بقلم حاتم الكسيبي بعد اصطدام التكوين الزيتوني بجدار الحداثة الفرنكفونية، ابان الاستقلال، تلك التي اعتبرته جزءا من حكم البايات وحمّلته آثام الماضي الغابر من جهل و تخلف و ظلم للمرأة، انحدرت الزيتونة بمكوناتها الى الزوايا والجوامع تنشد جيلا جديدا يسير سير المجددين فيتبع خطى رجالات الاصلاح كالأفغاني و عبده وغيرهم. كانت سنوات التيه الديني قاسية على المجتمع فنال الانجراف نحو العلمانية بشتى انواعها الحظوة واعتبر لسنين أنه طوق النجاة واللحاق بركب الحضارة. في ذلك الظرف العصيب استخرجت النسخة الأولى للتيار الاسلامي في تونس فنشأت الجماعة الدعوية وجابت المساجد والمحاريب تدعو لفضائل الأخلاق والرجوع الى الدين. تنبه أهل الحكم حينها خطر عودة الفكر الديني الزيتوني وهم الذين برعوا في اجتثاث منابعه ولكنهم استحسنوا هذا التلون الثقافي ما دامت دعوتهم مجردة من السياسة و توابعها و متخصصة في "دروشة الجوامع" كما كانوا ينعتونهم. صار لهذا الفكر تلاميذ وطلبة فانطلقت العقول تردد مقولات قديمة تقر بعزة و قوة هذا الدين و تبحث في وسائل عصرية للتنظّم و ابراز هذا الفكر للمجتمع الغارق في التبعية الثقافية والسياسية والاقتصادية يغير المنوال تلو المنوال ولكن الفقر يأبى أن يغادر الديار. كان ما كان في أواخر الثمانيات و آل الحكم الى المخلوع الذي تبين منذ مدة سابقة لحكمه خطر الفكر الديني الذي اشتد عوده و ذاع صيته داخليا وخارجيا فرواده عن نفسه بالمشاركة في الانتخابات وعرف نواميسه و خصوصياته ثم جنّد طاقاته الحزبية و معارضته الكرتونية في محاولة لاجتثاث هذا الفكر بغثّه وسمينه، بتقليده و تجديده، بمشائخه و نسائه. كانت ضربة قاسمة للفكر الديني تضررت منها النهضة أولا وكل التيارات الدينية والعلمانية التي وقفت تستغرب دواعي هذا الاستئصال و تجرّمه. كانت تلك بداية النسخة الثانية للنهضة التي عانت ويلات القمع والتنكيل ثم خرجت من السجون لتبني ارثا نضاليا لا يجاريها فيه أحد. لم يكن ذلك كافيا لأن تستقبل الثورة و تبني مع باقي الحساسيات الوطنية المناضلة تونس الحرية والكرامة. كان لزاما تغيير العقلية والنظر الى بعيد والحال أن تونس الموحدة الطائفة واللغة والدين مقسمة في ميولاتها ومدارسها الفكرية والثقافية. لقد جربت النهضة الحكم الائتلافي فاستفادت منه وكسرت "الأنا" التي بداخلها فتغيرت نظرتها لواقع التغيير و سارعت للاصطفاف مع باقي الاحزاب الوطنية في خدمة هذا الشعب ولكنها حافظت على موروثها الفكري الذي يندرج صلب توجه عالمي يدعو لتجديد الحضارة الاسلامية و المفاهيم السمحاء للرسالة المحمدية. كذلك انطلقت النسخة الثالثة للنهضة بعد أن غالبت رصيدها النضالي و تركته أمانة بين أيدي لجان الحقيقة والعدالة الانتقالية و غالبت علوية الفكر الاسلامي فالتصقت أكثر فأكثر بمختلف شرائح الشعب التونسي لتبني من جديد عقلية تكاملية بين موروث سامي المقام و واقع معاش تتخبط فيه مدننا وأريافنا على حد السواء. انّ مشاركة النهضة في الحكم هذه المرة يندرج ضمن هذه النسخة التي أبت الا أن تفرض على قواعدها مهما أحسوا بالألم وعلى قياداتها مهما استقال منها من أسماء معروفة. ان ذلك الفرض أو الطرح الجديد كانت له دواعي مختلفة و عديدة جدا، فمنها الخارجي والاقليمي و منها الداخلي الذي ظهر بعد مراجعات و تنوير مستلهم من سيرة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم. وللقارئ عديد المواقف المحمدية في الطائف و العقبة وبدر وأحد و حنين و صلح الحديبية وفتح مكة و غيرها من مواقف للسيرة العطرة التي تبين التدرج و المرحلية والدفع بالرفق والاقناع بالحجة دون انكار حق العيش المشترك و حقوق الانسانية العامة. ان خروج النهضة في نسختها الثالثة و بهذه الصورة خروج مشرف لها وللمجتمع التونسي الذي انتصر للعقل ولم يجنح للتقسيم والفوضى و الردة.