تسليم البغدادي لطرابلس يساوي داخليا إقالة محافظ البنك المركزي التونسي لإرضاء الرئيس بعد أن غاب إمضاؤه عن مراسم التسليم. هذا ظاهر الأشياء لكنّ بواطنها مليئة باستنتاجات مجنونة نرجو ألّا تؤدي إلى انزلاقات تبعدنا عن الاستحقاقات الحقيقية للثورة. التخفي وراء رداء الشرعية والصلاحيات لم ينجح في إخفاء تكتيكات الحكومة ومكوّناتها: دخلنا باستحقاقات تأسيسية فأصبحت حكومية تنفيذية شرعية وقتية فلماذا لا نجعل منها طريقا نحو استحقاقات حُكْم نهائي؟ طبعا هذا معقول باعتبار أنّ جوهر العمل السياسي هو طلب الحكم ولكن عدم وضع آليات واضحة وملزمة للجميع للتقيد بقوانين وخاصة بأخلاقيات اللعبة قد يعيدنا إلى نفق النتائج المعروفة مسبقا . فليس مهمّا ما سيسفر عنه صندوق الانتخاب المقبل بقدر أهمّية المسار المؤدّي إليه. وهذا المسار إذا ما استعمل طُرُقا «نوفمبرية» وأصبغ عليها البهارات الديمقراطية الشكلية ، لن يؤدّي إلاّ إلى النتائج القياسية التي كان يحصدها بن علي بما يُفرِغ العملية «الصندوقية» من صِدق دلالتها في التعبير عن الإرادة الشعبية الحقيقية والحرة. فالانتخابات المقبلة على الأبواب بينما الحكومة تتصرف كأنها باقية مدى الحياة أو تعمل لأجل ذلك .فما معنى إقالة محافظ البنك المركزي الآن (بعيدا عن «لوبانة» الصلاحيات) كأنّ ذلك سيؤدي إلى نتائج مالية واقتصادية عاجلة تكون سندا لها لدى المواطن يوم الانتخاب. وإمضاء الرئيس على الإقالة (في انتظار موقف التأسيسي) ووضوح البلاغ «بالاتفاق مع رئيس الحكومة» وتأكيد الناطق الرسمي للرئاسة على أن القرار وقع اتخاذه منذ مدة، دليل على أنّ المستهدَف ليس شخص النابلي بل ربما البنك المركزي ! لنعُد «فلاش باك» إلى بداية الأحداث: حملة على النابلي في المواقع الالكترونية فتسريب لخبر إقالته والأهم تأكيد بعض قياديي الترويكا على ذلك. فجأة، تخبو الحكاية وتصمت الحكومة وأنصارها عن الكلام المباح وتزامن ذلك مع خبر تتويج المحافظ الحالي (قد يصبح السابق) بجائزة أحسن محافظ في إفريقيا. النابلي وباعتماد أسلوب التحفظ الواجب عليه كان يقول دائما أن البنك المركزي يجب أن يحافظ على استقلاليته بعيدا عن كل التجاذبات السياسية حفاظا على التوازنات الكبرى للبلاد. لسائل أنْ.. يُجيب (لا أن يسأل) هل أنّ هذه الاستقلالية لا يمكن أن تتجسم إلا إذا كان على رأسها النابلي؟ طبعا هي غير مرتبطة لا بشخصه ولا بغيره بل بهيكلة إدارية صارمة ولكن ما الذي سيضيفه تعيين محافظ جديد على المدى القصير ، أي في الفترة الزمنية الممتدة من تعيينه إلى حدود الانتخابات القادمة؟ لا شيء إلا إذا كانت النوايا الظاهرة لا تعكس نواياها الحقيقية النائمة في أعماق التكتيكات! لماذا إذن طفا الموضوع مرة أخرى على السطح ليأخذ طابعه الرسمي؟ ربما (للتأكيد) لم تنس الحكومة للنابلي ذلك التوضيح الذي نشره البنك المركزي حول عدم مشروعية تدخلها في تحديد السياسة النقدية (رغم عدم معارضته للمحتوى) ولكن يبدو أن تصريحه الذي رغم عموميته و«تجريديته» حول كيفية استغلال السياسة النقدية قصيرة المدى لغايات سياسية وانتخابية هو الدافع الرئيسي الذي جعل من إقالة محافظ البنك المركزي ضرورة. هذا التصريح العام قد تكون الحكومة رأت فيه قصدا لها أو ربما أشياء أخرى كاشفة للنوايا اللامرئية!. لنفسّر هذا التصريح تقنيا وكيف يمكن نظريا للبنك المركزي أن يصبح العنصر الأول والأهم في تحديد سير العملية السياسية وبالتالي الانتخابية لو فقد استقلاليته: في الفترة القريبة الماضية مثلا، وقع التخفيض في معدل الفائدة وضخ كتلة نقدية معتبَرة لخلق سيولة قد تنعش الاستثمار وتخلق القيمة المضافة شغليا واقتصاديا. ولكن هذا المسار يجب أن يحترم التوازنات المالية الكبرى للبلاد بمعنى أنه لا يجب الاستمرار إلى ما لا نهاية في هذه التقنية ولهذا السبب لاحظنا حاليا ارتفاعا طفيفا في معدل الفائدة مع نقص في السيولة لدى مؤسسات القرض. ما الذي سيحدث لو تمّت مواصلة إغراق السوق بالسيولة التي لا تخلق قيمتها المضافة ؟ على المدى القصير سيحدث انتعاش اصطناعي ووهمي لجيب المواطن البسيط إذ سيجد جيبه عامرا بالأوراق النقدية بما قد يؤثّر على اختياراته الانتخابية القادمة لأنه سيفهم أنّ هذا «الجيب العامر» دليل على نجاح ماسكي الحكم ! ألا يُعتبَر ذلك عملا سياسيا بامتياز يفقد البنك المركزي دوره الرئيسي ويجعله لا حافظا لمصالح البلاد بل خادما طيعا للأطراف المهيمنة شرعية كانت أم لا؟ وهذا السيناريو الافتراضي يؤدي على المدى المتوسط إلى إدراك المواطن أن جيبه عامر، نعم، لكن بالأوراق «اللانقدية» أي الفاقدة لقيمتها المالية فترتفع الأسعار بشكل جنوني وقد يلجأ المواطن إلى حمل حقيبة كاملة مملوءة بالأوراق لشراء بعض الخضر مثلا بما يجعل معدل التضخم في أعلى مستوياته والدينار بلا قيمة أمام العملات الأخرى والنتيجة، انخرام توازنات البلاد ، اقتصاد منهار واحتقان اجتماعي قد يؤدي إلى تهديد السلم الداخلي. فلماذا إذن هذا الاستعجال في تنحية النابلي عوض الانغماس في معالجة المشاكل الحقيقية للمواطن؟ وهذا القرار الجمهوري حتى وإن صدر عن الرئيس وباتفاق مع الحكومة لا نرى فيه إلا قرارا حكوميا بامتياز. لماذا؟، علاقة البنك بالرئاسة تنحصر في تقديم التقرير الدوري للرئيس فقط، بينما ارتباط البنك بالسلطة التنفيذية وثيق لأن المعطيات والأرقام والسياسات المالية والاقتصادية تأخذ طابع الذهاب والإياب اليوميين بينهما. وهكذا في الحالتين: تسليم البغدادي كان قرارا حكوميا بلا إمضاء رئاسي وإقالة النابلي كانت الديباجة رئاسية بختم حكومي واضح، و الجامع بينهما هو أنّ النقد واللوم في الحالتين لم يوَجّه أساسا إلا إلى السيد الرئيس !