في مثل هذا الشهر المجيد نتذكر جميعنا كمواطنين وناشطين نقابيين وسياسيين وحقوقيين تلك الأحداث التاريخية التي حفزت هممنا و زادت من طموحاتنا في المضي قدما على درب الحرية والتحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ففي 20 جانفي 1946 تأسس على يد الزعيم الفذ فرحات حشاد الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة مستقلة تناضل في سبيل القضايا الاجتماعية العادلة من أجل تحقيق المطالب المادية والمعنوية المشروعة للطبقة الشغيلة كما ساهمت من موقع متقدم في تلك المرحلة في النضال الوطني والكفاح ضد الاستعمار . بل كان نضالها يمتد على مستوى المغرب العربي بربط الجسور واللقاءات والتحالفات لتضييق الخناق على الاستعمار الفرنسي ايمانا من قيادتها بالعمق الاستراتيجي العربي مغربا ومشرقا في القضاء على الهيمنة والسيطرة الاستعمارية . وهذا ما يستشهد به الدكتور الطاهر كرفاع في دراسة تاريخية متميزة على النضال السياسي للنقابات العمالية في المغرب العربي من 1947 الى 1961 فيقول : (هذا النشاط السياسي للاتحاد العام التونسي للشغل بحكم المرحلة التي يعيشها كمرحلة كفاح وطني « ضد الاستعمار بكل صوره وتأكيداً على تلاحمه النضالي مع الأشقاء في منطقة المغرب العربي وجّه الدعوة إلى قادة الحركات النقابية في كل من ليبيا والجزائر والمغرب لحضور المؤتمر الرابع للاتحاد.. المنعقد في الأول من ماي 1951 م بمناسبة عيد العمّال العالمي وهي لم تكتسب الشرعية القانونية من السلطات الاستعمارية في بلدانها بعد، حيث جاء على لسان أمينه العام فرحات حشاد: «أن لقاء قادة الحركات النقابية في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب هو بمثابة عيد للوحدة فبهذا العيد يحتفل الشعب الجزائري وشعب مراكش وشعب طرابلس لإقامة الدليل على أنها شعوب متحدة المرامي والأهداف ومستعدة للقضاء على الاستعمار المشترك). ويزيد في تأكيد هذا التوجه فيقول : (تعود أولى خطوات النشاط السياسي للحركات النقابية المغاربية إلى الاتحاد العام التونسي للشغل ، من خلال مؤتمره الأول الذي انعقد عام 1946م حيث أكد في بيانه التأسيسي على ضرورة توحيد أقطار المغرب العربي بإضافة ليبيا إلى الخارطة السياسية للمنطقة (..) بعد ما كان مصطلح المغرب العربي قبل هذا التاريخ يقتصر على تونس والجزائر والمغرب الأقصى ، وهو ما نرى فيه دلالة على أن شعوب المنطقة نجحت في العودة إلى هويتها الوطنية والقومية رغم كل الجهود التي بذلها الاستعمار لطمس تلك الهوية). هذا فيما يخص الكفاح التحريري الذي خاضته الحركة النقابية قطريا ومغاربيا وعربيا زمن الاستعمارالمباشر وأما بعد 20 مارس 1956 فقد خاضت الحركة النقابية في تونس الكفاح السياسي والاجتماعي من أجل استقلالها السياسي والتنظيمي بعيدا عن الحزب الدستوري الذي حكم البلاد بعقلية الانفراد بالحكم والرغبة في السيطرة على كل المنظمات والجمعيات المدنية . وكانت أول معركة خاضها الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء أحداث 26 جانفي 1978حيث قررت القيادة النقابية بزعامة الحبيب عاشور الاضراب العام تصدّيا منها لهيمنة الحزب الحاكم على المنظمة وتمسّكا ودفاعا عن استقلالية المنظمة الشغيلة. وعاشت البلاد في تلك الأيام ظروفا صعبة فلأول مرة ينزل الجيش للشارع فتعطى له الأوامر باطلاق الرصاص على المتظاهرين فيسقط المئات من الضحايا الأبرياء ويزج بالقيادة النقابية في السجون والمعتقلات ويُنكّل بهم . وانتصبت المحاكم على طول البلاد وعرضها تقيم المحاكمات السياسية غير العادلة في جو من الارهاب والضرب لأبسط حقوق الانسان. فآنتهكت الحقوق وضربت الحريات وارتكبت أبشع أنواع الجرائم والتعذيب الوحشي الذي أدى الى استشهاد المرحوم حسين الكوكي والمرحوم سعيد اي وغيرهما من النقابيين تحت التعذيب. وبعد عامين من تلك الأحداث الدامية وفي السابع والعشرين من جانفي سنة1980 تعرّضت البلاد الى أخطرمواجهة مسلحة في قفصة حيث كان في نيّة مدبّريها أن يحصل تمرّد شعبي على خلفية السخط على النظام القائم واختياراته الاقتصادية والاجتماعية، الا أن شيئا من ذلك لم يحدث . الا أنه وفي ظرف سنة من تلك الأحداث وبعد حالة الانغلاق التام للمشهد السياسي في ظل سيطرة الحزب الحاكم بالكامل على الحياة السياسية ولأول مرة وبمناسبة انعقاد مؤتمره عام 1981 أعلن بورقيبة بأنه لا يرى مانعا في السماح لأحزاب معارضة تونسية بالنشاط السياسي العلني. وهكذا أمكن لكل من حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب الوحدة الشعبية العمل العلني كما سمح للحزب الشيوعي باستئناف نشاطه وأعطيت التأشيرة القانونية لاحقا للحزب الاشتراكي التقدمي. وفي أول انتخابات تعددية في نوفمبر من سنة 1981 فشلت التجربة وتعرّضت نتائج الانتخابات للتزوير. لتتوالى الأحداث بعد ذلك بإملاءات شروط صندوق النقد الدولي على الحكومة بالتخلي عن سياسة دعم بعض المواد وخاصة الرئيسية منها كالحبوب .فتشرع الحكومة في تنفيذ برنامج ما يسمى «بالاصلاح الهيكلي» الذي يشجع على الخصخصة وعلى الانفتاح اللامحدود على رأس المال الأجنبي وفتح السوق الداخلية على مصراعيها لاستثماراته. وفي مطلع سنة 1984 وبالتحديد في 3 جانفي حصلت انتفاضة الخبز التي كان سببها رفع الدعم بالكامل عن الحبوب والذي نتج عنه مضاعفة سعر الخبز. وللمرة الثانية، نزل الجيش إلى الشارع وقام باطلاق الرصاص على المحتجين من المتظاهرين فسقط المئات من الضحايا الأبرياء واعتقل العشرات من المواطنين ظلما، ولفقت ضدهم تهم باطلة وصدرت في حقهم أحكام قاسية . وأخيرا وليس آخرا حصلت أحداث الحوض المنجمي في كل من الرديف وأم العرائس والمتلوي والمظيلة وانطلقت باضراب جوع يوم 5 جانفي 2007 احتجاجا على النتائج المشبوهة التي أعلنت عنها شركة فسفاط قفصة في مناظرة الانتداب وتطوّرت تلك الأحداث واتسعت للمطالبة بالشغل والتوزيع العادل للثروة والحق في بيئة سليمة ونظيفة بعيدا عن حالة التلوث. يبقى شهر جانفي بالنسبة للطبقة الشغيلة وللجماهير الشعبية هو الشهر الذي تتذكر فيه آلامها وآمالها وطموحاتها وتعمل جاهدة من أجل تحقيق قيم العدل والحرية والمساواة.