يعتبر السلك القضائي من الأسلاك الحساسة لا فقط في تونس بل حتى في البلدان الأوروبية المتقدمة التي تولي عناية فائقة للقضاة وتستفيد من خبراتهم حتى بعد التقاعد في الكثير من المجالات لما يحملونه من خبرة ومعرفة وتجربة... ولئن كانت وزارة العدل أحالت السنة الماضية 50 قاضيا على التقاعد فإنها تعتزم هذه السنة إحالة قرابة 52 قاضيا آخرين. وهو ما يدفع للتساؤل: هل إن من شأن الإحالات على التقاعد أن يؤثر سلبا على المنظومة القضائية ؟ وهل أنها تندرج في إطار تشبيب السلك القضائي ؟ وهل أن التمديد في سنّ التقاعد من شأنه أن يؤثر سلبا على استقلالية القضاء؟ وهل تنوي بلادنا الاستفادة من بعض الكفاءات القضائية لخدمة العدالة الانتقالية وإعداد الدستور ورسكلة القضاة الشبان ؟ «التونسية» رصدت آراء بعض القضاة والهياكل الممثلة لهم لمعرفة رأيهم في الموضوع. البداية كانت مع القاضي من الرتبة الثالثة محمود بن جماعة الذي أفاد أن هناك سيلا جارفا لعدد كبير من القضاة ستتم إحالتهم على التقاعد خلال الأشهر القليلة القادمة مشيرا الى أن هناك عددا كبيرا من القضاة المتقاعدين تستفيد من خبراتهم بلدان الخليج على غرار الإمارات وعمان وهي طاقات وكفاءات من الوزن الثقيل باعتبارها في أوج عطائها نظرا لما اكتسبته من تجربة. وطالب القاضي محمود بن جماعة الحكومة المؤقتة المنبثقة عن الثورة بأن تولي أهمية للموضوع باعتبار أن له انعكاسات سلبية على السلطة القضائية أولا والمتقاضي ثانيا. وتساءل القاضي محمود بن جماعة عن استعدادات الحكومة لإرساء العدالة الانتقالية في بلادنا من عُدة وعدد من القضاة مشيرا الى أن بعض البلدان سبقتنا في هذا المضمار حيث أنها أحدثت محاكم خاصة بالعدالة الانتقالية وكلفت بعض الدوائر المتخصصة في نطاق المحاكم العدلية بهذا الملف في حين اختارت بعض الدول الأخرى إحداث هيئة مختصة ومستقلة للنظر في متطلبات العدالة الانتقالية تتركز على عدد من المبادئ أهمها الكشف عن الحقائق المتعلقة بالماضي وإحداث بنك معلومات تتعلق بالتعذيب وتبديد المال العام إضافة الى المحاسبة والتعويض وجبر الأضرار ومصالحة الشعب مع ماضيه لتجنب الفساد والاستبداد في المستقبل. وبخصوص كيف يمكن الاستفادة من القيمة العلمية للقاضي أكد القاضي بن جماعة أنه يمكن الاستفادة من طاقته العلمية من خلال تأسيس مراكز علمية وأكاديميات وتنظيم ملتقيات دولية ووطنية يقدم خلالها القاضي بحوثه ومحاضراته ودراساته للعموم مشيرا الى أن القيمة العلمية للقاضي في الغرب تستغل من طرف منظمات عالمية على غرار محكمة لاهاي وهيئة الحكماء والمستشارين العالميين حيث ينظر القضاة في مسائل عويصة تهم الشأن العالمي. كما تطرق القاضي بن جماعة الى أن الطاقات القضائية من شأنها أن تلعب دورا هاما في تأطير القضاة الشبان ورسكلتهم الى جانب التدريس بالمعهد الأعلى للقضاء مؤكدا أن الهدف من انتداب طاقات شابة صلب السلطة القضائية هو التغطية على جوانب أخرى. وفي إجابته عن سؤال «التونسية» المتعلق بأن هناك رائحة سياسية وراء مسألة العدالة الانتقالية أفاد القاضي بن جماعة أنه من الأفضل أن يحسم في المسألة القاضي لأن ذلك يمثل بالنسبة له امتحانا لمدى خبرته ومصداقيته وتعامله مع الأحداث إضافة الى أنه مؤهل للبت في مسائل تعنى بالمظالم وضياع الحقوق... أما بالنسبة للقاضي فرحات الراجحي باعتباره هو الآخر على أبواب التقاعد أفادنا أنه من أول المعنيين الراغبين في الخروج لأسباب يطول شرحها... مضيفا أنه إذا عبّر عن موقفه سيعتبر البعض ذلك داخلا في إطار مصلحة شخصية. وأضاف القاضي الراجحي أن مسألة إصلاح المنظومة القضائية تقتضي تشريك الجميع على غرار المجلس الوطني التأسيسي والمجتمع المدني ووزارة العدل مشيرا الى أن مسألة سن التقاعد لا يقترحها القاضي بل هي تدخل في إطار توجه جديد داخل المنظومة القضائية خاتما حديثه بأنه سيفصح عن آرائه ومواقفه بعد أن يغادر سلك القضاء. كما التقت «التونسية» بقاضية على أبواب التقاعد خيّرت عدم نشر اسمها تعرضت الى الظلم والتهميش خلال العهد البائد ولكنها تولت منصبا هاما بعد ثورة 14 جانفي حيث أنها تشرف على أهم محكمة في تونس فأكدت أنه تم تعيينها بمنصبها الحالي نظرا لنظافة يدها أولا وردّا للاعتبار خاصة أمام ما عانته من تهميش وإقصاء في العهد البائد مضيفة أنه سيتم الاستغناء عن خدماتها خلال الأيام القادمة... وأكدت محدثتنا أنه على وزارة العدل مراجعة مسألة سن التقاعد إذ أن هناك عددا هاما من المسؤولين الذين تم تعيينهم مؤخرا صلب مراكز القرار تميزوا بحسن سيرتهم ونظافة أياديهم وقدرتهم على تسيير عمل المحاكم والمرفق القضائي خلال الفترة الحساسة التي تمرّ بها السلطة القضائية مشيرة الى أنه إذا تمّت إحالتهم على التقاعد فإن ذلك سيعرّض السلطة القضائية الى انعكاسات خطيرة منها إفراغها من محتواها أي طاقاتها القضائية الكفأة وهو ما سيكون له أثر سلبي على القضاء التونسي والمتقاضين عموما.. وانتقدت محدثتنا وزارة العدل في تعاملها مع مسألة إصلاح المنظومة القضائية خاصة أنها لا تولي أهمية لمسألة خروج عدد كبير من القضاة للتقاعد وما يمكن أن يسببه ذلك من تأثير على المرفق القضائي قائلة: «إن وزارة العدل تنوي انتداب حوالي 150 قاضيا شابا لتدارك الفراغ الذي سيحدثه القضاة الذين هم على أبواب التقاعد وهي تخفي وراء ذلك غايات سياسية وشخصية منها تطويع القضاة المنتدبين لخدمة مصالحها الخاصة». كما تحدثت محدثتنا عن استغلال النظام البائد لمسألة التمديد بالنسبة للقضاة حيث أن عددا من القضاة الموالين لبن علي تمتعوا بالتمديد في حين حرم عدد آخر مشيرة الى أن هناك من تم التمديد لهم من أجل كفاءتهم المهنية. واقترحت محدثتنا سن قانون يتعلق بمسألة سن التقاعد بالنسبة للقضاة حتى لا يجد القضاة أنفسهم محل ابتزاز من طرف السلطة التنفيذية في المستقبل. أما بالنسبة للهياكل الممثلة للقضاة فقد اتصلت «التونسية» برئيسة جمعية القضاة التونسيين القاضية كلثوم كنّو فأفادت بأن الجمعية ترفض مسألة التمديد باعتبارها تؤسس لعدم المساواة بالنسبة للقضاة اضافة الى أنها تعرقل المسيرة المهنية لبعض القضاة الذين يجب أن يتمتعوا بحقهم في الترقية مثل بقية زملائهم مضيفة أن القضاة المتقاعدين أو الذين هم على أبواب التقاعد طاقات عالية لهم خبرة رفيعة من الممكن الاستفادة منها في مجالات مختلفة مثل إعداد الدستور والتدريس والمشاركة في اللجان التي تعنى بالقوانين. أما بالنسبة لرئيسة نقابة القضاة روضة العبيدي فقد أكدت على أن نقابة القضاة ترفض التمديد باعتباره يؤسس لهضم حقوق بعض القضاة في ما يتعلق بالترقية في الخطط الوظيفية مشيرة الى أن مسألة سن التقاعد يجب أن توضع تحت المجهر حتى تتم مراجعتها وتركيزها بناء على مقومات وشروط ومعايير واضحة تخدم مصلحة السلطة القضائية. وأضافت القاضية روضة العبيدي أن مسألة التمديد تفتح باب الولاء للسلطة التنفيذية مشيرة الى أن انتداب قضاة شبان يعطي فرصة لأصحاب الشهائد العليا المعطلين عن العمل من جهة ويقلّص من الضغط على القضاة الحاليين خاصة أمام كثرة الملفات من جهة أخرى... وحول الموضوع نفسه اتصلت «التونسية» بالقاضي أحمد الرحموني رئيس مرصد استقلال القضاء فأكد أن مسألة التمديد لا تخضع الى معايير محددة وبالتالي يمكن أن تخرج عن الاعتبارات المهنية ليتم اخضاع واستمالة القضاة لمصالح بعض الأطراف مشيرا إلى أن التمديد يفتح الباب أمام الرشوة الادارية. وأضاف الرحموني أن سن التقاعد يجب أن يكون موحدا وأن أية امكانية للتمديد تعتبر مناقضة لمقتضيات استقلالية القضاء مؤكدا أن مسألة التمديد لا تستند الى مبدإ المساواة وأن الهيئة الوقتية هي المؤهلة للنظر في المسألة... من جهة أخرى أفادنا مصدر مطلع بوزارة العدل أن عملية إصلاح المنظومة القضائية جارية وفي هذا الاطار تم عرض مشروع الهيئة الوقتية على المجلس التأسيسي حتى تضطلع بمهام وصلاحيات المجلس الأعلى للقضاء، وبالتالي توكل لها كافة شؤون المنظومة القضائية ومنها الحركة القضائية وسيرالمنظومة القضائية والتمديد لبعض القضاة مؤكدا أن هناك اجماعا من كافة الفاعلين على استبعاد اللجوء الى التمديد لاعطاء الفرص لكافة القضاة. كما ذكر مصدرنا ان 16 قاضيا و52 آخرين سيحالون على التقاعد بين جويلية ونهاية العام مؤكدا أن مرفق العدالة لن يتعطل لأنه توجد كفاءات قادرة على تعويض المتقاعدين...