49 سقوط بغداد وانكشاف الأكاذيب في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف أن هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. ففي الخطة الأصلية كانت الضربة الأولى « صدمة ورعبا» ليوم واحد، وبعدها تكون العمليات الجوية متوازية مع التحركات لا تزيد عليها، حتى يكون ضررها محصورا على الجيش العراقي والحرس الجمهوري من ناحية ، وكذلك على بنية العراق الأساسية من ناحية أخرى. وكانت التقديرات المصاحبة للخطة ترى أن وحدات من الجيش والحرس يمكن تحويل ولائهما بمنطق إنقاذ العراق من دمار لا لزوم له. وكانت التقديرات كذلك أن مرافق العراق لا يصح تدميرها، لأن القوات الأمريكية والإدارة في العراق - بعد النصر - تحتاج إلى استعمالها - وليس مقعولا أن تدمرها اليوم ثم تكتشف أنها تحتاجها غدا»!. ووقع مشهد له دلالته في مكتب الرئيس « بوش» في البيت الأبيض، فقد كان الموعد المقرر لبدء خطة غزو العراق آخر ضوء من يوم 20 مارس( 2003)، ومع ذلك فإن الرئيس «بوش» وقّع أمرا رئاسيا، بقتل «صدام حسين» بضربة عاجلة ولو أدّى الأمر إلى استباق ساعة الصفر،وذلك على أساس معلومات قيل له : إن مصدرها الآن في موقعه يتابع عن قرب تحركات «صدام حسين» داخل «بغداد». وقال الرئيس «بوش» وهو يوقع الأمر الرئاسي بالقتل المسبق « إن صاروخا واحدا «يقتل» هذا الرجل الآن، كفيل بأن يوفر حربا بأكملها ! وعاد يؤكد لنفسه :«أليس صحيحا أن طمأنة جيش كامل تساوي قتل رجل واحد؟!». وكانت الملاحظة موحية. ولم تمض ساعات حتى كان «تنيت» يتصل على عجل بالبيت الأبيض، فهم يعرفون الآن بالضبط أين يوجد «صدام حسين». وأعطى «جورج بوش» موافقته، وكذلك بدأت ضربة الحرب الافتتاحية قبل موعدها المقرر بأربع وعشرين ساعة، والأمل أن يقتل «صدام حسين»، بحكمة أن «قتل رجل واحد يطمئن جيشا كاملا»! والحقيقة أن هيئة أركان حرب القوات المسلحة الأمريكية لم تكن لديها شكوك من أي نوع في نتيجة عمل عسكري ضد العراق ، فقد كانت الدفاعات العراقية أمامها واهية، وقلب العراق مفتوح، والطريق إلى «بغداد» مهما كان أو يكون سالكا، وأية مقاومة «لحركة الثعبان» محدودة، حتى لو تأخر مجيء الفرقة الرابعة القادمة بحرا من تركيا - ولم يكن الجنرال «ريتشارد مايرز» متواضعا حين قال لرامسفيلد:«أنا أعرف ما نحن مقبلون عليه معركة بين طائرة من طراز ف 15، وطائرة من «الورق»(Kite) التي يلهو بها الاطفال، لكن ذلك ليس من شأنه أن ينسينا أننا سوف ننزل من أعالي الجو إلى تراب الأرض،( وفي الغالب فإن قيادة الأركان المشتركة لم تكن تريد خسائر في أرواح جنودها يمكن توفيرها، علما بأن هناك جاعات غير نظامية ( فدائيو صدام) تملك فرصة التعرض لأجناب طابور مندفع إلى أمام لا يلتفت يمينا أو يسارا!). وفي رغبتها الجارفة للحسم العسكري سريعا ، فإن قيادة القوات استعملت رخصة كثافة النار بأكثر مما كان مقدرا في الخطة الأصلية، وهكذا فإن ضربة الصدمة والرعب على «بغداد» تكررت - وزادت، وفي بعض الليالي كان الضرب الجوي مروعا فوق «بغداد» وحولها، وطبقا لتقرير هيئة عمليات القيادة المشتركة، فقد قامت الطائرات الأمريكية فوق ميادين الضرب ب 41404 طلعة جوية، وأطلقت 19948 قذيفة موّجهة ، إلى جانب 9251 قذيفة غير موّجهة ، تغطي بالنار دوائر واسعة دون هدف بالذات ، وكان مخيفا - وفي المحصلة فإن هذه الكثافة في النيران لم تهدأ لتترك الفرصة لمن يريد أن يراجع أو يفكر أو يتصل سواء: من قادة الجيش والحرس الجمهوري، وبالتالي فإن غضب النار المنهمر من السماء لم يترك لأحد من الزعماء والقادة المحليين - ( كالمرجعيات الدينية والقبائل والعشائر) - مجالا لأمل ، فهذه النار غضب عدو ويصعب اعتبارها تحية صديق. [ومن الواضح الآن أن السياسة العراقية في «بغداد» لم تكن تعرف ما فيه الكفاية عن معنويات قواتها (الجيش والحرس الجمهوري) - ولا عن المراجعات التي تزحم الآن مشاعرها وأعصابها وإرادتها، خصوصا وقد تفجرت الحقائق وبانت نتائجها المحتومة - وفي الغالب فإن القيادة العسكرية العراقية آثرت أن تتظاهر بتنفيذ ما لديها من أوامر ( ولعلها آثرت أن تعفيها التطورات المتسارعة من حرج العصيان المكشوف في تلك الظروف)، وعلى الناحية الأخرى فإن الساسة في «بغداد» بدت وكأنها لا تريد أن تطل على الحقائق وجها لوجه. والغالب أنه كان نوعا من «القدرية» تأمل في معجزة لن تجيء. ووسط دخان أوهام معزولة عن الواقع - فوجئ الجميع بأن القوات الأمريكية في مطار «بغداد» فعلا، وتبددت الأوهام]. ثم لمعت شرارة في أجواء «بغداد» ( وغيرها من المدن الكبرى) - ذلك أن قوات الغزو العسكري المتقدمة، فشلت فشلا ذريعا في إدارة لحظة اللقاء الحرجة بين جيش غريب غاز وأصحاب وطن ينتظرونه بحذر على الأقل! وفي العادة فإن لحظة لقاء الغرباء ، وبينهم قوي وضعيف ، وغالب ومغلوب- لحظة شديدة الحساسية، وإذا فلت عيارها فإن الانطباعات والتشوهات التي تولّد منها تعيش طويلا مهما تنوعت عقاقير علاجها. ولعل القيادة المركزية أحست بأن اللحظة أفلتت، وكذلك كان قول الجنرال «فرانكس»: «إن قواتي كانت تشكيلات محاربة، واجبها البحث عن العدو وقتله، وليس الابتسام في وجهه وأخذه بالأحضان». وكان الجنرال « فرانكس» محقا، وكانت المسؤولية واقعة بالكامل على نقص الأداء السياسي للخطة حين انتهاء القتال. ومع ذلك فإن « المجموعة الإمبراطورية في واشنطن» - ظهر لديها الميل إلى تغطية قصورها في التخطيط السياسي لم بعد الحرب - بتوجيه المسؤولية إلى غيرها من الذين لم يستطيعوا التفريق بين مهام القتال - ومسؤوليات الاحتلال. ولم تمض أيام على الاحتلال حتى كانت قوات الغزو في موقف يسمح لها برؤية الحقائق كاملة، مكشوفة على الأرض ، وأول الحقائق أن جميع الذرائع القانونية والأخلاقية التي دفعت بها إلى هنا غير صحيحة، بل إن القائلين بها كانوا أول من يعرف أنها كذلك (غير صحيحة): - ليست هناك أسلحة دمار شامل (نووية أو كيمياوية أو بيولوجية). - ليست للنظام الذي سقط في العراق إمكانية من أي نوع لتهديد الولاياتالمتحدة ( أو أوروبا أو جيرانه) في ظرف 45دقيقة! - ليست للنظام العراقي صلة بتنظيم القاعدة (وبالتالي بما جرى يوم 11 سبتمبر 2001). - وأسوأ من ذلك فإن الشعب العراقي لا يبدو سعيدا بهذه القوات التي جاءت لكي تحرره. وعلى نحو ما فإن القوات المسلحة ورئاسة أركان الحرب المشتركة - بدت ضيقة الصدر في تعاملاتها مع كل الأطراف. - تشعر من ناحية أن السياسة في «واشنطن» لم توفر لها الغطاء(الأخلاقي والقانوني) الذي يحفظ لها «قيمة وكرامة العمل الوطني». - وتشعر أن المجموعة الإمبراطورية تأخرت في إيجاد بديل يأخذ عن عاتق القوات عبء القيام «بدور بوليس محلّي» في العراق ، ثم إن هذه المجموعة تخبطت في خياراتها من عسكري سابق مثل الجنرال « غاي جاردنر» - إلى موظف ديبلوماسي مثل «بول بريمر» - إلى عرض «المهمة» على سياسي عجوز مخضرم مثل « جيمس بيكر». - وتشعر أن الرأي العام في الولاياتالمتحدة - وفي العالم - لم تعد فيه حماسة للمهمة التي قامت بها والتي تزداد تكاليفها - ولا تقل بعد أول يوم - وذلك يضايق ولعله يجرح! - وتشعر أخيرا - وهذا هو الأمر المزعج - أن الشعب العراقي ليس راضيا وليس حامدا ، بل إنه ساخط وناقم على الكل بغير استثناء. وفي هذه الأجواء اتخذت قرارات عصيبة ومتسرعة: جرى حل الجيش العراقي ووزارة الداخلية، والخارجية والإعلام، مع ظن بأنه من الأفضل إعادة الخلق من جديد. ولم تكن مصفحات القوات الأمريكية تملك - ولا كان ذلك واجبا - كفاءة مراعات التضاريس التاريخية والدينية والاجتماعية والنفسية للشعب العراقي ، وكذلك وقعت أخطاء مهولة.