منجي المازني إبّان الثورة، وبدعوة من بعض الجمعيات الخيرية وناشطي المجتمع المدني، حلّ بيننا عديد العلماء والدّعاة مكرّمين ومبجّلين. وقد قاموا بإلقاء عديد الدروس والمحاضرات الدينية في بعض ولايات الجمهورية (وقد حضرت شخصيّا بجامع الرحمة – باردو- محاضرتين قيمتين للدكتور عصام البشير الأمين العام السابق للمركز العالمي للوسطية). لكنّ النخب الحداثية لم تستسغ ذلك فهاجت وماجت وقامت بهجومات عنيفة على هؤلاء الضيوف،متعلّلة في ذلك بأنّنا في تونس مسلمون منذ آلاف السنين ونعرف الإسلام جيّدا ولسنا في حاجة إلى فتح جديد يفتح أبوابا هي أصلا مفتوحة. و لعلّ الجميع على علم ببقية الوصلة والوصفة التي جاء ضمنها انّه: لا لتسييس المساجد ولا لتدخّل الدين في السياسة ولا ... ظلّت هذه النخبة تحارب كلّ مظهر من مظاهر التديّن بالنّفخ في التشدّد والمتشدّدين والرّبط بينهم وبين الإسلام السّياسي. كما أنّها حاولت جاهدة، إثر وقوع بعض الاغتيالات، بربط الصلة بين الإسلام السّياسي في تونس وبقية الحركات الإسلامية العربية (الإخوان المسلمين) وبربط الصلة كذلك بين الإسلام السياسي وبعض الدول الصّديقة كقطر وتركيا، متّهمة في هذا الصدد، الإسلاميين في تونس بتلقّي التعليمات من الخارج. وهو ما يمكن اعتباره يندرج في إطار تهيئة الأرضيّة المناسبة لمشروع انقلابي قادم. في مقابل تغاظي حركة النهضة عن كلّ الاتهامات والافتراءات وتشبّثها بمبدأ الحوار واللّين والتسامح والصّفح في سبيل العمل على إرساء وتركيز نظام ديمقراطي تعدّدي تشاركي، عمل الحداثيون الاستئصاليون على ابتزاز المجموعة الوطنية وكلّ من يعمل بصدق على إنجاح المسار الديمقراطي. كما عملوا بمبدأ : "نلعب وإلاّ نحرّم" بما يعنى بوضوح أنّه يجب أن ألعب معكم وأفرض شروطي عليكم أو أسعى لخلق الفوضى لإعاقة عملكم. وهو ما يعني كذلك أنّه عليكم إمّا أن تقبلوا وترضوا بكلّ طروحاتنا وشهواتنا ورقصاتنا وإن لزم الأمر تخرجوا من الحكم وإمّا أن نسعى لإحداث الفوضى وندفع البلاد نحو المجهول إلى حين حصول المأمول. وفي هذا الإطار تتنزّل كلّ الإضرابات التي نشهدها على طول البلاد وعرضها. ومعلوم أنّ هذه النخبة لا تعمل لحسابها فقط. بل هي لا تعدو أن تكون مجرّد حلقة من حلقات بقايا الاستبداد. وهي بالتالي لا يمكن أن تعمل إلّا بانسجام و تعاون تام مع كل مكونات الدولة العميقة. وفي هذا الإطار أيضا يتنزّل منح ترخيص لجمعية " شمس" المدافعة عن المثليين لتنشط علنا ضمن مختلف مؤسّسات المجتمع المدني. ومن المفارقات العجيبة، أنّ ما لم يحصل عليه هؤلاء طيلة سنوات الاستبداد والقهر وطيلة سنوات الجمر وسنوات السجون والمنافي والعذابات، تحصّلوا عليه في زمن الثورة وفي زمن الحرّية والديمقراطية. فالثورة التي قامت ضد كلّ أشكال الاستبداد والفساد أصبح الحكم الذي انبثق عنها، بين عشية وضحاها، يمنح تراخيص لجمعيات المثليين جنسيا لكي ينشطوا بكلّ حرّية مثل مختلف مؤسّسات المجتمع المدني؟ ؟ اللافت للانتباه، أنّ الذين احتجّوا على استقدام علماء ودعاة من عدّة دول عربية بدعوى : أنّنا مسلمون معتدلون وعلى مذهب الإمام مالك وأحفاد علماء الزيتونة وأنّنا أقوى إسلاما من هؤلاء العلماء والدّعاة ولسنا في حاجة إلى فتح جديد وإلى من يعلّمنا ديننا، هم أنفسهم من دعّموا جهرا أو سرّا أو ضمنيا تأسيس وتكوين هذه الجمعية المدافعة عن المثلية الجنسية. ولا حاجة لنا هنا لذكر الأسماء فهم معروفون للقاصي والدّاني. هؤلاء المسلمون على مذهب الحداثة والذين يحبّون الإسلام حبّا جمّا، كما يؤكّدون هم بأنفسهم، لا يتورّعون عن سؤال السّيد علي العريض، الوزير الأوّل الأسبق والأمين العام الحالي لحركة النهضة، في برنامج "ناس نسمة" على "قناة نسمة" : هل قمتم بمراجعات ؟ وهل لازلتم ترفعون شعار "الإسلام هو الحل" وشعار "الحاكمية لله" ؟؟ تصوّروا أيها النّاس آخر صيحة في عالم الإسلام والمسلمين على مذهب الحداثة والحداثيين : "مسلمون" يحاربون الله جهارا نهارا وبدون حياء و"بصحّة رقعة" ويدعون لحاكمية الشيطان !!! ومن اللّافت للانتباه كذلك في هذا الصدد، أنّ الذين سوّقوا للمثلية الجنسية مثلما سوّقوا من قبل لأبشع السلوكيات والجرائم الأخلاقية التي يمكن أن يقترفها الإنسان، هم أنفسهم من سوّقوا للاستبداد على مدى عقود وبدون خجل ولا وجل. كما لم يراعوا إلاّ ولا ذمّة في هذا الشّعب. وهؤلاء هم الذين عادوا من جديد بعد الثورة بطرق وأقنعة مختلفة : بعضهم اعتذر نصف اعتذار وبعضهم توارى عن النّاس بعض الوقت والبعض الآخر أطلّ على المشاهدين بطريقة الري قطرة قطرة من خلال بعض البرامج الترفيهية("التمساح"). ورجعوا كلّهم تحت عنوان الحرّية والديمقراطية الذي فرضته الثورة. إلّا أنّهم بدل أن يشكروا هذا الشّعب المسامح الكريم الذي لم يتشفّ أو ينتقم منهم ولم يحاسبهم حسابا عسيرا على أفعالهم الشّنيعة والبشعة والدّنيئة في حقه. وبدل أن يثوبوا إلى رشدهم وينحازوا إلى قضايا الشّعب ويلتزموا بالحد الأدنى من المصداقية، فإنّهم عادوا من حيث أتوا وسوّقوا من جديد للرّذيلة ولإشاعة الفاحشة على طريقة برنامج "عندي ما انقلك" واستضافوا ناطقا باسم هؤلاء المرضى (مرضى المثلية الجنسية) وقدّموه للمشاهدين وتحاوروا معه وأعطوه الفرصة كاملة ليقدّم نفسه وبرنامجه للمشاهدين وليقنعهم بوجهة نظره على الهواء مباشرة وعلى مسمع من كلّ العالم حيث أعلن على رؤوس الملأ أنّ 40 في المائة من الشعب التونسي من المثليين جنسيا !!! هذا الرهط من الصحفيين الذين ألقوا بكلّ أخطائهم وأوزارهم وجرائمهم على عاتق الاستبداد، متعلّلين بأنّه هو من دفعهم وأكرههم على تزيين الباطل، لا يستطيعون خداع الشّعب مرّتين ولا يستطيعون أن يتنصّلوا مرّة أخرى من جرائمهم. ولا يمكنهم النطق بكلمة "غلطوني" مرّة أخرى. لأنّهم أعادوا الكرّة وسوّقوا للفساد -ربيب الاستبداد- مرّة أخرى. وكما يقول المثل الشعبي "كسكسلوا يرجع لاصلو" و "لا ينفع العقّار فيما أفسده الدّهر". كما أنّهم برهنوا للجميع أنّ نفسياتهم من الطينة التي تحدّث عنها المفكر الجزائري مالك ابن نبي وهي التي تتوفّر على قابلية للاستعمار تجعلهم دائمي الاستعداد للعب كلّ الأدوار القذرة التي تعرض عليهم. وهم لأجل ذلك مستعدّون لبيع البلاد والعباد للاستبداد ولمروّجي الفساد بأبخس الأثمان. وهذا يقودنا إلى القول بجزم يقطع الشكّ باليقين، أنّ الاستبداد والفساد يخرجان من مشكاة واحدة. فمن رأيتموه يناصر الاستبداد فلن يكون إلاّ من أكبر المفسدين في الأرض. ومن رأيتموه يدعو إلى إشاعة الفساد والفواحش والرّذائل بدعوى حقوق الإنسان وحرّية الرأي وحرّية الضمير فاعلموا أنّه أكبر المستبدّين والمجرمين، ووفق هذه المعادلة مطلوب إعادة توجيه بوصلة مجريات الثورة ومسارها.