أبو مازن اعلم أن أهل تونس متجذرون في الحضارة و المدنية، أهل علم ورأي منذ قرون مضت، قد استقبلوا العبادلة السبعة استقبال المتعطش للتوحيد فعمّ الاسلام في بضع سنين وبنيت المساجد وأمّها طلاب العلم فظهرت أعلام خالدة تنتسب لهذا البلد ولغيره من بلدان الشمال الافريقي، يسّرت هذا الدين لأهله واستنبطت ثم اجتهدت و بيّنت. لعل من ألمع الأسماء التي ظهرت في مجالات علوم الدين وعلوم الاجتماع عبد الرحمان بن خلدون و اسد بن الفرات و ابن ابي زيد القيرواني و الامام سحنون ناقل المذهب المالكي لأرض الخضراء. لقد كانت الزيتونة معقل العلوم و مأوى الناهل للعلم الذي نُظّم عبر الأزمان باختبارات و شهائد تمنح لمن أتمّ دراسته. لقد اختارت تونس أن تكون سنية مالكية، أشعرية العقيدة ولكنها تعايشت دون جدال وفتن مع غيرها من الطوائف الوافدة. لقد قدم أول الأمر المذهب الشيعي ثم انصرف مع انتقال الدولة الفاطمية للقاهرة و لم ترو كتب التاريخ عن وجود قلاقل ولا فتن بين الناس. ثم قدم المذهب الحنفي السني مع الحسينيين وانتصب قاضي الأحناف بجانب قاضي المالكية يفتي لتابعيه و ينظر في قضاياهم وانتشرت مساجد هؤلاء و أولئك في هدوء و سلام. كما انتشرت زوايا الطرق الصوفية في شتى المدن والجهات و عوملت معاملة جيدة ولاقت الاستحسان في "خرجاتهم" و شطحاتهم فاعتبرتها تونس موروثا ثقافيا لها. تلك هي تونس الزيتونة التي عرفت منذ قرون بالترحاب واحترام الاختلاف، كان يحدث كل هذا تحت أنظار علمائها الكرام فيومؤون بالايجاب اذا لم يتعارض أمر من أمور حياتهم مع مقاصد الشرع ويغضبون لله غضبا شديدا اذا كان المقصود تفريق الأمة و تفتيتها. كذلك أجاب الشيخ عمر المحجوب على رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فنهره عن قوله ونصحه بمراجعة موقفه. من هنا يبدأ الحديث عن الطوائف الدخيلة على تونس اليوم بعد أن ألجمت الزيتونة وغُلّق باب العلم فيها فأضحت مجرد مسجد تقام فيه الصلوات واحتفالات المولد النبوي ودروس رمضان. كان هذا أعظم خطيئة ارتكبتها دولة الاستقلال فغيبت العلم الشرعي على طريقته الزيتونية بل تناولته كحضارة آفلة و موروث طقوسي و مناسباتي يشتغل به الناس في أوقات معينة. من نتائج التصحر الديني الذي فرض على تونس هبّت الفرق الدخيلة عبر الانترنات والقنوات الفضائية تبحث عن موطأ قدم في هاته البلاد فنشرت أفكارها واستحوذت على عقول الشباب الذين رغبوا في التعرف على علوم دينهم. ولعل أول المدارس الدخيلة كانت الوهابية التي ساهم أول الأمر سفر الناس للحج والعمرة في استيراد هذه الطريقة ومن ثم التعلق بها. ثم زاد التعلق بأفكارها مشائخ الفضائيات الذين برعوا في الخطابة لاستجلاب الأتباع من هنا وهناك. الوهابية نسبة الى الشيخ محمد بن عبد الوهاب حاولت تقديم رؤية جديدة للمذهب الحنبلي في اواسط القرن الثامن عشر في نجد و مناطق عدة من الجزيرة العربية. خاضت حينها حروبا ضد طقوس التعبد الغريبة عن الاسلام و اعلان الاسلام "التوحيدي" المنكر للتبرك بالقبور و هدم الأضرحة و الزوايا، و حروبا ضد العثمانيين الذين اعتبروها طائفة خارجة عن الخلافة الاسلامية. تعتبر الوهابية نفسها أهل السنة و الجماعة والفرقة الناجية وهي الداعية الرافضة لكل "البدع" اتباعا للسلف الصالح. كان ابن عبد الوهاب ينتمي الى عصر هاج الجهل والفقر فيه أيما هيجان فاختلطت العادات بالعقائد و ظن أن العالم قد هلك لاسيما وأنه لم ينظر لما حوله من مدارس مزدهرة بالعلوم كالأزهر والزيتونة والقرويين فاستحدث طريقته كما قدّر الله و زادت السياسة البلاء اشتدادا. أما الفئة الثانية فقد صنعت على مهل طيلة القرن المنصرم أين تنقل صاحبها الشيخ الهرري من قلب الحبشة الى الحجاز ومصر والشام للنهل من العلوم الشرعية. كان شافعيا قد رأى رأي العين طقوس الوثنية في القارة السوداء وعاين جهلهم بالدين الاسلامي رغم انتشاره في بلاد الصحراء الغربية والحبشة لقلة دراية بالعربية. لقد اشتغل بالتأكيد على العقيدة الاسلامية لمّا اجحف في الاعتماد على كتب ابن حجر و نقّب على الفتنة الدينية في العصر العباسي لإيقاظها فصار يردد أقوال المعتزلة والمرجئة والقدرية والجهمية و ردود الأشاعرة فاعاد اشعال نار خمدت منذ قرون وراحت العامة والغوغاء يتكلمون كلام الفلاسفة دون علم و لا دراية. تلك هي الفرقتان اللتان أضحت تتخذ تونس ملجأ لما وجدت فيها من ترك لأحكام الدين وفساد لمظاهر التدين. فرقتان نشأتا في محيطان مختلفان كليا على تونس و على باقي الشمال الافريقي الذي يحرسه مساجد عدة و علماء عظام انتشروا بين الزيتونة والقرويين ولكنهم غيّبوا لفترة من الزمن. فرقة تنتج فكرا متحجرا لا يمكن له مسايرة الواقع بل يفرّخ الجماعات التكفيرية و أخرى تعيدنا الى التوسل بالأولياء والتقرب الى الأضرحة و تحي ماضي فتنة دينية يشتغل بها مجتمعاتنا فتقسمه و تبث فيه التلاسن والجدل و تأجج نار الفرقة والتشرذم.