الارهاب الشبح»؟ بعد عملية مدينة بن قردان الأخيرة ، يبدو أن «الإرهاب الجهادي المعولم» يختبر خيارا جديدا في استرتيجيته تجاه تونس الثورة. خيار يهدف إلى الزجّ بتونس نهائيا في مشهد الخراب العبثي الذي يتحوّل تدريجيّا إلى فراغ تاريخي وروحي مدمّر للدول وللإنسان في منطقتنا. وعندما نقول الإرهاب المعولم فنحن نقصد جيدا التأكيد على البعد الدولي في الظاهرة الإرهابية التدميرية التي انحرفت بكل الأجندات الوطنية التي أطلقتها الثورات العربية وفي مقدمتها الثورة التونسية. ثورات بشرت بالحداثة والديمقراطية والحرية والاستقلال الوطني الحقيقي فإذا هي تضطرّ تحت ضربات «إرهاب متوحّش» لا يبرز من وجهه ولغته (في فيديوات مصنّعة هوليووديّا) إلاّ ما يحيل على هويته الدينية والحضارية، من لحيّ كثة وشعر طويل أشعث، ومن تكبير يرافق مشاهد قطع الرؤوس والذبح والحرق لضحايا مستكينين لمصيرهم في مشهد يتجاوز مسرح العبث. بهذه المقدّمة افتتح مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية دراسة تحت عنوان «تونس والارهاب الجهادي المعولم: انفجارات التاريخ وفراغات المعنى» تنشرها «التونسية» لما فيها من معلومات وحقائق حول خفايا ظاهرة الارهاب في العالم وعلاقته بنوايا الدول الاستعمارية خاصة في الوطن العربي. «الإرهاب» حصان طروادة الإستعمار الجديد هذه خلاصة ما تمخّض عنه التعاطي الدولي مع الظاهرة الثورية التي اندلعت في منطقتنا العربية منذ خمس سنوات. اخترق الفاعل الإرهابي الجديد كل الثورات العربية. توفّرت له كل ممهّدات الصعود والانتشار على أنقاض خراب دولة الاستبداد والفساد، ليوفّر هو بدوره للقوى الدولية المبرر السياسي والحقوقي والأخلاقي للتدخّل في كل الدول العربية تقريبا بصيغ تختلف من بلد إلى آخر ولتديم هيمنتها على مصائر شعوب المنطقة بعناوين جديدة. تدخّل الغرب (ويبدو أن مصطلح الغرب لم يفقد زخمه السياسي والحضاري أمام ما نراه من تقاسم نفوذ ،سلمي توافقي في أغلب الأحيان، بين مراكز الاستعمار العالمي ، وبالتحديد أمريكا وروسيا، وإسرائيل كحلقة ربط ونقطة تقاطع بينهما) عسكريا ودعّم ووظّف الانقسام الإثني والطائفي والعشائري البدائي في العراقوسوريا ، ودعّم انقلابا عسكريا دمويّا في مصر، ولم يمنع استبدال المسار الثوري السلمي في اليمن بخيار فوضوي تدميري عبثي، متنكرا لتحالفات تقليدية ظنّ البعض أنها لا تتغيّر. وتدخّل مخابراتيا في دول أخرى ليتحكّم في المعادلة السياسية الجديدة الهشّة ويرسم وجهتها. طبعا لا يمكننا أن نكون «جبريين» ولا من القائلين بنهاية التاريخ ، ومن ثمّة لنسلّم بأن «أوراق اللعبة» كلّها في أيدي العدوّ، وأن قدرنا أن نرضخ لمخطّطات خارجية ومؤامرات تفوق قدرتنا على الفعل ، ولكننا نحرص عل استحضار المشهد العام وطنيا وإقليميا ودوليا لتتّضح الرؤية ولا يغيب عنا جزء من الصورة لا يستقيم الفهم دونه. كل الخوف هو أن يتفق العالم – تحت شعار مقاومة الإرهاب- على اتخاذ الفضاء العربي الذي انطلقت فيه ثورات بشرت بعودته لتاريخ الإنسانية، متنفّسا لأزمات مراكز النفوذ الدولي وصراعاته القديمة . اتفاق قد تصبح معه اتفاقيات «سايكس بيكو» نموذجا استعماريّا أقلّ سوء وأخفّ كلفة ! وإلا ما معنى أن يتشكّل تحالف دولي من ستين دولة لمكافحة الإرهاب في العراق ويعجز عن منع سقوط مدينة الموصل في يد تنظيم الدولة وأجزاء كبيرة من العاصمة بغداد؟ وما معنى أن تجتمع أمريكا وروسيا القوتان الأعظمان (إلى جانب قوى إقليمية عديدة كإيران وحزب الله والسعودية وقطر وتركيا ..) على محاربة التنظيم في سوريا و«تضطرّان» لتدمير سوريا كاملة دون أن تتوصلا إلى «القضاء على الإرهاب الشبح؟. لا معنى لما يحدث من حرب دولية على الإرهاب. حرب توظف فيها جهود إعلامية رهيبة تصب كلها في تكريس صورة خرافية شبحية لهذا العدوّ الطارئ الذي يهدّد العالم ويتسرّب لكل مفاصل الاقتصاد والسياسة والإعلام بسلاسة عجيبة وينجح في تزويد فروعه المنتشرة على امتداد الأرض بالمال والسلاح ويتنقل محاربوه بقدرة «سحرية» على اختراق كل حدود المعمورة في زمن التكنولوجيا المعلوماتية المتطورة القادرة على مراقبة حركة الناس في ديارهم فما بالك وهم يجوبون أنحاء العالم بأسلحتهم المتطوّرة. أسلحة مرقّمة مخابراتيا بشكل يتيح متابعة مسيرة «حياتها» منذ النشأة حتى الممات !!! نقول لا معنى حقيقي لشعار الحرب الدولية على الإرهاب ، وليس لدينا أدنى وهم في قدرة بعض أصوات العقل التي ترتفع من حين لآخر في دول الغرب نفسه ،على اختراق شبكات تزييف الوعي ووسائل التوجيه والتحكم والتدمير المعولمة التي نجحت في ترتيب إيقاع العالم على حسب ما تقتضيه مصالح رأسمالية توحّشت إلى حدّ تحويل الحروب والمآسي الإنسانية المرعبة(ومأساة الشعب السوري مثالا) إلى «خدمة إعلامية» رقمية تتنافس في جمالية الألوان وصفاء الصوت وسرعة إيصال المعلومة. سرعة انتهت إلى إغراق البصر والمخيلة بسيول من الصور المجرّدة من خلفيتها الإنسانية الواقعية. ونحن نعرف ما انتهت إليه حركة «احتلّوا وال ستريت» في أمريكا من تهميش وتذويب رغم نجاحها في حشد ما يفوق المليون مواطن للإحتجاج على هيمنة الرأسمالية المالية على مقدّرات الكون. المحصّلة من كل هذا أن «الإرهاب» أصبح حصان طروادة شديد النجاعة والفاعلية لإجهاض الثورات العربية وتجديد آليات الإستعمار والهيمنة على العالم إلى جانب الاليات التقليدية التي لم تنته صلاحيتها كالمديونية والقوة العسكرية طبعا. ميزة هذا السلاح الجديد أنه بأيد محلية وبقوى شبابية في أوج عطائها الجسدي والعاطفي، وبخطاب ديني «إسلامي» كان إلى حدّ قريب يمثل رافعة ثقافية وطاقة روحية للتجديد الحضاري والتحديث والتقدّم المنفتح على مستقبل الإنسانية ، فإذا به يتحوّل على أيدي هؤلاء «السلفيين الجهاديين» إلى طاقة تدمير للإسلام وللمسلمين في كل أنحاء الأرض. ولعلّ صعود اليمين الفاشي في أوروبا وأمريكا اليوم (بعد نجاح دونالد ترامب في الفوز بترشيح الجمهوريين بما ينبئ باحتمال عودة خيارات جورج بوش الابن) سيرسّخ هذا التوجّه في السياسة الدولة ويعمّق خيار الفوضى والحروب العبثية الموجّهة أساسا ضدّ جهة حضارية واحدة للأسف. انقسام الجبهة السياسية الداخلية حول الإرهاب في كل مرة يضرب فيها الإرهاب تنقسم الساحة السياسية التونسية بين من يريد استثمار العملية لاستهداف خصم سياسي والنيل من مصداقيته بتحميله مسؤولية نشأة الظاهرة الإرهابية أو في أحسن الأحوال مسؤولية التغاضي عنها وعدم تقدير حقيقة حجمها ومدى خطورتها حين كان مشرفا على قيادة البلاد ، وبين من يدفع في اتجاه توفير شروط وحدة وطنية صلبة على قاعدة برنامج سياسي وطني جامع يهدف لحماية مسار الانتقال الديمقراطي وتحصين التجربة الديمقراطية الهشة في محيط إقليمي ودولي مضطرب ومعقّد عبر الاستمرار في النهج التوافقي الذي أثبت نجاعته في مراحل سابقة وجنّب البلاد السقوط في مهاوي الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي المباشر. مع تفجّر العامل الإرهابي منذ السنة الأولى من الثورة ، تبيّن للملاحظين أن منطقا جديدا «ما بعد سياسي» يخترق الفضاء العامّ . وها هو بعد عملية بن قردان يوشك أن يحدث فراغا مطلقا للمعنى السياسي التقليدي ليفتح أفق مستقبل هذا المعنى على احتمالين اثنين : إمّا أن تنجح النخب السياسية والفكرية في استجماع شظايا الفكرة الوطنية المتناثرة إثر كل عملية إرهابية ، وتحوّل دم شهداء العمليات الإرهابية إلى سداة للحمة وطنية صلبة وأرضية انطلاق جديدة للمشروع الوطني الذي نفخت الثورة في روحه، أو أن تنزلق البلاد نحو الفوضى وتسقط نهائيا في مربع العنف والخراب الذي تدفع في اتجاهه أطراف إقليمية ودولية لا تخفي انزعاجها من نجاح نموذج ديمقراطي في الفضاء العربي الاسلامي يغري بالإقتداء ويضع أسس استقلال وطني حقيقي. لم يعد يخفى على أحد إذن أن الفاعل الإرهابي فاعل ذو أجندة وامتدادات إقليمية ودولية، وأن الحدّ من فاعليته يمرّ حتما عبر وحدة وطنية حقيقية تؤجّل الحزبي والإيديولوجي إلى ما بعد استكمال البناء المؤسساتي الوطني الذي قطع فيه التونسيون أشواطا متقدمة جدا مقارنة بشقيقاتها من دول الثورات العربية . الموقف الدولي غير موحّد تجاه التجربة التونسية ، وتسوده تناقضات معقّدة بين مختلف مراكزه تتيح لتونس مجالا للمناورة يتسع ويضيق حسب قدرة النخب السياسية على ترتيب أولوياتها الوطنية . ولكن هشاشة الوضع الإقتصادي (الذي اكتشف الجميع خلال أحداث القصرين الأخيرة والاحتجاجات الشبابية المطالبة بالتشغيل خطورته وقابليته للانفجار في وجه الجميع بين لحظة وأخرى) وتحكم مراكز المال الدولية في خياراتنا الإقتصادية وانفجار الوضع الإقليمي وافتقادنا لأصدقاء حقيقيين يدعمون تجربة الإنتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا ، كل هذه العوامل تحتّم علينا تحصين الجبهة الداخلية التي تظلّ العنصر المحدّد في صمود التجربة. ستظلّ تجربة الحوار الوطني بإشراف رباعي المنظمات الوطنية نموذجا فريدا وملهما لبدائل ممكنة وضرورية للمواجهة المفتوحة بين فرقاء السياسة . ولكن المؤسف أن الزخم السياسي الدولي الذي وفرته جائزة نوبل للسلام المسندة لتونس بفضل هذا الحوار لم يتمّ استثماره من طرف الحاصلين على الجائزة للانطلاق الجدي في رسم ملامح مشروع اقتصادي جامع لمنظمتي العمال وأصحاب العمل لا غنى عنه للجميع. فكلتا المنظمتين تدركان أن لا غنى للواحدة على الأخرى ، وأن سلاح الإضراب إن هو انفلت من يد المنظمة العمالية لصالح أجندة بعض مكوناتها السياسية قد يسقط سقف الإقتصاد ومن ورائه الوطن على الجميع، مثلما أن الإسراف في منطق الربح الرأسمالي المجحف على حساب حقوق العمال الأساسية قد ينزع شعور المواطنة نهائيا من قلب العامل . فراغ المعنى السياسي وأولوية الإنقاذ الحوار الإجتماعي في تونس سجّل مكاسب مهمة بتوصله إلى إمضاء العقد الإجتماعي بين منظمتي الأعراف والعمّال . ولكنه معطّل في قطاعات إقتصادية حيوية كالفسفاط الذي لم يسترجع نسق اشتغاله العادي منذ الثورة ويحرم البلاد من موارد مالية حيوية ، تماما كما تعطل الإعتصامات مشاريع تنموية كثيرة برمجتها حكومات ما بعد الثورة في الجهات الداخلية ورصدت لها أموالا طائلة لا زالت مجمّدة. هذا الحوار الإجتماعي يتوقف تقدمه على تبلور رؤية وطنية جامعة مناطة بعهدة القوى السياسية التي تمرّ بمرحلة خطيرة. هي مرحلة فراغ المعنى السياسي ونضوب الآبار الإيديولوجية القديمة . فأمام حالة الخراب المعمّم الذي ينشره «الإرهاب» المنفلت من كل حدود العقل والدين والسياسة ، يصبح وجود الدولة نفسه مهددا ، ويصبح الصراع السياسي الحزبي بالأدوات التقليدية عبثا ومثيرا للسخرية. لذلك تتراجع نسبة المشاركين في الإنتخابات ، وتتراجع مكانة الديمقراطية في وعي الناس، ويزهد الكثيرون في حريّتهم لصالح من يعدهم بالحد الأدنى من الإستقرار( حتى في ظل العشيرة في العراق مثلا بعد تفتت الدولة) . حتى الذين ضحّوا يوما ما في سبيل الحرية والكرامة والحقوق السياسية يجدون الآن أنفسهم في موقع إدانة وحرج أخلاقي أمام حالة الموت المجاني في سورياوالعراق واليمن وليبيا ، وأمام جحافل المشردين والجوعى والمهجّرين واليتامى والثكالى الذين يحملقون في وجوهنا من خلال شاشات التلفزيون كل يوم باحثين عن معنى ما يحدث لهم ولأوطانهم. هذا الخراب المعمّم وهذا الموت الزاحف من كل الجهات بأداة «الإرهاب الجهادي المعولم» على أوطاننا انتهى إلى خلخلة أعمدة وجودنا القديم ، حتى يكاد الدين ينكر متديّنيه والسياسة سياسييها واللغة مثقفيها. خاتمة رغم صعوبة التقاط المعنى وسط الإنفجار التاريخي العظيم الذي يضرب العالم ومنطقتنا العربية تحديدا وما يخلفه هذا الانفجار من دويّ يصمّ آذاننا عن أصوات المستقبل ، ورغم صعوبة التنبؤ باتجاه محدّد للأحداث في أوطاننا، ورغم افتقاد دولنا الصغيرة سليلة تقاليد الانحطاط لأدنى شروط الفعل في معادلة دولية استعمارية معقّدة ، فإن حدث الثورة الذي انطلق من تونس وأزاح عن تاريخنا صخرة الإستبداد يمنع التونسيين من الاستسلام لدور الضحية والتمسك ب«الحلم». الحلم ليس مقولة سياسية طبعا، ولكنه شرط الصفة الإنسانية السابقة لغيرها من الصفات. وهو ما يتيح لنا في أسوا الحالات أن نحلم بموت أجمل من موت على يد «الإرهاب»، وفي أحسن الحالات أن نحلم بموت الإرهاب نفسه حين ننجح في تخصيب خيال شبابنا وشعوبنا بفكرة الحرية. وهذا من صميم مهام الثورة.