لا شكّ انّ الماركسيّة فلسفة برّاقة مليئة بالمثل، وأجمل ما في مثلها عدم إمكان تمثّلها في الواقع الا بشكّل فجّ حسبما جادت به قريحة الثوريين في العالم بكافة تجاربهم من ألبانيا إلى شافيز ومن الليندي إلى بول بوت. ولعل في مثلها إغراق ما في المثالية، ليس بمعنى أنّّها فلسفة مثالية كما يحلو للتكفيريين السبق في الاتهام، بل بمعنى أنّّها ككل فلسفة تعمّق الافكار إلى حدّ تحويلها الى حلم مجنّح فيجنح معها بذلك كل شيء وتنكفئ الأفكار البرّاقة إلى هزائم مرّة وفجّة أحيانا. لقد تحوّلت ديكتاتورية البروليتاريا إلى ذريعة لممارسة عنف الدولة الهمجي على الافراد والجماعات أو عنف الحزب أو أمينه العام باسم أحقية الحقّ الأبدي والأخير لطبقة اعتبرت في الفلسفة الماركسية الطبقة الأكثر ثورية وتقدمية في التاريخ، الطبقة صاحبة الحقّ الإلاهي على الأرض في امتلاك الحقيقة الواحدة المحرّرة لكلّ سائد ورجعي، تلك الطبقة التي اختلفت حولها الماركسية ذاتها بمختلف مدارسها عن مأتى الوعي إليها: أمن الخارج أم من الداخل (أي من خارج الطبقة: المثقف العضوي في ارتباط بالبروجوازية الصغيرة أم من داخل الطبقة وهي المنهكة والتي لاتستطيع تجاوز أميتها فما بالك بصنع المعرفة). إنّ تحويل الماركسية الى تجربة أرضية يبدو كتحويل سلطة الربّ إلى الكنيسة، فمن يحكم باسم الارض ليس كمن يحكم باسم السماء، واذا كانت العلاقة بين السماء والارض علاقة بين المحدود واللامحدود فإنّ العلاقة بين الفكر والواقع علاقة شديدة التعقيد، وتعميق البحث فيها كتسطيحه قد يؤدي الى نتيجة معاكسة لما هي عليه تلك العلاقة في أصولها الواقعية والمعرفيّة. لقد عانت الماركسية في بلدان الشرق وخاصة البلاد العربية من عسر في الهضم ليس من قبل الجماهير الواسعة الغارقة في غبار الأمية والجهل والتخلف وما إلى ذلك من المعوقات، بل من قبل معتنقيها، إذ تحولت من فكرة تحرّرية حالمة الى فكرة جامدة متحجّرة بل واصطبغت بأصباغ دينية وتحوّل مبتدعوها الى رسل وتابعيهم الى صحابة أو حواريين لا يرقى لهم الشكّ، بل تحيط بهم هالة من العصمة والقداسة، ولئن فشل الماركسيون في الوصول الى السلطة في الوطن العربي (باستناء اليمن الجنوبي) فقد تكاثرت المدارس والخلافات والقراء والقراءات الى حدّ الوصول الى التشتت والانعزال ولم تبق فرقة واحدة ناجية من ذلك. وبرزت إثر ذلك زعامات وهميّة، موهومة وواهمة تتخبّط في مستنقعات من التحجر والغوغائية وقلّة الفهم وأحيانا كثرته حدّ الترف الفكري، ولعلّ هذا ما حدث في تونس بالذات إذ تكاثرت الملل والنّحل حدّ التمزّق والضياع. إنّ أغلب التيّارات الماركسية التونسية قد نشأت (باستثناء الحزب الشيوعي التونسي) بين أسوار الجامعة وتعلّبَتْ هناك وغلب عليها طابع السّجال (لذلك فالمكتبة الماركسية التونسية فقيرة الى حدّ كبير). إنّ الصراع العائلي على الارث (الزعامة) وصل حدّ التكفير والإتّّهام بعدم الوفاء إلى الاصول: أصول الفقه الماركسي الذي حنّطته القراءة المسطّحة للبعض وتأثر البعض الاخر بالمحيط الاجتماعي السنّي الذي تربّى فيه فبرزت كلمات جدّ حدّية ستتحوّل فيما بعد إلى كلمات عسكريّة جهاديّة عندما يتأثر هذا اليسار بالتيار الديني في السبعينيات، ومن بين هذه العبارات العاكسة لجملة من المفاهيم: الإرتداد فاذا كان حكم المرتد في الاسلام هو التكفير والقتل فحكمه لدى ماركسيينا الإبعاد (ذلك لأنهم لم يصلوا إلى السلطة وإلاّ فإنهم سيطبّقون تعاليم السنّة على المرتدين). التحريفية: وهي كلمة جاء بها الاسلام للحديث عن تحريف نصوص الديانات التي سبقته خاصة اليهودية والمسيحية وقد أطلقها يسار السبعينيات على الحزب الشيوعي السوفياتي وبالتالي الحزب الشيوعي التونسي كعلامة على وفاء هؤلاء للنصّ المقدّس الذي لا تشوبه شوائب «الترجمة» أو التغيير (وكأن الترجمات التي اطلع عليها هذا اليسار ليست موسكوفية أو هي أصلا ترجمات دقيقة..!) التصفية: إنّ الايمان بهذا المفهوم التكفيري جاء خلال حكم ستالين وقد استهوى كثيرا ماركسيينا ذلك أنّه يستجيب لخلفية تاريخية هو حكم الجماعة والسنّة على المارقين والخارجين عن إجماع الأمّة. وأبرز النماذج في تاريخنا كان الحجّاج بن يوسف وابو العبّاس السفّاح وهو أيضا مفهوم يقوم لدى السلطان السّني على تصفية خصومه إذ المفروض أنّ الطاعة للسلطان واجبة وعدم مخالفته عباده أليس هو ظلّ الله في الأرض؟ كذلك انزلق هذا المفهوم إلى الماركسيين التونسيين وخاصة أثناء نشأة «الاتجاه الاسلامي» كتيار بدأ يستقطب وعي الناس ويعوّض الفراغات الى تركها اليسار المهتمّ بصنع المفاهيم والتغزّل بالثّورة وتصفية الخصوم حين قيامها، والتصفية طبعا قد تبدأ منذ اندلاع الثّورة الى إقامة الدولة في المرحلة الأولى بالاغتيال والتالية بالاعدامات. وهكذا يحقق اليسار وعيه الخارق بالوفاء لمنطق السلطة السنيّة الأشعريّة التاريخي مؤسسا سلطة الزعيم الفرد المعصوم من الخطأ والمفارق، كالإمام لدى بعض الشيعة ومن يخرج عن طاعة الزعيم يكون مآله الارتداد وإقامة الحدّ عليه واجب ثوريّ مقدّس. إن تداخل الوعي بالمفاهيم لدى اليسار التونسي لم يكن نتيجة عدم استيعاب الفلسفة الماركسية فسحب والاجتهاد في ترجمتها بما يسمح بأن لا تكون الترجمة محكومة بالنص الديني (ردّة تحريف...إلخ) بل أيضا لانه سليل تربة المدرسة السنيّة المؤثرة في نشأته وفي وعيه الباطني مما يجعل عمليّة تسلّل الوعي الديني في وعيه السياسي وربّما الايديولوجي قائمة الى حدّ كبير، وإلا كيف نفسّر أن جلّ اليسار الماركسي لا يرفع الا شعارات موغلة في اليسراويّة والانعزال سواء تعلّق الامر بمسألة الحريّة أو الديمقراطية ورغم أنّ جلّ اليسار الماركسي قد انتقل في السنوات الاخيرة إلى النضال العلني والايمان بمسألة الديمقراطية كمسألة حتمتها الخيبات المتتالية لليسار الشيوعي في العالم بأسره، إلاّ انّه يتطرّف مرّة أخرى في رفع شعار الديمقراطية إلى حدّ الذهاب إلى أمريكا، ومغازلة الاخوان المسلمين وحتى التحالف معهم. هل هو التنازل عن الحدّ الادنى الذي رفعه اليسار كترجمة لمفاهيمه حول الصراع الطبقي والتناقض الرئيسي فيه، أم أن الحركات الاسلامية قد أصبحت تمثل طبقات تقدّمية في المجتمع؟ لقد أصبح اليسار الماركسي التونسي الممزّق والمتشرذم فاقدا لرؤية واضحة، ليست في المفاهيم فحسب، بل في الممارسة أيضا، وإذا ضاعت البوصلة، فقد الربّان السيطرة على السفينة.