بقلم حاتم الكسيبي اعلم أن أمر الدولة الناجحة يسيّره أبناؤها منذ سالف الأزمان وأنّ اختلاف أرائهم ينتج عنه تلاقح بين عدة مشارب ومكونات لذاك المجتمع فيكون في غالب الأحيان تنافس شريف يراعى مصلحة البلاد و العباد فينتشر العدل والأمن ويسود الخير على الجميع: محسنهم و أفّاقهم، مخلصهم لوطنه وخائنهم. فإذا منح خادم القوم امتيازات و تعهدات وصار يحكم بما تميل له نفسه، أصابت أو أخطأت، تدافع السفهاء و الأفّاقون وتزلفوا لسيّدهم و تقرّبوا منه بكل الطرق كالنسب و مقاسمة الأرباح و الوشاية حتى يرى نفسه عظيما من العظماء، و فيلسوفا لعصره. ثم تسند له الشّهادات الفخرية و الدكتوراه فيصدق الأمر و يصدّقه الحمقى الذين يحيطون به حتى إن آل أمره إلى زوال تملص منه الجميع وحملوا أوزارهم على وزره وادّعوا الطّهر وسوء التقدير وأنّ الأمر لو كان بأيديهم لأصلحوه وأنهم تحرّروا من عبودية فرضت عليهم قصرا. اعلم أخي أن هذه القصة كثيرا ما حوتها وردّدتها كتب التاريخ والعصور السابقة فذاك صنف من الناس لم ينقرض ولا يزال يظهر ويختفي حتى يرث الله الأرض ومن عليها. لكنّ معالجة أمر المحيطين بالمستبد بعد زوال حكمه اختلفت قصصها و تنوعت، فلقد روت كتب التاريخ القديم والمعاصر أحداثا مؤلمة تثير الاشمئزاز والذعر و تلخّص حيوانية الإنسان في أعمال التقتيل الجماعي والسبي و النهب والسلب والدماء المسكوبة. تلك حالات لم تستثن أيّ من الحضارات القديمة والوسطى وكذلك المنتمية إلى القرن الواحد والعشرين. لقد ولغ الثائرون في أوربا وإفريقيا وأمريكا وآسيا في دماء حكّامهم وواجه أعوانهم جحافل المنتقمين فنالوا مصيرا قاسيا ومحزنا. إنّ هذا التقديم التاريخي المقتضب يدفع العديد إلى مقارنات سريعة مع ما يحدث في ثورتنا العربية التي انطلقت من بلد البطولة والكرامة وأوعزت إلى أشقائها بالثورة على الطغاة ومعاونيهم من انتهازيين ومتملقين و"قفافة" ملئت بطونهم رشوة و سحتا ومالا حراما. أعلم أنّ نار الثورة تخمد كلّما استقر الحكم واستأنفت الحياة العادية الرتيبة مجراها فيطمأن المواطن لقدره ويشحذ عزيمة البناء والتعويض على ما فات ثم ينبري مجاهدا بمعوله ومنجله وآلته يصنع بكلتا يديه مستقبلا مزهرا كما تصوره وتخيله في سراديب الظلم إبان حكم الظالم. تلك غاية أكيدة للثورة تقوم عليها و لاتهدأ إلا بتحقيقها. فان سارت الثورة في طريق مختلف فكان الانقضاض على السلطة مجرد وسيلة وتغيير سنام الحكم غاية في حد ذاتها، عجّل الغضب الشعبي بالتأجج من جديد و تراقصت أحلام الثورة ثانية في مخيّلات الشباب. هذه الحالات وان قلّت فقد سجلها التاريخ و بين تداعياتها، و للحاكم الجديد المنتبه و الفطن أن يحذر ذلك الأمر، فيصدق شعبه ويبيّن الحقائق كاملة دون تزييف ويتجرد من المراسم الخادعة والبروتوكولات المقيتة فيلتحم بإخوانه ويواسيهم في ألمهم كما يفرح لفرحهم. اعلم أيضا أنه في ظل استتباب الأمن النسبي و رجوع النسق العادي للبلاد تظهر هنا وهناك فقاعات تحسب على الماضي التعيس فتتلوّن بألوان الحاضر الوردي وتتقدم الصفوف رويدا رويدا ثم تسرع الخطى كلما سنحت الفرصة وتغاضت أعين الثائرين عنها. ولإنّ حلم الشعوب العربية الثائرة، كما تبين فيما تقدم، يساعد على تنامي هذه الظاهرة والعودة من الشباك لرجالات كانت تحيط بالمستبد وتسانده. فكلّما تعالت أصواتهم ودعواتهم المشككة والقادحة في كل عمل أو نشاط تقوم به الثورة، تعالت أصوات أخرى تدعو للإقصاء و العقاب السياسي لمن حكم وقاد البلاد بالحديد والنار. ولعلّ أبرز ما تناقلته أخبار الانقلاب في مصر وتداعياته حيث لاحظ العالم قاطبة عودة الذئب في صورة حمل وديع. فينقض على فريسته بسرعة البرق و تقطع أنيابه جسمها. ولسائل أن يسأل هل تابت البطانة القديمة التونسية من النّفاق و التملّق ورجعت إلى الجادّة فقررت قولا وفعلا التنظّم من جديد في أطر سياسية للعمل والبناء والتشييد. لندع المشككين الذين لايرون استقامة في السلوك الحاضر لرجالات الماضي فينعتونهم بأبشع النعوت ويرمزون إليهم بصاحبهم الفارّ أو المتخلي. لكن القوم لا يلتفت لما يقال عنهم ويعتبرون أنفسهم ضحية كبقية الأهالي فهم من عانى النفي في قنصلية والسجن في قصر والحرمان والخصاصة في أرقى نزل المتوسط. لندع ما يقال عنهم و ما تسرب من فضائح مالية و أخلاقية تسارعوا في نفيها ولنطرح الأمر بموضوعية سليمة: هل تغيّر نسائم الحرية التي تهب على العالم عامة و بلادنا خاصة رجالات الماضي وتصنع منهم ساسة أكفاء يبنون مستقبلا ديمقراطيا سليما؟ يمكن أن نستخلص الإجابة الشافية في تحليل منطقي لدواعي ولوج هاته الفئة معترك السياسة وفي هذا الباب نلاحظ أنّ جل رجالات الاستبداد خلصوا إلي العمل السياسي في ظرف كانت السياسة فيه تختصر على التأييد المطلق أو المعارضة المغضوب عنها ولعمري أن مجرد التأييد والتصفيق لا يعبّر البتة عن وعي وحنكة سياسية بل انه مجرّد حشد للجموع الدّاعمة للنظام و استعراض قوّة لأجل التأثير على الرأي العام. أما إذا نظرنا للنخبة منهم تراهم متذيّلين بسيدهم الأوحد يعدّون له الوصفات السياسية العجيبة ويذرّون الرّماد في عيون الناس بالأرقام والنّسب الملفّقة وسبر الآراء المفبرك رغم ما تعلّموه في أرقى الجامعات العالمية من علوم ومنطق و ما خبروه عن الحكم الرشيد و.الاستراتجيات السياسية. لنسلّم أن هناك حقا رجالات أكفّاء يحملون عصا شبه سحرية ويقدرون أن يطوّروا البلد وينقذونه من الوضع الكارثي كما يزعمون. وفي هذا الباب فليعلموا أنّ سقوط رؤوس الأنظمة لم تعزلهم سياسيا لأسابيع عدّة وفي بعض الأمصار شهورا كاملة. ولكنهم لم يحسنوا الصنع بالشعوب الثائرة ولم يأخذوا بأيديهم بل روّجوا للانفلات و أغرقوا البلاد في متاهة الانتقام والعروشية. لقد جرّب الشعب الثائر هؤلاء الرجلات في عصر يأتمرون بأمر فرعونهم وعصر ثان كانوا ينعمون بالحرية و وحدة صف الشعوب ولكنهم لم يرفعوا أي تحد اقتصادي أو اجتماعي يعانيه الوطن الجريح. أعلم أن عودتهم للساحة وظهورهم بمظهر المصلح الحكيم الراشد لا يمكن أن يقنع الكثيرين من الشعوب الثائرة فصورة الخنوع في الأمس البعيد و اتصالهم بسيدهم ومحاولة إرجاعه في الأمس القريب لا تزال حاضرة في الأذهان ولا تمحى بحوار صريح أو مقال اعتذار. ولكن هذا الموقف المبدئي لا يمكن بأي حالة أن يتعارض مع حرية التنظم و التحزّب والترشح و الانطلاق بعقلية جديدة وقطع مع الماضي الأسود علّ كهول الغد يجدون خيرا في تصوراتهم وأفكارهم فيمضون للبناء كغيرهم و يجعلون مصلحة الوطن غايتهم و مبتغاهم.