كانت قرية مطمئنة, يأتيها رزقها رغداً, من البحر ومن ورائه, يعود اليها شبابها المهاجر في كل صيف من كل فج عميق, يعودون محملين بالبضائع والأموال وزينة الحياة الدنيا, فيضفون على صيفها الساخن النسائم, وينثرون في الازقة الضيقة والشارع اليتيم وضفاف الشاطئ الجميل وليلها الساحر, اغاني الحياة وشرايين التواصل ونواقيس الفرح, ثم يرجعون الى الضفاف الشمالية محملين بالبضائع ورائحة البلاد, بالدعوات الصالحات. والصبايا الجميلات في انتطار دورة جديدة للحياة والصيف المقبل. جاء ال(11 ايلول (سبتمبر)), خراب اعمدة المدينةالجديدة, ضجيج العالم ورائحة الموت ليعيد تشكيل الاشياء والمدائن وصيف قرية (منزل جميل), ام القرى, في محافظة بنزرتالتونسية. النساء هنا, محور الحياة ودفة القيادة, هن ثلاثة, اما عجائز قاعدات وحارسات للبوابة في غياب الرجال والابناء هناك, او رفيقات عمر وشقيقات غربة, والمتبقيات, وهن النزر القليل من اجمالي ال70 ألف ساكن مسجلين في دفاتر البلدية, فيعملن في الزراعة والمنطقة الصناعية الناشئة. تجمعهن المحافظة في اللباس والمسلكيات, ويختلفن في التفاصيل والاذواق. في بداية التسعينات من القرن الماضي, اكتوت بعضهن من النار المستعرة بين السلطات والحركة المتشددة, فكن بدهائهن الشديد ينزعن (التقريطة) او الحجاب في حمّام الطائرة او الباخرة, قبل العودة اليه مع بداية ايلول في نهاية الصيف والاجازة في البلد, اتقاء للشبهات وتخوفاً من سوء الفهم والتأويل. هذا العام, سبحان مغير الاحوال, كل الاطياف والاذواق تتمتع بالحرية. حسبت ان موجة من التدين هبطت على القرية المسالمة في عام الجدب التونسي. تقدمت خطوة نحو احدى نساء العائلة, فقالت سعاد (لا شيء تغير في السابق. حسبنا ان خنق الحرية صناعة محلية, مع الايام والشدائد, فهمنا اننا في الهم سواء, شرق وغرب, كما تعلم انا اعمل في احدى المحلات الفاخرة في باريس, في السابق كنت ألبس حجابي شتاء وأنزعه صيفاً. هنا وبعد 11 ايلول, قلبت الآية ببساطة). لتضيف بدهشة, بأن (الأعين المتلصصة هنا, والاحتقان المصاحب للحجاب ولى وانقضى. اخترت المحافظة على وظيفتي هناك, على مكاسب عقد من الزمن بتضحياته الجسام, والمحافظة على هويتي صيفاً, أما ما بينهما, فإن الله غفور رحيم). كان جمال مهندس الالكترونيك, المتخرج من كبرى المدارس الفرنسية والعامل حالياً في شركة عالمية لتركيب اجزاء الهاتف الخلوي في المانيا, يتقد حيوية ونشاطاً. في العام الماضي كانت اول زيارة له الى تونس بعد 20 عاماً من الغربة. خبرته في الحاسوب واطلاعه الشديد على تفاصيل مواقع جمعيات حقوق الانسان والناشطين المعارضين في الخارج, صدمت الفتى المهاجر الحالم بالمدينة الفاضلة, مدينة (منزل جميل) المقابلة للغرب الآسن حيث تربى, كانت تدفع به الى طرق مسامعي بالقضايا الشائكة والمناطق المحرمة. كان يتغنى بالأمجاد الخالدة, بالفاتحين الجدد, ويقسو على ليلنا الحالك بالتعسف والظلم وانعدام الحرية. وكانت قسوته اشد على النساء (المائعات) والصبايا (المتفتحات المتغربات) كما كان يقول... لم يتغير جمال كثيراً, لكن ابن ال27 ربيعاً, زين عنقه بسلسلة ذهب جديدة, غادر مناطق الحوار السياسي وأحلام المدينة الفاضلة. ذكرت اسم (بن لادن) فقال لي... هل انت مجنون... انه ارهابي, ألم تعلم! لعنت في سرّي هذا الزمن الاغبر. كانت الحيطة والحذر والخوف من الآخر شريعتنا غير المعلنة, فجاءت احداث 11 ايلول لتضيف جداراً سميكاً بين ابناء الداخل والخارج... في السابق كانت فسحة الحرية بينهما كبيرة والكلام الذي يقال والذي لا يقال يؤثث ليالي صيفهم الطويل... واليوم كمت الافواه اختيارياً وحل التوجس بين الجميع. بدا لي حسين متجهماً على غير عادته, لفائف سجائر (الكريستال) المحلية تشتعل بين اصابعه بين الفينة والاخرى, قلت ربما اتى على ذخيرة السجائر الاجنبية بشهية لا تقاوم, فعاوده الحنين الى سجائر الشتاء المحلية, ولكنه اسرّ لي بأن (جماعة الشينو) او جماعة فرنسا كما يطلق هنا على المهاجرين, لم يسمح لهم هذا العام باستيراد سوى علبتي سجائر فقط. لم يخفض نصيبه من الهدايا من شباب القبيلة الموسعة الا ان حظه من السجائر خفض الى مستوياته الدنيا, ومع ذلك فإن للألم اسباباً اعمق وأمرّ. عندما فشلت خطوبته من احدى بنات (الشينو) العام الماضي لاختلاف حاد في الامزجة, قالوا له لا تحزن, فغيرها كثيرات في انتظار الفتى الجميل ابن البلد... وعلى من ترضى يا حسين يا ابن (فلة) السابحة في رحاب الله. ولكن سوق العرض والطلب بين فتيات المهجر وأبناء البلد, تغيرت جذرياً هذا العام... خفضت العروض الى درجاتها الدنيا في انتظار هدوء العاصفة. الآباء والامهات اصبحوا لا يرون غضاضة في التقارب بين بناتهن و(الغاوري) او الاجنبي هناك... ربما هي التقية ولكن المخاطرة بالزواج من شباب القرية اصبحت كبيرة. فلا احد يعرف بالتحديد ماذا يدور في عقول شبيبة البلد المحبطة بالبطالة واليأس. وقدرتهم على الاندماج في المجتمع الجديد, الدوائر القنصلية اصبحت اكثر تشدداً في تسهيل عملية التقارب بين الازواج وتبحث طويلاً في الدفاتر القديمة للشبيبة المهاجرة الجديدة... والأغرب ان جماعة الشينو غيرت مقاييسها 180 درجة, في السابق كانت تبحث بشق الانفس عن الفتى العاقل المتخلق والمتدين بلا تعصب... واليوم غادرت هذه الدوائر بسرعة تخوفاً من المفاجآت غير السارة. سألت عن (آني) تلك السيدة الفرنسية الفاضلة والمتزوجة من (عم بلقاسم) والتي عرفت بحبها الشديد للقرية الصغيرة, وبمشاركتها في الافراح والاعراس وحملها الهدايا والملابس والحلوى للفقراء والاطفال... فقالوا لم تأت هذا العام. قال لي موظف البلدية إن معدل عقود الزواج بين ابناء الداخل وبنات الخارج الذي كان لا يقل عن 20 عقداً في اليوم الواحد, خفض الى النصف... رخص بناء الفيلات الجديدة تراجعت, ولعبة القط والفأر بين شبيبة الشينو وموظفي البلدية في صراعهم الدائم مع تجار الشنطة والبضائع الاجنبية, توارت عن الانظار تقريباً. قصدت (عم علي) تاجر القرية الكبير, باحثاً عن الخبر اليقين, فوجدت دكانه الواسع مزدحماً بالبضائع على غير عادة, في الاعوام السابقة كانت جماعة فرنسا تحمل من هنا المكرونة والطماطم والتوابل والكسكسي والمحمص والبرغل وعصير الفواكه بأنواعها وزيت الزيتون والمملحات... واليوم اطاح اليورو المعادل للدينار التونسي بفارق الربح, وجاءت احداث 11 ايلول لتجعل جمارك الضفاف الشمالية تدقق في مكونات حبة الزيتون خوفاً مما يحمله الفضاء الواسع ما بين الحبة والنوى. ماهر عبدالجليل