affiche إلى حدّ اللحظة، لم تنصت حركة «النهضة» إلى صوت الشارع ولا إلى نبضه ولا إلى نداء الواجب والمسؤولية الوطنية. توحي حركة «النهضة» إلى الآخرين أنها تتقدّم أو تتنازل ولكنها في الحقيقة تتأخر، وفي أحسن الحالات تراوح مكانها، يصرّح قيادي فيها بكلام ويأتي آخر ليصرح بنقيضه، تختفي وجوه لتطل وجوه آخرى، منها من يصعّد في الخطاب وفي المواقف ومنها من يلطّف ويهدّئ، منها من يحمّل غيره المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع ومنها من يحاول تبرئة الجميع سلطة ومعارضة باعتبار أن الأزمة الراهنة خارجة عن نطاق الجميع، ومنها من يعترف على مضض بحصول أخطاء في إدارة الحكم، ومنها من يرى أنّ هذه الأخطاء لا تبرّر هذا الحراك السياسي الشعبي إلى حدّ الدعوة إلى إسقاط الشرعية. «تتألّق حركة «النهضة» مرّة أخرى في خطابها المزدوج الذي تتقنه جيّدا ولكن الجميع خَبِرَهُ حتى أنّ الحركة أصبحت في تقدير الكثير من الملاحظين ملتزمة بكل شيء وبلا شيء. تمعن حركة «النهضة» في المناورة بشهادة أتباعها (حزب «المؤتمر»، حركة «وفاء»، التيار الديمقراطي..) قبل خصومها، وهي على يقين أن حصاد مناوراتها الحالية لن يكون بمثل حصاد مناوراتها السابقة، ولكن رغم هذا فهي تناور، واليوم كلما ناورت أكثر، خسرت أكثر سياسيا وشعبيّا. تعلم حركة «النهضة» أنّ ساعة الرّحيل قد دقت وهي في النهاية مستعدة للرحيل شريطة ضمانات معينة، ودون هذه الضمانات تبقى أبواب المواجهة مفتوحة، وهي تستعد لذلك بشكل أو بآخر. تستعد حركة «النهضة» لكل الاحتمالات سوى لانتقال سلس للسلطة إلى حكومة إنقاذ وطني بإرادة من الشعب دون شروط مسبقة من جانبها، ففي السابق كانت هي التي فرضت شروطها على الغير، على حلفائها في «الترويكا» وعلى المعارضة على حدّ سواء فطوعت محطات الحوار الوطني السابقة وما أكثرها إمّا لصالحها أو للالتفاف على نتائجها حتى أنّ مفهوم الحوار الوطني أصبح اليوم مفهوما مائعا مستهلكا، بلا معنى لا يؤمل منه أيّ شيء ملموس سوى مزيد تحصين الحركة وتعزيز مواقعها المعلومة والخفية داخل وخارج أجهزة الحكم. في هذه الأيام لا شيء يخدم مصلحة الحركة، فقد راهنت على تراجع التعبئة الشعبية حول «اعتصام الرحيل» فأخطأت وراهنت على تحقيق اختراق مؤثر لصفوف جبهة الإنقاذ الوطني ففشلت، ولما استهدفت اتحاد الشغل وناورت على مبادرته لتفكيكها وإفراغها من مضامينها ولم تتوفق دفعت بالنقابي لسعد عبيد إلى السير على خطى التيجاني عبيد، وإذا كان التاريخ قد قدّر للتيجاني عبيد حق قدره فلم يحفظ له شيء فإن المصير نفسه ينتظر النقابي لسعد عبيد باعث المنظمة التونسية للشغل. لن تغيّر المنظمة التونسية للشغل كثيرا في واقع الأمور داخل الساحة النقابية، فالاتحاد العام التونسي للشغل سيبقى «أكبر قوة في البلاد» مثلما كان بعد ظهور «اتحاد عمال تونس» و«الجامعة العامة التونسية للشغل»، فموازين القوى لن تغيّرها منظمة نقابية ثالثة مشبوهة في دورها وفي توقيت الإعلان عن إحداثها. أما الجاهلون بتاريخ الحركة النقابية وبدورها الوطني والاجتماعي منذ نشأتها إلى اليوم مثل الهاشمي الحامدي فمن الأفضل أن يكفّوا ألسنتهم عن الاتحاد وألاّ يتحدثوا عنه خيرا أو سوء، فيكفي الهاشمي الحامدي فخرا أنه سبق له أن شوّه حركة «النهضة» بطريقته الخاصة لينتهي به الأمر إلى الارتماء في أحضانها، وإذا تلقفته حركة «النهضة» بصدر رحب لغاية في نفس يعقوب، فليكن واثقا أن مصيره لن يكون كذلك مع اتحاد الشغل في المستقبل القريب. تجد حركة «النهضة» في «تيار المحبة» أو ما تبقّى من كتلة العريضة الشعبية بعض المتنفس في أجواء أزمتها الخانقة ومن الطبيعي جدا أن يعود الهاشمي الحامدي بعد صمت طويل ليروج من جديد لأطماعه في رئاسة الجمهورية في هذا الوقت بالذات، وإذا عرفنا السبب بطل العجب». إذن لا شيء يسير في صالح حكومة «الترويكا» بصفة عامة وحركة «النهضة» بصفة خاصة، فالحركة تبدو منزعجة كثيرا بقدر ما هي في قرارة نفسها منبهرة من استمرار التعبئة الجماهيرية ومن توسع الالتفاف الشعبي حول اعتصام الرحيل وتزداد خشيتها من قادم الخطوات التي وضعتها جبهة الإنقاذ، وهي تقدر أن هذه التعبئة ستتواصل وبنفس الحماس حتى في صورة حدوث تغيير مفاجئ في موقف المركزية النقابية من موقف الداعم إلى موقف المحايد مع تركها الحرية لهياكلها الجهوية والقطاعية لاتخاذ ما تراه مناسبا، وهذا أقصى ما يمكن أن تذهب إليه المركزية النقابية في ظلّ الأوضاع الراهنة التي قد تؤدّي بمبادرة الهيئة الإدارية إلى طريق مسدود. في الأثناء يبدع الشيخ راشد الغنوشي خلال حصة حوار مع قناة «نسمة» ليلة الأحد الماضي في توجيه ثلاث صفعات سياسية، صفعتان إلى قياديي حركته ومناضليها وأنصارها، الأولى لما أعلن عن ترحيل مشروع قانون تحصين الثورة إلى ما بعد الانتخابات القادمة والثانية من خلال الرسائل المباشرة والمشفرة الموجهة إلى شخص الباجي قائد السبسي وإلى حزب «نداء تونس» كما يفهم أنها موجهة كذلك وبنفس درجة الأهمية إلى جمهور حركة «النهضة»، فهل أنّ هاتين الصفعتين السياسيتين كافيتان لفك الارتباط المرحلي والتقاطعات القائمة بين مكونات الاتحاد من أجل تونس أولا وبين «الجبهة الشعبية» و«الاتحاد من أجل تونس» ثانيا، وهل هما كفيلتان كذلك بطمأنة جمهور حركة «النهضة» وتهيئته نفسانيا للقبول بمتطلبات المرحلة القادمة وبكلفتها السياسية المقترحة؟ أما ثالث الصفعات السياسية فتوجه بها الشيخ راشد الغنوشي بصفة مفاجئة إلى رفيق دربه في النضال وحليفه في الحكم المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت من خلال دعوته إلى الاستقالة الفورية. وبصرف النظر عن التبريرات التي قدمها رئيس حركة «النهضة» فإن هذا الموقف مستجدّ ويأتي خارج سياق التفاهمات والتوافقات المسبقة القائمة بين الحليفين وخارج سياق شرعية ومشروعية التنظيم المؤقت للسلط العمومية، ومن المفارقات أن رئيس حركة «النهضة» وفي الوقت الذي يتوجه فيه برسالة تحمل الكثير من الودّ والمودة إلى حزب «المؤتمر» بمناسبة انعقاد مجلسه الوطني يصوّب إلى الرئيس الشرفي لهذا الحزب سهامه القاتلة سياسيا. تداعيات جديدة يحملها هذا الموقف المفاجئ تنضاف إلى التداعيات المتراكمة قد تهدف في محاولة يائسة إلى إعادة خلط الأوراق، ولكن يظهر أن هذا الموقف جاء متأخرا جدا ذلك أن الوضع لم يعد يحتمل خلط الأوراق من جديد، وأنّ غدا لناظره قريب.