بن عروس.. نتائج عمليّة القرعة الخاصّة بتركيبة المجلس الجهوي و المجالس المحلية    العجز المسجل في الاموال الذاتية لشركة الفولاذ بلغ قرابة 339 مليون دينار خلال 2022..    إطلاق منصّة جبائية    الولوج الى منصّة الكنام بالهوية الرقمية    علوش العيد .. أسواق الشمال الغربي «رحمة» للتونسيين    لوقف الحرب في غزّة .. هذه تفاصيل المقترح الأمريكي    رابطة الأبطال: الريال بطل للمرّة ال15 في تاريخه    رادس: محام يعتدي بالعنف الشديد على رئيس مركز    عادل خضر نائب لأمين اتحاد الأدباء العرب    أمطار الليلة بهذه المناطق..    إختيار بلدية صفاقس كأنظف بلدية على مستوى جهوي    الرابطة 2.. نتائج مباريات الدفعة الثانية من الجولة 24    بنزرت: وفاة أب غرقا ونجاة إبنيه في شاطئ سيدي سالم    كرة اليد: الترجي يحرز كأس تونس للمرة 30 ويتوج بالثنائي    شاطئ سيدي سالم ببنزرت: وفاة أب غرقا عند محاولته إنقاذ طفليه    مداهمة تجمّع ''شيطاني'' في إيران    تحذير طبي: الوشم يعزز فرص الإصابة ب''سرطان خطير''    3 دول عربية ضمن أعلى 10 حرارات مسجلة عالميا مع بداية فصل الصيف    محرزية الطويل تكشف أسباب إعتزالها الفنّ    إستقرار نسبة الفائدة عند 7.97% للشهر الثاني على التوالي    الحمادي: هيئة المحامين ترفض التحاق القضاة المعفيين رغم حصولها على مبالغ مالية منهم    عاجل/ الإحتفاظ بشخص يهرّب المهاجرين الأفارقة من الكاف الى العاصمة    بداية من اليوم: اعتماد تسعيرة موحّدة لبيع لحوم الضأن المحلية    بلاغ مروري بمناسبة دربي العاصمة    عاجل/ الهلال الأحمر يكشف حجم المساعدات المالية لغزة وتفاصيل صرفها    وزارة التربية: نشر أعداد ورموز المراقبة المستمرة الخاصة بالمترشحين لامتحان بكالوريا 2024    الهلال الأحمر : '' كل ما تم تدواله هي محاولة لتشويه صورة المنظمة ''    عاجل/ إتلاف تبرعات غزة: الهلال الأحمر يرد ويكشف معطيات خطيرة    110 مليون دينار تمويلات لقطاع التمور...فرصة لدعم الإنتاج    غرق قارب بأفغانستان يودي بحياة 20 شخصا    غدا : التونسيون في إنتظار دربي العاصمة فلمن سيكون التتويج ؟    كرة اليد: اليوم نهائي كأس تونس أكابر وكبريات.    تجربة أول لقاح للسرطان في العالم    بعد إغتيال 37 مترشحا : غدا المكسيك تجري الإنتخابات الاكثر دموية في العالم    أنس جابر معربة عن حزنها: الحرب في غزة غير عادلة.. والعالم صامت    وزيرة الإقتصاد و مدير المنطقة المغاربية للمغرب العربي في إجتماع لتنفيذ بعض المشاريع    حريق ضخم جنوب الجزائر    وزير الصحة : ضرورة دعم العمل المشترك لمكافحة آفة التدخين    عاجل/ بنزرت: هذا ما تقرّر في حق قاتل والده    اتحاد الفلاحة: هذه اسعار الأضاحي.. وما يتم تداوله مبالغ فيه    قتلى في موجة حر شديدة تضرب الهند    غمزة فنية ..الفنان التونسي مغلوب على أمره !    لأول مرة بالمهدية...دورة مغاربية ثقافية سياحية رياضية    من الواقع .. حكاية زوجة عذراء !    الانتقال الطاقي...مشروع للضخ بقدرة 400 ميغاواط    انطلاقا من غرة جوان: 43 د السعر الأقصى للكلغ الواحد من لحم الضأن    رئيس الحكومة يستقبل المدير العام للمجمع السعودي 'أكوا باور'    مفقودة منذ سنتين: الصيادلة يدعون لتوفير أدوية الإقلاع عن التدخين    أول تعليق من نيللي كريم بعد الانفصال عن هشام عاشور    البرلمان : جلسة إستماع حول مقترح قانون الفنان و المهن الفنية    مستشفى الحبيب ثامر: لجنة مكافحة التدخين تنجح في مساعدة 70% من الوافدين عليها على الإقلاع عن التدخين    الشايبي يُشرف على افتتاح موسم الأنشطة الدّينية بمقام سيدي بالحسن الشّاذلي    الدخول إلى المتاحف والمواقع الأثرية والتاريخية مجانا يوم الأحد 2 جوان    الرابطة المحترفة الأولى: مرحلة تفادي النزول – الجولة 13: مباراة مصيرية لنجم المتلوي ومستقبل سليمان    الإعلان عن تنظيم الدورة 25 لأيام قرطاج المسرحية من 23 إلى 30 نوفمبر 2024    من أبرز سمات المجتمع المسلم .. التكافل الاجتماعي في الأعياد والمناسبات    مواطن التيسير في أداء مناسك الحج    عندك فكرة ...علاش سمي ''عيد الأضحى'' بهذا الاسم ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيفَ تَكُونُ مُدرِّسا كُفْأً؟
نشر في الشعب يوم 13 - 02 - 2010

لأنّي ما اعتدتُ أن أكتُمَ عِلما خشيةَ أن أُلجَمَ بلِجام مِن نارٍ يومَ القيامة, و لأنّ «الكفاءةَ» في مهنة التّعليم هي السّيفُ المسلولُ الّذي به يسُود المرءُ أو يُساد و هي كلمةُ السّرّ الّتي بِها يُقاد أو ينْقاد, رأينا أنْ نبحثَ في شروطِ نيلِها, مِعْوَلُنا خبرةٌ نزعمُ, بأقصَى ما نملكُ مِن تَواضُعٍ, أنّها محترَمةٌ جدّا كمًّا و نوعًا. فأنصِتُوا يا أُولِي الألبابِ.
1 - إذا كنتَ, أيّها المدرِّسُ, حديثَ عهدٍ بالمهنة الشّقيّة فدَرِّبِ النّفسَ على كلِّ فُنونِ الإذلال. سيستأسدُ عليك ضباعُ المؤسّسةِ و حِملانُها الوديعةُ و خفافيشُها المستتِرةُ بالظّلُمات. و كلّما صفعَك بعضُ هؤلاءِ على خدِّك الأيْمنِ أدِرْ له خدَّك الأيسر شاكِرا مُمتنًّا. و إذا استنكرَ عرفُك البيداغوجيُّ أنّ الأرضَ الّتي شرّفَها الله بِحَمْلِه و أمثالَه على أدِيمها, هي الّتي تدورُ حول الشّمسِ لا العكس, فالْعنْ في حضرتِه المغفورَ له «غاليلي» (1) و آباءَه و أجدادَه و طالبْ بإعادة محاكمتِه حتّى يُقِرَّ صاغِرا بأنّ الكواكبَ كلَّها لا تدورُ إلاّ كما شاءَ الماسكُ بزِمام قوتِك المرِّ. ثم أَنشِدْه في خشوعٍ لا تشوبُه شائبةٌ: « مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءَتِ الأَقْدَارُ ... فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الوَاحِدُ القهَّارُ» (2). ستجدُ نفسَك أحسنَ حالاً مِن ابْنِ هانئ لأنّه مدَح وهمًا صنعَه خيالُه الشّعريُّ الماردُ, أمّا أنتَ فتمدحُ حقيقةً عِيانا يحسدُك عليها القاصِي و الدّانِي. فإنْ لم تفعلْ لن تذوقَ من القُوتِ إلاَّ علقمَه. و لكَ, بعد أن تَرْسُخَ قدمُك في المهنةِ, أن تُثبِتَ أنَّ الأرضَ لا تدور أصلاً و لا تحرِّكُ ساكِنا أو أنّها تدورُ عندما يروقُ مزاجُها أو يطِيبُ لها الشَّطحُ أو يُغازِلُها كوكبٌ عُمَرِيُّ (3) الهوَى.
2 - إذا ابتلاكِ القدرُ المهنِيُّ الأحمقُ الخُطَى, زميلتِي - أخصُّ بالذّكرِ المبتدِئةَ - بعَرفٍ بيداغوجيّ تسبحُ روحُه في العَفنِ منذ الأزَلِ و إلى الأبدِ فأنتِ بين أمريْن: إمّا أن تَمنحِي «وَصْلاً يُقَرُّ عَليْهِ» (4) فتَقَرَّ عينُكِ بكلِّ شهاداتِ الكفاءة و أوْسِمتِها و ميداليّاتِها. و لا تنسيْ زميلتِي الفاضِلةَ في مثلِ هذه الحالِ أنْ تدفعِي ثمنَ الإقامة في النُّزل المرمُوق, و إلاّ كنتِ كَمَنْ يعتدِي على موظَّف أثناءَ أداء عمله! و إنْ أعمَى التّخلّفُ بصيرتَكِ و تَمرّدتِ على واجبِ الجوارِي و القيانِ و الإماءِ فالعصَا لِمنْ عصَى. ليس مُستبْعدًا أنْ تخرُجِي مِن الحقلِ المهنِيِّ الخصيبِ بأيسرَ مِمّا دخلتِ بيدٍ فارغة و أخرى لا شيءَ فيها عدا مرارةَ الضَّيم. قدِّمِي التّقاريرَ و الشّكاوِيَ و ارفعِي العرائضَ و القضايا. ندِّدِي و اشْجُبِي و اسْتنكِرِي. لن تكوني أوفرَ حظًّا من السّاسةِ العرب في المحافل الدّوليّة. سيكون فعلُكِ هذا صرخةً في وادٍ. هو الوادِي الّذي تسرحُ فيه الرّعيّةُ راضيةً مرْضِيَّةً, إنْ عصتْ استترتْ و إنْ انفضحتْ تنمَّرتْ و إنْ مُسِكتْ متلبِّسةً أتتْ على الأخضرِ و اليابسِ كالنّار في الهشِيم.
3 - إذا عجِزتَ, أيّها المدرِّسُ, عن تحقيقِ الكفاءةِ العلميّةِ و البيداغوجيّةِ بما لك من عقلٍ و طاقةٍ و مبادئ لأنّك خُلِقتَ خِلْوًا من شوائبِ المواهِب, فلا تبتئسْ. ثَمَّ حلٌّ لكلِّ مشكلٍ مزمِنٍ. إنّ رحمةَ أُولِي الأمرِ أوسعُ مِمّا تظنُّ. يوما مّا سيُترجِمون امتنانَهم لكَ كما كانُوا فعلُوا مع سلفِك الصّالِح. فهلِّلْ و كبِّرْ و قُلْ :» ربِّ أنعمتَ فزِدْ». حسْبُك أن تتقرّبَ إلى عرفِك, إداريّا كان أو بيداغوجيّا, أن تلازمَه كظلِّه تُسمِعُه سُعالَ زميلِك و عُطاسَ زميلتِك و أنينَ خصومِه الحقيقيِّين و الوهمِيِّين مُتخبِّطا كالدِّيك الذّبِيح احتجاجًا عليهِم و تعاطُفًا معَه. اِحملْ حقيبتَه إنْ ثقُلتْ عليه, و امْسَحِ الغبارَ مِن علَى حذائِه بيدِك الطّاهرة النّقيّة, و إن استطعتَ أن تُجهِشَ في حضرتِه بالبُكاءِ طرَبا وعِرفاناً و إجلالاً فنِعْمَ الفَعَالُ. لا تنسَ أن تُتبِّلَ (5) نَميمتَك و أن تعمِّمَ البهارَات بسخاءٍ حاتِميّ (6) عساهُ ينظر إليكَ بعينِ الرّحْمة و الشّفقَة, فيمنحَك بركتَه العَلِيَّةَ و يبيعَك بأبخسِ الأثمانِ شهائدَ الكفاءة كما باعَ كهنةُ القرونِ الوُسطى صُكوكَ الغُفران للمُعدَمين و الفاسِقين و المجرِمين! حتمًا سيمنحُك مِن سيلِ الكفاءاتِ ما تُداوِي به كمدَك و تنفُشُ به ريشَك فتصُولُ صوْلةَ جِنِّيٍّ خرجَ للتّوِّ من قُمقُمِه. تصاغرْ أمامه و تحاقَرْ حتَّى يُؤمِنَ إيمانَ العجائز بأنَّ أمثالَه في الدُّنيا نَوادرْ. إيّاك أن تَغفلَ عن تجديدِ أقنعتك كلّما اهترأتْ: فما عجِزتَ عن تحصيلِه بقناع الغضبِ الثّوريِّ حقَّقتَه بقناعِ الضّمير المهنِيِّ المُفعَمِ بالحياة, و ما فوَّتَه عليك قناعُ حِمايةِ الأخلاقِ الحميدة الّتي لا تَمُتُّ إليك بصلةِ دمٍ أو جِوارٍ قد يُمسِكُه لك قناعُ الدّفاعِ اللاّمشروط عن قِيَم الزّمالةِ, أمّا إنْ خيَّبَ قناعُ الحرصِ على تلطيفِ الجوِّ التّربويِّ المشحونِ آمالَك العريضةَ فلكَ في قناعِ تأدِيب المارِقين الزّنادِقةِ أعداءِ الله و الأمّةِ خيرُ عَزاءٍ... بقدر ما يزيدُ المناخُ تسمُّما تقوَى حظوظُك المخابراتيّةُ. بِهذا فقط تفتكُّ لك مجالاً حيويّا رَحْبا في فضاءٍ من المفروض ألاّ يكونَ لك به موطِئُ قدَمٍ! لا تَغفلْ, زميلِي الكُفْءَ, عن خزْنِ ما تيسَّر من أقنعةِ الشّعور الوطنِيِّ في جيْبِ سُترتِك. فمن يدرِي قد تُعْوِزُك الحاجةُ إليها في يومٍ مشهودٍ, فتُشهِرَها حُساما مُهنَّدا يُلجِم و يُفحِم و قد يُبكَِّتُ. إنَّ صاحبَ التَّاجِ يحتاجُ, فكيف بِمَنْ لا تاجَ له و لا عرشَ؟!
4 - إذا تلقّيتَ أيّها المدرِّسُ الآمنُ على خبزِ يومِك من غوائِل الدَّهر, أمرًا بيداغوجيًّا بالتّوقيع على أعدادِ مترشِّحين زُوِّرتْ أثناء مناظرةٍ وطنيّةٍ مصيريّةٍ, فلا تعجلْ بالعِصيان. بلِ ارضخْ رزينًا حليمًا ركينًا. ثمّ وقِّعْ جاعِلا يُسراكَ تغُضُّ البصرَ عمَّا ارتكبتْ يُمناكَ. و إلاّ فالويلُ لك مِن شرِّ ما ستلقَى: في طرْفةِ عيْنٍ يُسحَبُ بِساطُ الكفاءةِ مِن تحت قدميْك. سترى مِنْ تضامُنِ الإخوةِ - الأعداءِ ما يكذِّبُ كلَّ مُشكِّكٍ في وحدةٍ عربيّةٍ ظهرتْ كأجلَى ما يكونُ في «الملْحَمةِ المصريّةِ - الجزائريّةِ» الأخيرةِ. ستنقضُّ عليك الحاشيةُ العنتريَّةُ (7) الفُتوّةِ الّتي لو طُلِب مِنها أنْ تشهدَ بأنّك مَنْ فَجّر بُرجَيْ التّجارةِ العالميّةِ و أنّك مَن ثَقَب طبقةَ الأوزون و أنّك مَن باعَ فلسطينَ و بلادَ الرّافديْن لِجحافلِ المغُول و التّتار مصّاصِي الدِّماء...لَمَا تردّدتْ. و رُبّما اجتهدتْ بِنيَّةٍ صادِقةٍ مُخلصةٍ لولِيِّ النّعمةِ فأسنَدتْ إليكَ كلَّ الجرائمِ الّتي قُيِّدتْ ضدَّ مجهولٍ من بدْءِ الخلِيقةِ إلى يومِ النّاس هذا. فارْعَوِ يا هذا لِتحسُنَ عاقبتُك. الجوعُ كافرٌ و الغنائمُ نُدرَة و الأرضُ بُورٌ مَوَات! علِّلِ النّفسَ إذا تَملْملتْ - و هي نادِرا ما تفعلُ - بأنّ زمنَ الرّداءة و الصّفاقة هو مَن يحملُ وِزْرَ الجريمةِ و أنّكَ مِنها براءٌ. كَذِّبْ بالحُججِ الدّامغةِ و علَى رؤوسِ الأشْهاد القاعِدةَ الفِيزيائيّةَ الّتي أجْمَلَها الشّاعرُ في قولِه المُعْجِزِ:» نَعِيبُ زَمَانَنَا وَ العَيْبُ فِينَا ... وَ مَا فِي زَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا»(8). ثُمَّ اِلعَنْ في سِرِّك شيطانَه الشّعريَّ الّذي يعرفُك أكثرَ مِمّا تعرفُ نفسَك و يقولُ فيكَ ما تستحِي مِن مُجرَّدِ التّفكير به خِلسةً.
5 - إذا شاء سوءُ طالعِك أن يكونَ عَرفُك الإداريُّ مِمَّن يُدمِي قلبَه أنّكَ حصَّلتَ مِن الشّهائد ما عجِزَ هو عن نيلِه و يَحرِقُ دمَه أنّك تملأُ قسمَك بحضورِك العلميّ, فوَطِّنِ النّفسَ على ضُروبِ التّنكيلِ الطّارفِ و التّليدِ : أوّلُ أبوابه النّبزُ و التّجريحُ و التّشكيكُ العلَنِيّ لكنْ الملتوِي في أنّ شهائدَك لا تعكسُ حقيقةَ كفاءتِك الّتي يعرِفُ هو بُؤسَها حقَّ المعرفةِ لأنّه تعوّدَ أنْ يُدركَ الغيبَ و ما تُخفي الصّدورُ. سيُردَّدُ هذا على مسمعِك حتّى تعافَه الجدرانْ, فكيف بالآذانْ؟! ثانِي أبوابِ التّنكيل أنْ يُحرَّض ضدَّك أضعفُ تلاميذِك حِسّا و عَقلا و أدَبا : ليس أسهلَ مِن أن يُشترَى التّلميذُ ببطاقةِ دخول مُلفَّقة, بعقوبةٍ مؤجّلةٍ أو مُلغاةٍ, بعددٍ وهْميٍّ يَجودُ بهِ عليه أرحمُ الرّاحِمينْ من حاشيةِ «أمير المؤمنينْ». ليس أيسرَ مِن أنْ يُروَى لتلاميذِك عنكَ ما تقصُرُ عن إبداعِه قريحةُ أبالسةِ الأرض و السّماء. سيُستقبَل «الثّائرون» عليك استقبالَ الأبطالِ في المكتبِ الوثيرِ حيثُ يُحتفَى بِهم لأنّك الشّرُّ عينُه الّذي يجبُ أنْ تلتفَّ حوله الجهودُ و الجنودُ و القيُود. و إذنْ تجاهلْ أمام عرفِك هذا و تغافلْ حتَّى يُؤمنَ إيمانَ العجائز بأنّ أمثالَه في الدّنيا قلائلْ. قدِّمْ له أماراتِ الولاءِ و الطّاعةِ عساهُ يتناسَى من نقصِه الفاجعِ ما تيسّرَ. اعتذرْ عمّا فعلتَ و عمّا لم تفعلْ علّك تحظَى بصكِّ غفرانٍ يكفُّ عنك عذابَ الرُّوحِ و العقل و الجسد.
6 إذا قصدكَ موظَّفٌ أسالتْ الرّشاوِي الممنوحةُ و الموعودةُ لُعابَه, يطلبُ «الرّأفةَ» بِمتعلِّم مَّا و القلبُ يرتجِفُ رُعبا مِن أنْ تطيرَ الغنائمُ بلا رجعةٍ, فأَسْكتْ ضميرَك المهنِيَّ و دُسْ مبدأَ الأمانةِ العلميّة بِكعْب رُعاة البقَر و ارْكُلْ قيمةَ العدْلِ و ما لفَّ لفَّها. قدِّمْ كلَّ ذلك قُرباناً على مذبحِ الزّمالة. ثمّ لَبِّ الأمرَ صاغِرا ذلِيلا. و إلاّ فسيفُ الجلاّدِ لك بالمِرصاد : يكفِي أنْ تنالَ جدولَ أوقاتٍ يعذِّبُ تلاميذَك أكثرَ مِمّا يُعذِّبك, يجعلُهم يأتونَك كمَنْ يُقادُ إلى الجنّةِ بالسّلاسل حتّى تعيشَ الحربَ الباردةَ الحارقةَ. يكفِي أن يُحرَّش ضدّك أبعدُ الأولياءِ عن آداب العِلم و التّربية حتَّى ينقلبُوا عليكَ قُطَّاعَ طُرُقٍ و قراصنةَ برٍّ مُحترفِين يتربّصُون بك داخلَ الحرمِ التّربويِّ و خارجَه. فاتّقِ الله في نفسِك أيُّها التّواقُ إلى السّلامة المهنيّة. و صَبِّرِ النّفسَ اللّوّامةَ (9) بأنّ الميْتَ, و هو بينَ يديْ غاسلِه,ِلا يملكُ مِنْ أمْرِ نفسِه شيئا. ثمّ إنّ المركبَ غارقٌ بِمَن فيه لا مَحالةَ, فلِم تجدِّفُ ضدّ التّيّارِ العاتِي؟ إنْ تُكابرْ يَنكسرْ مجدافُك الحافِي, و قدْ ينهالُ عليك ضربا مُبرَّحا لأنّك حَمّلتَه ما لا يحتمِلُ و وضعتَه موضِعَ الهُزءِ أمام مجاديفَ ارتختْ عضلاتُها راحةً و خدَرًا و استِجمامًا.
7- إذا أحبَّ التّلاميذُ شخصَك و احترمُوا احترامَك لنفسِك و لواجبِك تجاهَهم و جاهرُوا بذلك حتّى بلغَ أسْماعَ عرفِك , فاقْرَأ على روحِك الفاتِحةَ. سيكونُ ترويضُك و كسْرُ شَوْكتِك مُهمّتَه «التّربويّةَ» الأسْمَى الّتِي مِن أجلِها تُسَنُّ القوانينُ العُرفيّةُ. أنت متَّهمٌ بحفظِ الأمانةِ التّربويّةِ, مُدَانٌ بتحدِّي رُموزِ السّلطة الإداريّة, موقوفٌ على ذِمّةِ التّحقيق بِتُهمةِ الاستِيلاء على القُلوب و العُقول. سيَبعثُ إليك السّدَنةَ المخلصينَ, كلّما عنَّ له ذلك, لِيدنِّسُوا حُرمةَ قِسمِك و يُقطِّعوا أوْصالَ درسِك و يُجرِّحُوا هيبتَك في حضْرةِ تلاميذِك. فَقُلْ لِي ما أنتَ صانعٌ بسياسةِ كسْرِ العَظْمِ هذه؟ أتكونُ لها نِدًّا نَدِيدًا؟ يا رفيقَ الدّربِ «يكفِيك مِمّا لا ترَى ما قدْ ترَى» (10). لقد ابتكرَ عرفُك معادلةً رياضيّةً فاتتْ أربابَ الجبْرِ القُدامَى و المُحدَثين: «كلّمَا حَطّ مِن شأنِكَ رفعَ مِن شَأنِهِ». فلا تتنمَّرْ أيّها السّاعِي إلى حتْفِه, و أبْقِ لعرفِك ما يتلهَّى به في المجالسِ عساه يتعزَّى عن مُصابِه الجلَلِ في نفسِه. و أنْشِدْه كلّما لقِيتَه على رصيفِ التِّيهِ: «جُعِلتُ فِدَى روحِك المعدَمهْ».
8 - إذا لم تدَعْ لأعرافِك ثغرةً مِهنيةً يحاربونَك منها, فلا تُحدِّثْ النّفسَ بالحِفظِ و الأمانِ. سيحفِرون ثُقبا في الجدار يُطلّون عبْرَه عليك بالتّناوب حتّى لا تغيبَ عن عيونٍ لا تنامْ و لا تَهنأ بغيرِ الحربِ الزُّؤامْ. إذْ كيف تجرأُ على أن تكونَ سوِيًّا؟! كيف تسلُبُ الخصْمَ سلاحَه الأوْحدَ؟! كيف يستقيمُ الظّلُ و العودُ أعوجُ؟! إنَّ ما تفعلُ تَحَدٍّ يُزعزِعُ هشاشةَ الكِيانْ. فَجِدْ سَواءَ السّبيل قبل فواتِ الأوانْ, قبل أن تجِدَ نفسَك أضيعَ مِن الأيتامْ على مآدبِ اللِّئامْ. لا تحرِثْ في البحرِ الميّتِ, فالسّيلُ هناك جارفٌ له أن ينهشَ لحمَك و يدُقَّ عظمَك و يُهدِرَ دمَك الحَمِيَّ. اتّعِظْ يا هذا, لا تَرفعْ صوْتا و لا تنصِبْ عِداءً و لا تَجُرَّ ويلاً. بلِ اجزِمْ تسلَمْ. إنّ الوقوفَ على الرّبوةِ أسلمْ. و إنْ زُلزِلَتِ الأرضُ زِلزَالَها و مادتْ بك الرّبوةُ الآمنةُ فتدحرجْ إلى أسفلِ السّافلين حيثُ مُنكِرٌ و نَكِيرٌ (11) ينزِلان على قلبِك الضّعيفِ الرّهيفِ العَفيفِ برْدا و سلاَما, يُعفِيانِك مِن عُقْمِ الكفاءةِ و ويْلاتِها, يُربِّتان على كتفٍ هدَّهُ شقاؤُك بأعرافِك و شقاؤُهم بذواتِهم و شقاءُ الشّقاءِ بِكُمْ جميعًا. قد تجِدُ مِن رَحمتِهما ما يُنسِيك عذابَ القبرِ المِهنيِّ الدُّنيويّ .
9 إذا أُمِرتَ بالمساهمةِ في القطيعةِ المعرفيّة الثوريّة ّفلا تتردَّدْ: انْزَعْ عن مُصطلحِ «الكفاءة» كلَّ المعانِي المعجميّةِ و التّربويّة و العلميّة و البيداغوجيّة و الأخلاقية الّتي أكلَ عليها الدّهرُ و شرِبَ و مسَحَ يديْه في جَرْدِها (12) البالِي. ثُمّ نزِّلْه في الحقلِ الدَّلاليّ «الرَّعَوِيِّ» (13) لِيكتسبَ من الرِّيادة و النَّجاعة و الواقعيّة ما لا يختلفُ فيه إثنانْ و لا تَنتطِحُ فيه عَنزتانْ. و أنشِدْ في نشوةِ الظّافر بحكمةِ لُقمانَ:» هَكَذَا هَكَذَا وَ إِمَّا فَلاَ لاَ» (14). عندها يحِلُّ لك الحرامُ و يُباحُ لك الممنُوعُ و تجُوزُ عليك الموبِقاتُ عامّةً. لا أظنُّك وقتَها ستُسِيءُ الاختيارَ بيْن لازمتيْن تسرّبتَا مِن التُّراثِ البعيدِ زمنًا القريبِ رُوحًا لِتسكُنا فينا إلى أجلٍ لا أُسَمِّيه و لا أُكنِّيه: أُولاهما «يا حَاجِبُ, أعْطِهِ ألْفَ دِينَارٍ» ثانيتُهما لا قدَّر اللهُ عليكَ و علينَا - «اِقْطعْ رَأسَه, يا سَيَّافُ!» اخترْ الصّوابَ مُعزِّيا قلبَك الدّاميَ بأنّ القرونَ الوُسطَى العربيّةَ مازالتْ في أوْجِ شبابِها و عُنفوانِها و أنّ الأُممَ ما فتِئَتْ تضحكُ مِن جهلِنا إلى أنْ «يبكيَ بعضُنا علَى بعضِنا معَنا» (15).
تلك وصفةٌ سحريّةٌ أو تكادُ توصّلتُ إليها بعد عناءِ السّنين و كدِّ الأيام و أرَقِ اللّيالي, بنودُها التِّسعةُ مجرّدُ فاتحةٍ مُختزَلةٍ ستظلُّ تحتاجُ الدّعمَ و الإضافةَ و المراجَعةَ على شاكلةِ «الموسُوعةِ الحرَّة». خلاصةُ القولِ منها: إذا طمِحتَ أيّها المدرِّسُ المثابِرُ إلى نيلِ الاعترافِ بالكفاءة فبادرْ سريعًا إلى الانْخراطِ في «رَعِيّةِ القَطِيع». و أنتَ في الطّريق إليها لا تَسَلْ و لا تُجِبْ إن سُئِلتَ. لا تطرحْ أسئلةَ اللِّمَ و الكَيْفَ و الحتَّامَ على نفسِك لأنّها تُوجِعُ و تُربِكُ الخطوَ و تَحرِمُ بَرْدَ اليقينِ. و أنتَ في الطّريق إليها اُخنُقْ فيك كلَّ توْقٍ إلى الفهمِ أو الاسْتيضاحِ أو حتّى الاستخبارِ عمّا يجرِي في السّراديبِ المقفَلة و في النّفوسِ المظلِمة. سِرْ إليها حثيثًا حذِرًا مُنكِّسا قبْل أن تقعَ على رأسِك السّماواتُ السّبعُ. فإنِ اسْتوعبتَ الدّرسَ علَى الوجْهِ الأكْمَل: « أتَتْكَ الكَفَاءَةُ مُنْقَادَةً ... إِلَيْكَ تُجَرِّرُ أذْيَالَهَا» (16). أللّهُمَّ إنِّي بلَّغتُ. و الله ولِيُّ التّوفيقِ و نِعْمَ الوكِيلُ.
الهوامش:
1- غاليليه Galilei [1564 -1642م ]: عالِم إيطاليّ من علماء الفيزياء و الفلَك المشهورين. اكتشف حركةَ دوران الأرض حول الشّمس. دانتْه الكنيسةُ عام 1633. ثم برّأتْه عام 1992. من مُخترعاتِه ميزانَُ الحرارة و المنظارُ الفلكيّ. «المنجِدُ في اللّغة و الأعْلام», ط 35, 1996, دار المشرق, بيروت.
2- البيت لمِحمَّد بن هانئ الأندلسيّ [320 362 هجري] من مدحيّة في الخليفة المعزّ لدين الله الفاطميّ, الدّيوان, تحقيق محمّد اليعلاوي, دار الغرب الإسلامي, 1994, ص181.
3- العُمَرِيُّ: نسبة إلى عمرَ بن أبي ربيعةَ [644 712م ]: شاعر غزليّ مِن سَرَاةِ القُرَشيّين. رقيقُ الأسلوب لطيفُ العواطف. تابَ و تزهّد في آخرِ حياته. «المنجد»
4- العبارةُ من بيت لعُمرَ السّالف الذّكر, هو:»أوْ صِلِيهِ وَصْلاً يُقَرُّ عَلَيْهِ .. إِنَّ شَرَّ الوِصَالِ وَصْلُ الكِذَابِ», كتاب النّصوص»آفاقٌ أدبيّة» للأولى ثانوي, ص 61.
5- تَبّلَ الطّعامَ: جعل فيه التّابلَ و هو ما يُطيَّبُ به الأكلُ. «المنجد»
6- الحاتِمِيّ: نسبة إلى حاتم الطائيّ: شاعر جاهليّ اشتَهرَ بشجاعتِه و سخائِه و كرمِه. ضُرِب المثلُ بِجُودِه [ت أواخرَ القرن 6م ]. ن.م
7- العنتريّة: نسبة إلى الشّاعر الفارس عنترةَ بن شدّاد العبسيّ [نحو 525 615م ]: مِن مشاهير شعراء الجاهليّة و فرسانِها. مِن أصحاب المعلَّقات. اشتَهرَ ببطولتِه في الغزوات. نشأتْ حولَه الأساطيرُ المعروفةُ بسيرةِ عنترةَ. ن.م
8- أظنُّ أنّ البيتَ لأبِي الطّيّب المتنبِّي, لكنّي لم أجدْ له أثرًا في ديوانِه من شرح عبد الرّحمان البرقوقي.
9- النّفسُ اللّوّامةُ: هي الّتي اكتَسبتْ بعضَ الفَضيلةِ, فتلومُ صاحبَها إذا ارتكبَ مَكرُوهًا. ن.م
10- مثل عربيّ يُضرَب في الاعتبارِ بِما يُرَى دونَ الاختبار لِما يُرَى. قِسمُ: «فرائد الأدب», ن.م.
11- مُنكَر و نَكِير: يُقال إنّهما ملَكان و إنّهما فتّانَا القُبور. ن.م
12- الجَرْدُ: هو الثَّوْبُ البَالِي الخَلَقُ المنْسَحِقُ. ن.م
13- الرَّعوِيّ: نسبةٌ إلى «الرّعِيّة» المقابل التّراثيّ لمصطلح «الشّعب» اليومَ.
14- هذا من بيتِ المتنبّي: «ذِي الْمَعَالِي فَلْيَعْلَوَنْ مَنْ تَعَالَى .. هَكََذَا هَكَذَا وَ إِلاَّ فَلاَ لاَ», مِن مَدْحيّةٍ في سيْفِ الدّولة, يُعبّرُ عنْ قيمةِ التّحدّي التِي تَخترقُ المستحيلَ, «شرح ديوان المتنبّي», عبد الرّحمان البرقوقي, دار الكتب العلميّة, بيروت, ط 2, 2007, ص 186.
15- حوّرتُ عبارةَ الوشّاح الأندلسيّ ابنِ زُهْر: [507 595هجري] في قُفْلِ أحدِ مُوشَّحاته:»عَشِيَتْ عَينَايَ مِنْ طُولِ البُكَا .. وَ بَكَى بَعْضِي عَلَى بَعْضِي مَعِي». كتاب النّصوص للثّالثة آداب, ص 40.
16- البيتُ الأصليّ: «أتَتهُ الخِلاَفَةُ مُنْقَادَةً .. إِلَيْهِ تُجَرِّرُأذْيَالَهَا» قالَهُ أبو العتاهية [748 825م] يهنِّئ المهدِيَّ بالخِلافة. لِذا أعتذرُ للشّاعر على تحويلِ وِجْهةِ بيتِه مِن أجْمل ما يكونُ المدحُ إلى أردإ ما يكونُ الهجاءُ. كتاب «البلاغة الواضحة», عليّ جارم و مصطفى أمين, دار المعارف, لبنان, ط 21, 1969, ص 79 .
فوزيّة الشّطّي تونس 2009.12.22


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.