شراكات لمناهضة تهريب المهاجرين    سعيّد يقلّد صاحب جائزة نوبل للكيمياء الصنف الأوّل من وسام الجمهورية.. تكريم رئاسي للبحث العلمي والكفاءات    عمّار يتلقّى دعوة لزيارة الدوحة    صفاقس: إنهاء تكليف كاتب عام بلدية العين    نحو توريد كميات من اللحوم المبرّدة    تطاوين.. ارتفاع عدد الاضاحي مقابل ارتفاع في اسعارها    جندوبة: السيطرة على حريق أتى على 3 هكتارات من حقول القمح    مصر.. مصرع 9 وإصابة 9 آخرين في حادثة سقوط حافلة بنهر النيل    المحمدية: الكشف عن مستودع معد لإخفاء السيارات والاحتفاظ بنفرين    صفاقس : نقص كبير في أدوية العلاج الكيميائي فمن يرفع المُعاناة عن مرضى السرطان؟    دربي العاصمة يوم الأحد 2 جوان    تقليد السيّد منجي الباوندي المتحصّل على جائزة نوبل للكيمياء لسنة 2023.    صفاقس : كشك الموسيقى تحفة فنية في حاجة الى محيط جميل    عاجل/ محكومون بالسجن بين 6 و16 سنة: ضبط 3 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم    التضامن: حجز 100 صفيحة من مخدر القنب الهندي    عاجل/ البرلمان يصادق على قرض جديد بقيمة 300 مليون دولار    سيدي بوزيد: جداريات تزين مدرسة الزهور بالمزونة (صور)    التوقعات الجوية لهذه الليلة    يُخفي بضاعة مهربة داخل أكياس نفايات !!    20 مسماراً وأسلاك معدنية في بطن مريض    سيدي بوزيد: برمجة ثرية في الدورة 21 لملتقى عامر بوترعة للشعر العربي الحديث    سعاد الشهيبي تستعد لإصدار "امرأة الألوان"    في مهرجان "كان": كيت بلانشيت تتضامن مع فلسطين بطريقة فريدة    توزر: تمكين المدرسة الابتدائية طريق المطار من تجهيزات رقمية    رئيس منظمة ارشاد المستهلك يدعو إلى التدخل السريع في تسعير اللحوم الحمراء    البريد التونسي ونظيره الموريتاني يُوقّعان اتفاقية تعاون    بسبب مذكرة الاعتقال ضدّ نتنياهو: المدعي العام للجنائية الدولية يتلقى تهديدات    البطولة الانقليزية: نجوم مانشستر سيتي يسيطرون على التشكيلة المثالية لموسم 2023-2024    متعاملون: تونس تطرح مناقصة لشراء 100 ألف طن من قمح الطحين اللين    بطولة العالم لالعاب القوى لذوي الاعاقة : وليد كتيلة يهدي تونس ميدالية ذهبية ثالثة    الرابطة المحترفة الأولى (مرحلة تفادي النزول): حكام الجولة الحادية عشرة    النادي الصفاقسي: اليوم إنطلاق تربص سوسة .. إستعدادا لمواجهة الكلاسيكو    الاحتفاظ بتونسي وأجنبي يصنعان المشروبات الكحولية ويروّجانها    عاجل/ مدير بالرصد الجوي يحذر: الحرارة خلال الصيف قد تتجاوز المعدلات العادية وإمكانية نزول أمطار غزيرة..    كوبا أمريكا: ميسي يقود قائمة المدعوين لمنتخب الأرجنتين    موعد تحول وفد الترجي الرياضي الى القاهرة    الموت يفجع حمدي المدب رئيس الترجي الرياضي    إحداث خزان وتأهيل أخرين واقتناء 60 قاطرة لنقل الحبوب    وزير الفلاحة : أهمية تعزيز التعاون وتبادل الخبرات حول تداعيات تغيّر المناخ    إختفاء مرض ألزهايمر من دماغ المريض بدون دواء ماالقصة ؟    اصابة 10 أشخاص في حادث انقلاب شاحنة خفيفة بمنطقة العوامرية ببرقو    بدأ مراسم تشييع الرئيس الإيراني ومرافقيه في تبريز    صلاح يُلمح إلى البقاء في ليفربول الموسم المقبل    الرئاسة السورية: تشخيص إصابة أسماء الأسد بسرطان الدم    عمرو دياب يضرب مهندس صوت في حفل زفاف.. سلوك غاضب يثير الجدل    الدورة 24 للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون تحت شعار "نصرة فلسطين" و289 عملا في المسابقة    وزير الدفاع الأميركي: لا دور لواشنطن بحادثة تحطم طائرة رئيسي    سليانة: معاينة ميدانية للمحاصيل الزراعية و الأشجار المثمرة المتضرّرة جراء تساقط حجر البرد    عشرات الهزات الأرضية غير المسبوقة تثير الذعر في جنوب إيطاليا    قبلي: تخصيص 7 فرق بيطريّة لإتمام الحملة الجهوية لتلقيح قطعان الماشية    منوبة.. إيقاف شخص أوهم طالبين أجنبيين بتمكينهما من تأشيرتي سفر    هل فينا من يجزم بكيف سيكون الغد ...؟؟... عبد الكريم قطاطة    الشاعر مبروك السياري يتحصل على الجائزة الثانية في مسابقة أدبية بالسعودية    نحو الترفيع في حجم التمويلات الموجهة لإجراء البحوث السريرية    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استقلالية الإتحاد من استقلال البلاد وجدوى الإتحاد في تحالفه مع القوى الوطنية والقومية&#
من دروس ستة وعشرين جانفي1978
نشر في الشعب يوم 13 - 03 - 2010

لا قى ملفنا الخاص بأحداث 26 جانفي 1978 اهتماما كبيرا من لدن العديد من الاخوة والاصدقاء.
وتفاعلا مع ماكتب، ومساهمة في اثراء الحوار والنقاش، بعث لنا الأخ أحمد الكحلاوي الكاتب العام سابقا للنقابة العامة للتعليم الثانوي بالمقال التالي:
- توطئة
إذا كان اغتيال سلطات الاحتلال الفرنسية فجر يوم 5 ديسمبر1952 لحشاد القائد الوطني والزعيم النقابي عملا وحشيا غير مسبوق في تاريخ الإرهاب العسكري والقمع السياسي الفرنسي للحركة الوطنية والنقابية التونسية ولمثيلاتها في المغرب والمشرق العربيين فانه مثل في المقابل نقطة تحول حاسمة في تطور المقاومة المسلحة والشعبية للاحتلال الفرنسي في تونس وفي محيطها العربي وقد كان فرحات حشاد على وعي تام بمجريات الأحداث و ضريبة الدم التي كان لابد من دفعها مهرا للاستقلال الوطني وهو الأمر الذي كان يسر به لرفاقه و لأفراد أسرته كما جاء على لسان أرملته السيدة "أم الخير" في أحد البرامج التلفزية :"أن استشهاد أحدنا نحن الثلاثة ويقصد شخصه وبورقيبة وبن يوسف سيعطي دفعا قويا للمقاومة وسيسرع بخروج الاحتلال الفرنسي من تونس" ظل حشاد يردد قوله منذ اندلاع الثورة المسلحة في 18 جانفي 1952 وهي الثورة التي كان من المفروض أن تنطلق في سياق ثورة المغرب العربي الذي اجتمع قادة من أقطاره وهم علال الفاسي من حزب الاستقلال المغربي ,وعبد الخالق الطريس وآمحمد بن عبود من حزب الإصلاح المغربي والحبيب بورقيبة ويوسف الرويسي والحبيب ثامر من الحزب الحر الدستوري التونسي والشاذلي المكي من حزب الشعب الجزائري في القاهرة سنة 1947 ليؤسسوا "مكتب المغرب العربي" وينيطوا بعهدة لجنة تحريره بالقاهرة مهمة تشكيل الجيش الشعبي لتحرير المغرب العربي بقيادة الطاهر لسود غير أن العملية تعرضت لانتكاسة شديدة بسبب اختيار بورقيبة وقسم من المغاربة طريق الاقتصار على المفاوضات مع المحتل بدل محاربته وهو ما رفضه الخطابي وبن يوسف و قادة المقاومة العربية في الأقطار الثلاثة . إن فرحات حشاد كان يؤمن بأن التحرير و طرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال الناجز مهام وطنية جسيمة لا تتحقق إلا بالمقاومة المسلحة والشعبية وقد برهن على ذلك سنة 1948 حينما كان يرسل المتطوعين التونسيين لقتال الصهاينة في فلسطين وحينما شكل لجنة استقبال العائدين منهم والاستفادة من تجربتهم لفائدة المقاومة في تونس وحينما قاد بنفسه تلك المقاومة المسلحة لما تفجرت في جانفي 1952 وهذا ما عرضه للاغتيال على أيدي غلاة الاحتلال الفرنسيين الذين كانوا يصرون على بقاء الاحتلال ويناهضون بقوة السلاح الوحدة العربية ويدعمون اغتصاب فلسطين ويدافعون عن كيان العدو الصهيوني . لقد شهدت تونس مقاومة عنيفة ضد الاستعمار الفرنسي وسقط الكثير من الشهداء قبل وخلال سنوات 52 و53 و54 و55 كذلك الأمر في أقطار المغرب العربي حيث فجرت الجزائر ثورتها المسلحة التي أعلنتها جبهة التحرير الجزائرية في نوفمبر 1954 وتصاعدت المقاومة في المغرب الأقصى ما أجبر الحكومة الفرنسية على عرض اتفاقية استقلال داخلي منقوص على كل من الرئيس بورقيبة وملك المغرب لكن صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الدستوري وعبد الكريم الخطابي زعيم ثورة الريف المغربية وقادة الثورة الجزائرية رفضوا الاتفاقية كونها كما قال بن يوسف في خطاب له في رحاب جامع الزيتونة "خطوة إلى الوراء " وأعلن المقاومون الذين كان الرئيس بورقيبة يسميهم "الفلاقة" معارضتهم لها وامتنعوا عن تسليم أسلحتهم وواصلوا المقاومة فوقفت الأغلبية الساحقة من التونسيين والدستوريين إلى جانب بن يوسف ضد الاتفاقية وعبرت عن رفضها الاستقلال بالصيغة المعروضة ليس لكونه منقوص السيادة وحسب بل لأنه يعرض ثورة الجزائر للخطر ويضع إسفينا بين القطر ومحيطه العربي والإسلامي ويعيقه عن أداء دوره في الوحدة والتحرير. في هذه الظروف الخطيرة يبرز الإتحاد العام التونسي للشغل بموقف مساند للرئيس بورقيبة اتخذه الأخ الحبيب عاشور الذي نظم مؤتمرا استثنائيا للحزب الدستوري في مدينة صفاقس يوم 15 نوفمبر 1955 حصل بورقيبة بفضله على الموافقة على "اتفاقية الاستقلال الداخلي" رغم رفض أغلبية الدستوريين والوطنيين والتحاقهم بالأمانة العامة وبصالح بن يوسف وانشق الرئيس بورقيبة للمرة الثانية في تاريخه وانقسم حزب الدستور إلى أمانة عامة وديوان سياسي و منذ ذلك التاريخ إلى يوم الإضراب العام في 26جانفي 1978 وبعده أصبح الرئيس بورقيبة يراقب الإتحاد ويتدخل في شؤونه دون كثير اعتبار للشغالين ولاتحادهم وللأهداف الوطنية والقومية التي استشهد في سبيلها مؤسسه وزعيمه فرحات حشاد.
2- جذور التيار الوطني العروبي في الحركة النقابية التونسية
-أ- مرحلة التأسيس الأولى من 1920 الى 1925 : انتشر العمل النقابي في تونس بالتوازي مع دخول الاستعمار المباشر سنة 1881 عبر نقاباته المتعددة والتي كان أبرزها و أخطرها نقابة السي -ج - ت الفرنسية ذات التوجه الشيوعي والاشتراكي كما يزعم أصحابها وكانت هذه النقابات تدافع عن الاستعمار وتدعم سياسته ولا تهتم إلا بالمطالب المادية لكنها كانت تمارس التمييز ضد العمال التونسيين والعرب (indigènes)وأبرز مثال على ذلك تكريسها امتياز الثلث الاستعماري في الأجور والمنافع الأخرى لصالح الأوروبيين دون سواهم ... وقد تميز الوضع الداخلي آنذاك بتعرض أبناء البلد لصنوف القمع الاستعماري الشديدة وللاستبداد السياسي وغياب الحقوق والحريات الأساسية كما أوقعتهم الأحوال الاجتماعية والاقتصادية السيئة في ظروف عيش قاسية و فريسة للجهل والفقر والأوبئة الخطيرة فتصدت بعض الفئات المتعلمة لمواجهة الوضع وبدأت تترجم حاجة الجماهير التونسية لمنظمات وصحف وطنية مستقلة عن الاستعمار تدافع عنها وتفعل حركتها الوطنية والاجتماعية . وتميزت نهاية الحرب الإمبريالية الأولى بين1914 و1918 بسقوط السلطنة العثمانية وفشل الثورة العربية الكبرى من 1914 الى 1916 التي عبث بها المستعمرون الإنجليز والفرنسيون الذين أوقعوا الشريف حسين فريسة لألاعيب المقيم العام الإنجليزي "ماكماهون" ليتعرض الوطن العربي ابتداء من ذلك التاريخ لمؤامرة التقسيم الاستعماري بواسطة "سايكس-بيكو" (1916) وإعلان حكومة بريطانيا الاستعمارية عن صك الانتداب بعد صدور "وعد بلفور"(1917) لاحتلال فلسطين و"زرع كيان يهودي- غريب عن المنطقة يفصل شرقها عن غربها ويمنع العرب من الوحدة "كما جاء في رسالة الوزير الإنجليزي "كامبل بنرمان" إلى نظرائه الأوروبيين ليبدأ تنفيذ جريمة العصر المتمثلة في اغتصاب فلسطين العربية وزرع الأفعى الصهيونية على أرضها ونشر ألغام الطائفية و العرقية والتقسيم مبكرا في الوطن العربي وانعقاد مؤتمر "الصلح" الأورو-صهيوني الذي سيطلق هجرة اليهود الى فلسطين(1919) لكن الرد أتي من فلسطين بالمقاومة التي اندلعت منذ زرع المستوطنة الأولى فوق أراضيها كما أني الرد عبر انطلاق حركات التحرير في الأقطار العربية في الكفاح الوطني وبداية بروز طلائع الحركة القومية العربية ومثال ذلك ما حدث في تونس عندما أسس الزعيم الوطني ع.الثعالبي وباش حانبة ورفاقهما بعد خوض تجارب إعلامية وسياسية "الحزب الحر الدستوري" الحزب الوطني الذي خاض حملات الدفاع عن القضية التونسية واستنهاض حركة الكفاح الوطني التونسية وسيمثل تأسيس جامعة عموم العملة التونسيين في السنين الموالية من قبل محمد علي الحامي ورفاقه لبنة للنهوض بالعمال والشعب والسير على طريق تحرير البلاد من الاستعمار. ولاقتناعه بأن تحرير تونس مرتبط أشد الارتباط بتحرير فلسطين والأقطار العربية عمل الزعيم ع. الثعالبي على ربط الحركة الوطنية التونسية بحركات التحرر في المغرب والمشرق العربيين ورابط من أجل ذلك في عواصم الشرق العربية وخاصة في القدس التي شهدت أنشطته المكثفة دفاعا عن عروبة فلسطين ورفضا للأفعى الصهيونية التي بدأت تتمدد سرا وعلانية في ربوعها وبدأ العرب يستشعرون ارتجاجاتها في أقطارهم مثلما وقع في تونس بمناسبة محاولة دخول الصهيوني جابوتنسكي إليها لتجنيد يهود الشتات لدعم اغتصاب فلسطين لكن الوطنيين تصدوا له ومنعوا سفنه من دخول تونس وردوه على أعقابه في ميناء حلق الوادي لقد مثل العمل من اجل تأسيس اتحاد نقابي وطني ومستقل عن النقابات الاستعمارية القاسم المشترك بين رواد الحركة النقابية العمالية التونسية بدءا ب محمد على الحامي وصولا إلى فرحات حشا، اتحاد أساسه الدفاع عن مصالح العمال العرب التونسيين وعن الشعب في إطار الهوية العربية الإسلامية لتونس وهو ما كان يؤكد عليه محمد علي الحامي في خطابه الذي ألقاه أمام عمال المناجم في مدينة المتلوي في شهر نوفمبر 1924:"قال الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكرص) معنى ذلك أن الله تعالى قد جعل هذه الأمة الإسلامية والعربية أحسن الأمم التي ظهرت في العالم بما تميزت به من صفات حميدة ،لقد استطاع المسلمون الأولون أن يكونوا حقيقة خير الناس وساستهم كما قال القرآن عنهم.وناهيكم أنهم هم الوارثون الأوحدون في وقتهم لمدنيات العالم القديمة والمجددون لها ، النافخون فيها روح الحياة والنمو ليسجلوا بذلك لهم فخرا خالدا في التاريخ...،لكن بعد ...الإتحاد الذي ثبت به الأجداد ...أصبحنا مفككي الروابط ...فرأيت أن علاجكم يكون بتأسيس نقابة لكم تختارون أعضاءها من بينكم ولتفهموا معنى اشتراككم مع سائر نقابات الوطن تبذلون جميعا جهودا متحدة تعود نتائجها لكم" مشيرا أثناء استنطاقه بعد اعتقاله من طرف الشرطة الاستعمارية واتهامه بالدعاية الدينية (1925)"إن هؤلاء الناس الذين التقيت بهم في المتلوي ...يحفظون القرآن وكلهم مسلمون وهذا هو السبيل الوحيد لفتح مسالك أذهانهم ليسيروا منها إلى نور الحياة..." والمعروف أن محمد علي الحامي قبل خوض تجربة جامعته النقابية التونسية وتجسيدا منه لعروبته ولإسلامه كان قد انخرط مبكرا في الجهاد ضد المستعمرين الأجانب في بلاد العرب والمسلمين حيث شارك في مقاومة الغزو الإيطالي لليبيا (1911) ثم التحق بالثورة في الريف المغربي التي كان يقودها المجاهد الكبير عبد الكريم الخطابي ضد الاحتلال الفرنسي الإسباني في المغرب الأقصى لكن الفرنسيين أطردوه فسافر الى مصر ومنها التحق بالسلطنة العثمانية ثم ببرلين للدراسة.
لقد ذكر محمد علي الحامي في خطاب له في جانفي 1925 "أن الفرنسيين أسسوا بمعية الأوروبيين نقابات لهم في تونس واتحادا ربط تلك النقابات بجامعة العمل الفرنسية ولم يستنكف العمال التونسيون من الاشتراك فيها وهي التي يمنع انتخاب العرب في هيئاتها لكنهم سرعان ما انفصلوا عنها ليؤسسوا نقابة مستقلة عن الإتحاد النقابي الفرنسي مثلما فعل عمال الرصيف التونسيين مستنتجا "ان العامل في الوطن التونسي لا حرمة له ويظهر أن مستقبله سيزداد غبنا واجحافا بانحلال الوحدة ولزوم الصمت ولاتقاء هذا الشر المسيطر أسسنا نظاما اجتماعيا نقابيا مثل الذي أسس في أوروبا للعمال وهو جامعة عموم العملة التونسية"
ومما لاشك فيه أن الطاهر الحداد رفيق الحامي وأبرز مساعديه واحد الأعضاء المؤسسين لجامعة عموم العملة التونسيين قد مثل رغم حملات التشكيك المسيئة التي استهدفت الرواد المؤسسين في الحقلين السياسي والاجتماعي وعلاقات الإنسجام التي جمعتهم مثل همزة الوصل بين الجامعة النقابية والحزب الوطني حيث كان الطاهر الحداد مسؤولا في قيادة جامعة محمد علي و في قيادة الحزب الذي أسسه رائد الوطنية التونسية المجاهد الكبير عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 إطارا وأداة للدفاع عن الهوية العربية والإسلامية لتونس والنهوض بحركة التحرير العربية من تونس إلى فلسطين وهي الرؤية الإستراتيجية التي قام عليها هذا الحزب الوطني ذو التوجه القومي الإسلامي والذي سيشهد عام 1934 ما وصف بالتجديد على أيدي الرئيس بورقيبة و مجموعته التي التحقت بالحزب المذكور فور عودتها من فرنسا سنة 1933 والتي ستنفذ مع سماه بورقيبة ب "الإنشقاق المبارك"الذي سيقسم الحزب الى "قديم" و"جديد" (لجنة تنفيذية وديوان سياسي) وما انجر عن ذلك من تعرض مؤسسيه الى حملات تشويه بدأت بوصف الرئيس بورقيبة لهم ب"الغرانطة" (نسبة للشارع الذي يوجد فيه مقر الحزب) وب"الدساترة القدم". لقد نسف المستعمرون جامعة محمد علي الحامي و عطلوا تجربته النقابية الرائدة لكن روح تلك التجربة والمضامين الوطنية التي حملتها والرؤية العروبية والإسلامية التي قادتها سوف تستمر في عقول وقلوب النقابيين الوطنيين التونسيين خلال التجارب والمبادرات الموالية التي سيخوضونها كما حدث مع محاولة بعث الجامعة الثانية التي تزعمها بلقاسم القناوي والتي وقعت في العزلة بسبب موقف الحياد الذي التزمته في المسألة الوطنية المغاربة(رفض الإضراب تضامنا مع المقاومة في المغرب والجزائر). إن النقابات والتنظيمات الموالية للاستعمار الفرنسي في تونس و خاصة الحزبين الشيوعي والاشتراكي الفرنسيين والموالين لهما من الجالية الأوروبية و بعض "الاشتراكيين والشيوعيين التونسيين" لم تفلح فيما كانت ترفعه من شعارات مضللة مثل الدعوة للتوحد تحت "الأممية الشيوعية" أو الدعوة لممارسة ٌالوحدة العمالية ٌ لأنها لم تكن سوى ستار تتخفى وراءه ، وكانت تروج في الحقيقة لسياسة الاندماج والتموقع في إطار ما سمي آنذاك ب"الإتحاد الفرنسي" وشاركت في ممارسة القمع ضد الشعب وفئاته الوطنية المختلفة بمعية السلط الإستعمارية التي شكلت منظمات عسكرية سرية كمنظمة "اليد الحمراء" تمارس الإرهاب في بلاد المغرب العربي وتروع الجماهير و ترتكب جرائم اغتيال الوطنيين.
-ب - مرحلة التأسيس الثانية : شهدت هذه المرحلة على المستوى القطري امتدت بين سنة 1936 وسنة 1946 اشتداد الكفاح الوطني والنضال الاجتماعي ومواجهة سوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وانتشار الفقر والأمراض وفقدان أبسط الحقوق والحريات وازدادت حاجة الجماهير لمنظمات وطنية مستقلة عن المنظمات المرتبطة بالاستعمار وأتباعه وخاضت سلسلة من النضالات المشهودة كالإضرابات والمظاهرات والصدامات المسلحة مع جيش الإحتلال الفرنسي في وقت كان فيه القطر والوطن العربي والعالم يعيش الحرب الإمبريالية الثانية. أما على المستوى العربي فقد شهدت فلسطين الإنتفاضة المسلحة التي استمرت من 1936 الى 1939 بقيادة المجاهد عز الدين القسام تأسست على اثر ذلك جامعة الدول العربية في 3سبتمبر 1944 التي عدت مهمة ملحة في تلك الظروف العصيبة ومحط آمال جماهير الأمة العربية في التحرر والحرية والنهضة خاصة بعد إجهاض الثورة العربية الكبرى بعد ذلك صدر قرار التقسيم الذي رفضه العرب في اجتماعهم في "بلودان" السورية (1946)واندلعت الحرب العربية الصهيونية في 1948 وشارك فيها مجاهدون عرب، عدد كبير منهم تونسيون أرسلهم الإتحاد و 7 جيوش عربية قاد أحدها الضابط الإنجليزي (لورانس). ففشلت تلك الجيوش وقامالكيان الصهيوني بفضل جيش الإحتلال الإنجليزي وعصابات الإرهاب اليهودية على أرض فلسطين
لقد خاض الإتحاد بقيادة حشاد نضالات تاريخية على المستويين المغاربي والعربي والدولي فقد جاء في التقرير المقدم للمؤتمر الرابع للاتحاد العام التونسي للشعل(مارس 1951) أن "الإتحاد العام التونسي للشغل أول منظمة نقابية مستقلة بشمال إفريقيا يوجه نداءه الى كافة الشغالين الشمال إفريقيين لينتظموا داخل نقابات مستقلة ...تتكون منها اتحادات جهوية ومركزية حتى يسرع اليوم الذي تتأسس فيه من الاتحادات الجزائرية والمغربية والتونسية الجامعة النقابية الشمال افريقية ...وتأخذ بيدها حظوظ شغالي أقطارنا الشقيقة الثلاثة .. .ولن يفل شيء في عزم شعب أخذ يسير في طريق التقدم ويعتزم التحرر من جميع القيود...وهكذا تدل الطبقة الشغيلة الشمال افريقية شعوبنا على طريق الوحدة" كما أن حشاد إضافة إلى دوره المعروف في دعم الثورة الفلسطينية خلال حرب 1948 ركز دفاعه عن الأمة العربية وفي هذا الصدد نشير إلى ما جاء في نفس التقرير المقدم للمؤتمر الرابع للاتحاد حول المشاركة في المؤتمر الاجتماعي للشرق الأوسط الذي منعت سلطات الاحتلال الفرنسية الأمين العام فرحات حشاد من المشاركة فيه وحضر بدلا عنه المرحوم النوري البودالي )..جاء في التقرير : "إن حقنا في الاشتراك ورغبتنا في دراسة المواضيع الاجتماعية لهيئة الأمم المتحدة يرتكز على أن الدول المشاركة (في المؤتمر) هي) الدول ) العربية التي تربطنا بها أمتن الروابط التاريخية والثقافية والاجتماعية في الماضي والحاضر
..." لقد استهل فرحات حشاد نشاطه النقابي المحلي سنة 1936 في نقابة النقل التابعة لجامعة ال س.ج.ت. التابعة للجامعة الفرنسية بصفاقس ثم انتقل بنشاطه إلى سوسة وظل منتميا للجامعة المذكورة من 1937 إلى 1940 . وفي سنة 1944 قرر نقابيو صفاقس المنضوون في ال س.ج.ت. الفرنسية ترشيح فرحات حشاد لمؤتمر الفرع التونسي للمنظمة المذكورة لكن ورغم ما تم من تحوير في القانون الداخلي يسمح للعرب (indigènes)بتحمل المسؤولية في الفرع المذكور فان المؤتمرين الذين كانوا في أغلبيتهم فرنسيين وأوروبيين تصرفوا بعنصرية وسقطت أقنعتهم الأممية والاشتراكية عندما أسقطوا حشاد في مؤتمر نقابة الس. ج .ت الفرنسية المنعقد بصفاقس في مارس 1944 من القائمة الاشتراكية التي ترشح ضمنها ورفضه قبول اقتراح محمد النافع الذي عرض عليه الصعود مكان شيوعيي تونسيي تنازل له عن الموقع وكان من نتيجة ذلك أن رد نقابيو صفاقس بتقديم استقالتهم الجماعية من الس.ج.د.ت. الفرنسية وأسسوا في أكتوبر 1944 اتحاد النقابات المستقلة للجنوب ثم يؤسس نقابيو الشمال اتحادهم في ماي 1945 و تلتحق بهما الجامعة العامة للموظفين التونسيين التي تأسست سنة 1936 كمنظمة نقابية مستقلة ظل قادتها يعملون على تجميع النقابيين والشغالين التونسيين في منظمة واحدة وهو ما تم يوم 20 جانفي 1946 في مؤتمر تأسيسي مشهود معلنا ميلاد منظمة الإتحاد العام التونسي للشغل وانتخاب الفاضل بن عاشور رئيسا وفرحات حشاد أمينا عاما للاتحاد. لقد سار فرحات حشاد على درب محمد علي الحامي مدافعا عن اتحاد "مستوحى من النظرية الاجتماعية الإسلامية الواردة في القرآن الكريم " كما قال في خطابه أمام مؤتمر طلبة شمال إفريقيا المسلمين في ديسمبر 1946وأن يكون الاتحاد مستقلا عن النقابات الاستعمارية قائلا في هذا الشأن "انه علينا أن نتعود الاستقلال في تسيير المنظمة الشعبية وخاصة منها النقابة" ومعبرا في خطابه أمام المؤتمر الرابع للاتحاد في مارس 1951عن وفائه للمبادئ التي سطرها الحامي بما معناه " لقد تسربت الحركة النقابية إلى هذه البلاد اثنتي عشر عاما قبل بروز القانون الذي اعترف لها بالوجود :فقد تأسست النقابات منذ سنة 1924 على يد أبي الحركة النقابية التونسية المرحوم محمد علي الذي غرس هذه الشجرة المباركة وغذاها بروحه ومكنها من التغلغل في النفوس" وللعلم فقد ضم الإتحادان المستقلان كما جامعة الموظفين العديد ممن كانوا أعضاء في جامعة محمد علي.
وتأكيدا لهذا الاتجاه ألقى الفاضل بن عاشور رئيس الإتحاد في مدينة صفاقس خلال شهر مارس 1946 بمناسبة تدشين دار الإتحاد الجهوي خطابا استهله بتبديد الاستغراب من أن يتولى رجل دين معمم أمر اجتماع نقابي يهدف إلى توحيد نضال العمال وتنظيم مسيرتهم مؤكدا لهم أن الشريعة الإسلامية قد أزالت كل معاني الفرقة لتجسيم وحدة الأمة وربط صفوفها في مواجهة الأخطار المهددة لكيانها والمدمرة لمقوماتها .وقد اشتهر الفاضل بن عاشور داخل الحزب والإتحاد ومن على منبر الجمعية الخلدونية التي كان يرأسها بدفاعه المستميت عن هوية تونس العربية الإسلامية وعن لغتها العربية وعن فلسطين "الوطن القومي للعرب"ومن المؤكد أن فرحات حشاد قد استفاد من أفكار ومواقف الشيخ وهو الذي كان ملازما له ومتابعا لخطبه ومحاضراته. إن هذه الأفكار والمعاني نفسها الداعية للتحرر والإنعتاق من ربقة المستعمر والمدافعة عن الشعب وانتمائه العربي الإسلامي أكدها الفاضل بن عاشور أيضا أمام "مؤتمر ليلة القدر"المنعقد يوم 23 أوت 1946 الذي كان مؤتمرا وطنيا شاركت فيه كل الأحزاب والمنظمات الوطنية وتمخضت عنه لائحة حرر نصها وتلاها الفاضل بن عاشور أمضاها المؤتمرون وطالبوا فيها باستقلال تونس وخروج القوات الأجنبية منها حتى تتمكن من الالتحاق بالجامعة العربية... لقد كانت سلطات الاحتلال والنقابات والأحزاب السياسية الاستعمارية تحارب بشدة الحركة الوطنية التونسية التي كانت تكافح من أجل الاستقلال الوطني و تلاحق الثوار فيما بين أقطار المغرب العربي وتعمل على إنهاء مقاومة الاستعمار في أقطاره ومارست القمع ضد العمال والفئات الشعبية المختلفة وشكلت منظمات عسكرية سرية كمنظمة "اليد الحمراء" تمارس على امتداد المغرب العربي الإرهاب وتروع الجماهير المنتفضة وتطلق عليها الرصاص في النفيضة وتونس العاصمة وبنزرت وغيرها و ترتكب جرائم اغتيال الوطنيين مثلما تم مع حشاد سنة 1952 والهادي شاكر سنة1953 وغيرهما ممن طالتهم أيادي الإرهاب الفرنسي...
- نوفمبر1955 المنعرج الكبير الأول
-أ-إضعاف الإتحاد وتهميش دوره : لقد راهنت الدولة الفرنسية و"مانديس فرانس"الذي عرض "اتفاقية الاستقلال الداخلي"على الرئيس بورقيبة الذي نجح في الحصول على موافقة مؤتمر الحزب بصفاقس على العرض الفرنسي ووقف المقاومة المسلحة وكان "الفضل" في ذلك يعود بالخصوص الى الأخ حبيب عاشور لكن دولة الاستعمار الفرنسية سارعت إلى التصديق على الاستقلال التام لكل من تونس والمغرب خاصة على اثر هزيمة فرنسا في الفياتنام وتفجر الثورة الجزائرية في 1954 وإعلان ثورة الضباط الأحرار في مصر قرارها تحشيد الأمة من أجل الوحدة العربية وتحرير فلسطين و تصميمها على تقديم الدعم الكامل للثورة الجزائرية لتحقيق الاستقلال وطرد الاحتلال الفرنسي من المغرب العربي لقد رتبت دولة الاحتلال الفرنسية ما اعتقدته تأمينا لمصالحها في المغرب و تونس لتتفرغ لتأبيد احتلالها في "الجزائر الفرنسية" وقمع ثورتها الوطنية و لضرب الثورة الناصرية وتحقيقا لمصالح الغرب الاستعماري وضمان أمن الكيان الصهيوني في فلسطين . أما الرئيس بورقيبة وفور إقالته للباي وإعلان الجمهورية شكل أول حكومة تونسية ضمت في صفوفها وزيران من الجالية اليهودية في تونس همااندري باروش ( الذي تم تصعيده عضوا في المجلس الملي للحزب الدستوري في مؤتمر صفاقس1955 وهو في الأصل أحد مؤسسي الحزب الشيوعي في القطر التونسي) وألبير بسيس (الذي كان وزيرا في حكومة بن عمار التي أمضت اتفاقية الإستقلال الداخلي) مع ملاحظة أن الأمر نفسه حدث في المغرب الأقصى ) بعد ذلك وجه الرئيس بورقيبة اهتمامه للاتحاد العام التونسي للشغل فحصل - نتيجة ذلك الاهتمام- ما يعرفه الجميع من إقالة للأمين العام الأخ أحمد بن صالح الذي كان خارج القطر يشارك في اجتماع نقابي بمدينة طنجة يبحث في توحيد نقابات المغرب العربي وما كان على اثر ذلك من صراع في قيادات الإتحاد شمل الرموز الثلاثة السادة أحمد بن صالح والحبيب عاشور وأحمد التليلي و ما حصل مما لم يكن في الحسبان متمثلا في انشقاق الأخ حبيب عاشور وبعثه نقابة (utt) وما انجر عن ذلك من غرق في صراعات بين نقابات الإتحاد والشعب المهنية التي قرر بعثها الحزب في مؤتمره سنة 1964 لقد أضعفت تلك الأحداث الإتحاد وهمشت دوره الوطني والقومي الذي رسمه له مؤسسوه في مؤتمراته الأربعة زمن حشاد فبعد أن كان الإتحاد فاعلا في المقاومة وقائدا لها في القطر وذو تأثير وطني قوي على الأحداث في القطر وفي المشرق والمغرب العربيين تحول الإتحاد إلى مجرد هيكل ضعيف.
-ب- إدارة الظهر لحملة تصفية التيار العروبي
بعد أن فقد الإتحاد الدور الحاسم الذي كان طيلة سنواته الأولى، يلعبه دفاعا عن العمال وعن الشعب تكريسا لشعار حشاد :(أحبك يا شعب) وعن قضاياه الوطنية والقومية بسبب اتخاذ قيادته سنة 1955 موقفا داعما للشق البورقيبي في الصراع حول مسألة الاستقلال وما صاحبها من اختلاف جوهري في النظر لمستقبل البلد وموقعه في محيطه وعلاقة ذلك بالثورتين الناصرية والجزائرية ، بمواقفه تلك تجاوز الإتحاد ثوابت المؤسسين ورؤاهم في المسائل الوطنية والقومية وقضايا الانتماء والهوية التي ظلت في صدارة أنشطة الإتحاد بقيادة حشاد الذي أكد في خطابه أمام مؤتمر طلبة شمال إفريقيا المسلمين في ديسمبر 1946أن الاتحاد "مستوحى من النظرية الاجتماعية الإسلامية الواردة في القرآن الكريم "ومشيرا إلى الاهتمامات الأعلى للحركة النقابية في قوله "إن الميدانين الاجتماعي والاقتصادي لم يقدرا على استيعاب كل اهتمامات الحركة النقابية التي نمت بسرعة لذلك ترون النقابيين في مقدمة كل حركة تقدمية وفي طليعة كل حركة تهدف إلى ضمان استقلال البلاد والحرية" ومشهرا أمام المؤتمر ال4 للاتحاد بالاستعمار ذاكرا أن سياسة هذا الأخير تعجل بزواله الحتمي و ترمي إلى العبث بكل المظاهر القومية للشعوب المولى عليها فيتسبب بذلك في توحيد جبهة المقاومة ويعجل بالثورة ضده تقوم بها كافة طبقات الشعب وتقود الاستعمار إلى الفناء هكذا كان حشاد يرى الثورة وتلك كانت مواقف الإتحاد تحت قيادته وهذا طبعا إلى جانب دعمه الملموس لقضية فلسطين التي سهر شخصيا على تعبئة المتطوعين للمشاركة في الدفاع عنها وجمع الأموال لفائدتها ، لقد غابت مواقف الحركة النقابية التونسية تلك عن أذهان قادة الإتحاد ساعة اشتداد الصراع حول الوجهة التي سيتخذها البلد بقبول العرض الفرنسي حول الحكم الذاتي و ما اعتبر مقايضة تضمنها ذلك العرض للحيلولة دون المقاومة التي تشكل لتنفيذها الجيش الشعبي لتحرير المغرب العربي تنفيذا لقرار قادة مغاربيين في القاهرة منذ 1947 بمشاركة قادة تونسيين (بورقيبة ، ثامر.، الرويسي..) في تلك الظروف المأساوية تفرغ الشق البورقيبي لتصفية التيار العروبي بدء بالتيار اليوسفي الذي كان يتمتع بتأييد واسع من التونسيين والعرب والذي برز بتمسكه بالمقاومة الموحدة في المغرب العربي وبرفضه لعرض الاستقلال الداخلي لانطوائه على مخاطر تهم هوية القطر و مستقبل علاقاته بالمنطقة وبالوطن العربي وتمت تصفية حركة المقاومة المسلحة والسياسية المعارضة بواسطة جيش الاحتلال والمجموعات والأجهزة الخاصة التي تشكلت للغرض والتي مازالت تفاصيل أخبارها حول ما تسببت فيه من المعانات التي لحقت بالوطنيين مجهولة حتى الآن وصولا إلى اغتيال صالح بن يوسف اللاجئ في ألمانيا في أوت 1961 إن تلك التصفيات الدموية والملاحقات ستضعف التيار العروبي وتحيل معظم مريديه على العمل السري أو الهجرة بعد عدم نجاح المحاولة العسكرية لتغيير الحكم التي تمت يوم 24 ديسمبر 1962 على أيدي وطنيين تونسيين مدنيين وعسكريين ( 27 عنصرا) أعدم بعضهم وحشر البعض الآخر في غياهب السجون و هم الذين هزتهم الحمية على عروبة البلد وما جرى له من تدهور في علاقاته بمحيطه العربي بلغ حد قطع العلاقات مع الجزائر سنة 1963ثم مع مصر وسورية وما صاحب ذلك من تصريحات الرئيس بورقيبة عن "تفضيل الانتماء للحلف الأطلسي على الانتماء للجامعة العربية" مناقضا مطلب مؤتمر "ليلة القدر" الذي جمع كل القوى الوطنية التونسية وطالب بالإستقلال والانتماء للجامعة العربية التي كان مؤتمرها ينتظم سنويا بمناسبة تأسيسها مهرجانات ضخمة تتم تحت عنوان "عيد العروبة " إلى القول بأن "مرسيليا أقرب إلينا من القاهرة" وما جاء في خطاب له في ماي 1968 قال فيه "إننا نعتبر أن نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية يشكل عنصر استقرار يحمي العالم من نوع من الأنظمة الاستبدادية" وهلم جرا...وما انجر عن ذلك من الأخطار الجدية التي هددت جديا هوية البلد العربية والإسلامية بسبب سيطرة الثقافة واللغة الفرنسيتين على ثقافة البلد ولغته وتعليمه (اقرؤوا فولتير ودعكم من المتنبي...) وما صاحب ذلك أيضا من تعبير عن الإعجاب الشديد ب"أتاتورك" وبمنهجه التغريبي وممارسته جهارا نهارا كما حدث في القيروان? ذات رمضان- وتجميد الجامعة الزيتونية التي تخرج من ربوعها جل رجالات الثورة في المغرب العربي وصولا إلى الموقف من القضية الفلسطينية. لقد كان حري بالنقابيين أن ينأوا بأنفسهم وبالإتحاد عن مواقف وسياسات كانت تنزلق بالقطر نحو العزلة عن محيطه العربي الإسلامي وتتنكر لانتمائه وتدعو لما يسمى بالسلام في قضية فلسطين و تجعله منعزلا عن المصالح العليا للأمة المهددة في وجودها وهو ما مهد لمخاطر جمة تعلقت بالقطر في مستقبله.
-أ- عاشور ونويرة يقودان عشرية السبعينات في أكتوبر 1970 يعين المرحوم الهادي نويرة رئيسا للوزراء و يعلن بورقيبة بالمناسبة أن نويرة سيكون خليفته في الحكم ويدعو المرحوم الحبيب عاشور للعودة لقيادة الإتحاد العام التونسي للشغل . لقد انتهت عشرية الستينات بإقالة المرحوم الباهي الأدغم بعد أن كان مرشحا قبل نويرة لخلافة بورقيبة وقبيل إقالته لعب المرحوم الباهي الأدغم دورا مهما في مواجهة الحملة التي تعرض لها الفلسطينيون في الأردن والتي جدت بمناسبة أحداث "أيلول الأسود" 1970 وكسب شهرة واسعة نتيجة نجاحه في الوساطة العربية ...كما استقال السيد أحمد المستيري الذي اتخذ جناحه داخل الحزب الاشتراكي الدستوري نهجا وصف بالليبرالي وسيدخل هذا الجناح في صراع مع جناح بورقيبة عقب انعقاد المؤتمر الثامن للحزب المذكور سنة 1971 وتتشكل اثر ذلك حركة الوحدة الشعبية بقيادة السيد أحمد بن صالح وحركة الديمقراطيين الإشتراكيين بقيادة السيد أحمد المستيري ويتم تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من طرف الجماعة الموالية له بقيادة د. سعدون الزمرلي وبمشاركة ممثلي الحزب الحاكم . انتهت عشرية الستينات وبدأت السبعينات بمحاكمات واسعة شملت السيد أحمد بن صالح في ماي 70 وصدور حكم ب10 سنوات ضده لكنه يهرب في 1973 من السجن إلى المنفى كما شملت المحاكمات المناضلين البعثيين وأعداد من الشيوعيين القدامى والجدد-1968 (آفاق بيرسبكتيف-العامل التونسي) وصدرت ضدهم جميعا أحكام مختلفة . كما شهدت بداية السبعينات محاكمات للطلبة الذين رفضوا نتائج مؤتمر قربة سنة 1971،كما عاشت الجامعة انتفاضة الطلبة، في فبفري 1972. وأحيل عام 1974 على المحاكمات أكثر من 200 طالب صدرت بحقهم أحكام بالسجن. ثم تكرر ذلك في العام 1975 وبلغ عدد الطلبة الذين قدموا للمحاكمة 151 طالبا، و ظلت إضرابات الطلبة تتجدد في 76 و77 وصولا الى 26 جانفي 78. وبدأت تبرز خلال هذه السنوات على الساحة التونسية أنشطة وتحركات الحركة الإسلامية رافعة شعارات الدفاع عن الهوية الإسلامية .
-ب- شعار استقلالية الإتحاد وطرد النقابيين :
بعد أن وضع بورقيبة حدا لسياسة التعاضد شهدت الأوضاع الاقتصادية تغييرا ملحوظا حيث ركزت حكومة نويرة على ميدان التشغيل محدثة المئات من المؤسسات الصغرى والمتوسطة ذات التشغيلية المرتفعة كالنسيج كما ركزت على الميدان ألفلاحي بإعادة توزيع أراضي التعاضد والاستفادة من البنية والتجهيزات التي جاء بها التعاضد وبفضل موسم الأمطار الجيد وارتفاع أسعار المواد الأولية كالفسفاط والنفط نتيجة الحظر النفطي العربي سنة 1973 ،وتنفيذا لتلك السياسة أصدرت حكومة نويرة جملة من القوانين الليبرالية من أبرزها قانون أفريل 72 و قانون أوت 74 التي تفسح مجال حرية الاستثمار ليس أمام الرأسمال المحلي وحسب بل أمام الرأسمال الأجنبي أيضا وهي القوانين التي حاربها النقابيون بسبب ما كانت تمثله من مؤشرات دالة على بداية تخلي الدولة عن المسئوليات الاقتصادية والاجتماعية، و لقد أفضت النضالات العمالية بداية السبعينات إلى انجاز الكثير من العقود المشتركة والقوانين الأساسية كما تحقق تمثيل العمال في مختلف اللجان والهيئات والمجالس و تم الاهتمام بالشؤون الصحية والحيطة الاجتماعية و تحسين ظروف العمل وشملت النضالات كذلك مواضيع الحريات السياسية والنقابية. لكن فترة الانتعاش هذه لم تدم طويلا فقد صاحبها تشدد سياسي تزامن مع الصراع على خلافة بورقيبة وبدل التزام الحياد انخرطت قيادة الإتحاد مرة أخرى في ذلك الصراع الى جانب طرف دون آخر كما حدث في مؤتمر 1955 . ونتيجة لذلك اتخذ قرار عزل الإتحاد عن صراعات الخلافة و محاولة وضع حد للتدهور الاجتماعي الذي بدأ يتجه نحو التصعيد حيث بلغ التوتر أشده في خريف 1976 بسبب تصاعد وتيرة الحركة المطلبية لعديد القطاعات و تفاقم الحركة الاحتجاجية و توسع الإضرابات والإعتصامات والتجمعات الحاشدة : إضرابات التعليم العالي 1972 والتعليم الثانوي 75 والتعليم التقني 76 وإضرابات أخرى في قطاعات واسعة الانتشار كالنسيج والمعادن والبنوك والبريد والصحّة ، لقد اتخذت الإضرابات مع مرور السنين شكلا تصاعديا فكانت في حدود 150 إضرابا في 1972، و377 في 1975،و 372 سنة 1976،و452 سنة 1977 . ولعزل الإتحاد ومواجهة الوضع المتوتر أبرمت الحكومة وقيادة الاتحاد اتفاقيات العقد الإطاري المشترك وميثاق السلم الاجتماعية في جانفي 1977 والذي نص على الحفاظ على السلم الاجتماعية وعلى مراجعة الأجور كلما ارتفعت الأسعار بنسبة تفوق ال5 بالمائة ورغم ذلك وربما بسببه ستزداد الأوضاع توترا داخل الإتحاد وفي القطر. لقد اعتبرت قيادة الإتحاد الإضرابات غير شرعية كونها لم تحصل على موافقة المكتب التنفيذي للاتحاد في أكثر من 90 في المائة منها ففي جوان 1977 بلغ عدد الإضرابات 450 لم توافق القيادة إلا على 10 إضرابات منها واعتبرت البقية غير شرعية أو اضرابات سياسية بالنسبة لبعضها وقامت بحل عدة هياكل منتخبة وأغلقت مقراتها واطردت النقابيين المنتخبين كما حصل لنقابة الثانوي 1975 ثم نقابة التقني 1976 ونصبت نقابات غير منتخبة و هو ما ستبرز بمناسبته قضية الديمقراطية واستقلالية الإتحاد عن الحزب والحكومة. -ج- خطة اقتصادية اجتماعية ليبرالية :
ما من شك أن المضامين النقابية وتحديد جدول النضالات وترتيبها مسائل تحكمها مواقف وطبيعة قيادات الهياكل النقابية وكمثال على ذلك نذكر كيف كان رواد الحركة النقابية سواء خلال مرحلة محمد علي الحامي وجامعة عموم العملة أو مرحلة حشاد والإتحاد العام التونسي للشغل مشبعين بالثقافة العربية والإسلامية بسبب الأحداث الكبرى التي هزت كيان الأمة وبفضل التأثير الكبير لكل من الثعالبي والحداد والفاضل بن عاشور الذي جعل من نادي الخلدونية الذي كان يديره منبرا لالقاء المحاضرات حول فلسطين وهوية تونس العربية والإسلامية وهو ما جعل الحامي وحشاد ورفاقهما يلتزمون إلى جانب نضالهم الاجتماعي بالدفاع عن الهوية القومية للأمة وبتحرير فلسطين وبالوحدة العربية باعتبارها تمثل المدخل الحاسم والحقيقي على طريق التوصل لحلول للقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية على المستوى القطري والقومي. -ج- خطة اقتصادية اجتماعية ليبرالية :
ما من شك أن المضامين النقابية وتحديد جدول النضالات وترتيبها مسائل تحكمها مواقف وطبيعة قيادات الهياكل النقابية وكمثال على ذلك نذكر كيف كان رواد الحركة النقابية سواء خلال مرحلة محمد علي الحامي وجامعة عموم العملة أو مرحلة حشاد والإتحاد العام التونسي للشغل مشبعين بالثقافة العربية والإسلامية بسبب الأحداث الكبرى التي هزت كيان الأمة وبفضل التأثير الكبير لكل من الثعا لبي والحداد والفاضل بن عاشور الذي جعل من نادي الخلدونية الذي كان يديره منبرا لالقاء المحاضرات حول فلسطين وهوية تونس العربية والإسلامية وهو ما جعل الحامي وحشاد ورفاقهما يلتزمون إلى جانب نضالهم الاجتماعي بالدفاع عن الهوية القومية للأمة وبتحرير فلسطين وبالوحدة العربية باعتبارها تمثل المدخل الحاسم والحقيقي على طريق التوصل لحلول للقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية على المستوى القطري والقومي. لقد كانت - خلال السبعينات- سيطرة قوى اليسار واضحة على أهم نقابات الإتحاد والتي كانت محرك النضالات المتصاعدة وقائدها باعتبارها كانت في صراع تارة وفي اتفاق تارة أخرى مع دولة بورقيبية "الحديثة" .
لقد كان يشق هذا اليسار خطان الأول كان خطا قوميا عربيا جعل إلى جانب الدفاع عن الحقوق الاجتماعية للشغالين والشعب ومن الوحدة العربية وتحرير فلسطين ديدنه أما الثاني فكان خطا "أمميا" رفع شعار الديمقراطية والصراع الطبقي بدل الكفاح القومي وناهض العروبة واعترف بالكيان الصهيوني و نادى بدعم ثورة الفياتنام ليناهض ثورة فلسطين . لقد التقت في الإتحاد وسيطرت على فعالياته شعارات الصراع الطبقي والصراع من أجل خلافة بورقيبة في الوقت الذي حقق فيه جيش عبد الناصر في حرب أكتوبر 1973 ضد الصهاينة نصرا مؤزرا دمر خلاله "خط بارليف" وحطم أسطورة "الجيش الصهيوني الذي لا يهزم" وكان بامكانه تحرير سيناء لولا أن خذله السادات الذي أعلن سنة 1977 استعداده للاعتراف بكيان العدو واستعداده للتطبيع معه وهو ما سيفعله سنة1978 في مثل تلك الظروف اذا كادت تغيب بتعمد واضح القضايا القومية وقضية فلسطين ومقاومة الصهيونية عن نضالات الإتحاد خلال السبعينات لولا تمسك النقابيين الوطنيين والعروبيين بتلك القضايا الجوهرية والدفاع عنها وجعلها قائمة في نشاط الإتحاد وضمن مواقفه ، لقد وصل بنا الأمر ذات اجتماع للمجلس الوطني للاتحاد حد الوقوع في نزاع شديد حول فقرة وردت في مشروع بيانه الختامي نصت على انتماء تونس العربي ورغم التصويت الذي حسم الأمر بإقرار الفقرة المذكورة إلا أن القيادة رفضت تضمينها في البيان و ذكر يومها الطيب البكوش أن المجلس "ملغم يا سي الحبيب" وكان الأمر ذاته وقع خلال مؤتمر نقابة التعليم الثانوي المنعقد أواخر 1976 بعد أن أخضع بعضهم الثوابت للتصويت الذي تم لصالح عروبة تونس بفارق صوت واحد بعد صراع مرير بين نواب المؤتمر ! لقد وصل الأمر ببعض اليساريين - وليس كلهم- من أصحاب الكراس الأصفر أن يتجرؤوا على الأمة ويناهضوا حقوقها ويتنكروا للشهداء بتركيزهم مثلا على الفياتنام متجاهلين فلسطين وقضايا العروبة والهوية واللغة العربية وانتهى بهم الأمر إلى معاداتها كما جاء في كراسهم الأصفر بعيد عدوان 1967، واعتبروا فيه أن "تونس أمة قائمة بذاتها تتميز بلغتها ( أي اللهجة الدارجة)، وبشخصيتها، وان القومية العربية ليست سوى ترهات قائمة على الأخوة في الدين والعرق والدم وأن الفلسطينيين ليسوا سوى رعايا في "دولة إسرائيل" ويشكلون أقلية فيها" ؟ ! و في ذات الإطار يجدر القول أنه إذا كانت لحكومة السيد الهادي نويرة الموعود بخلافة بورقيبة مبررات رفض الوحدة التونسية - الليبية سنة 1974 - بقطع النظر عن صحة ما أدى إلى عقدها- فهل كان الأخ الحبيب عاشور وقيادة الإتحاد على حق في رفضها ومنع الاستفتاء الشعبي حولها ولماذا الامتناع عن استشارة الشعب والنقابيين فيما اذا كان لهم مصلحة في تلك الوحدة ؟
-د-الأحداث : شهدت الشهور الأخيرة من سنة 1977 إضرابات مكثفة عاملتها السلطة بعنف شديد كما حدث في منزل بورقيبة وفي قصر هلال وفي غيرهما وقد انجرت عنها اعتقالات كثيرة في صفوف النقابيين والعمال وعمليات طرد بالجملة والتفصيل وانتصبت المحاكم تصدر الأحكام ضد النقابيين الموقوفين. لقد استفحل الوضع ووصل الأمر إلى حد إنزال الجيش في قصر هلال .
لقد كانت الأزمة سياسية علاوة عن كونها اقتصادية واجتماعية وكانت لها أبعاد محلية وعربية ودولية إذ كان من الواضح أن كلا الجناحين المتصارعين في السلطة قررا توظيف الأزمة للتخلص من الإتحاد وتهميش دور قيادته في صراع الخلافة من جهة وغلق الباب أمام أي التحام للاتحاد والشعب بما كان يعد من مواقف عربية رافضة لسياسة السادات المنقلبة على قضية فلسطين وحقوق الأمة (جبهة الرفض والصمود العربية)
في تلك الظروف المشحونة حسم الأخ الحبيب عاشور ورفاقه أمرهم ودعوا إلى اجتماع المجلس الوطني للاتحاد في جانفي 1978 ليناقش الوضع الخطير القائم في القطر ويقرر الدفاع عن الإتحاد العام التونسي للشغل ضد ما كان يتهدد قياداته من تصفية ومواجهة ما كان يصدر عن الحكومة و عدد من المنظمات كاتحاد الصناعة والتجارة من تهديدات متنوعة كالوعيد ب"نصب المشانق" للنقابيين في ساحة باب سويقة (الفرجاني بالحاج عمار)؟ وما كان يصدر من مقالات و بيانات أخرى تتهجم على الإتحاد وتشكك في نضالات الشغالين وتصفها بالتآمر السياسي وهلم جرا وذلك على غرار ما جاء في البيان الصادر عن اللجنة المركزية للحزب الحاكم في تلك الأيام وقد برزت جريدة الشعب بما كانت تنشره من بيانات ومقالات و "حرابش" محمد قلبي تدافع عن الإتحاد وترد على تهجمات الحكومة والحزب وقد ارتفعت أرقام توزيعها حتى فاقت ال70 ألف عددا. في تلك الأجواء المشحونة و المتوترة وبعد أن تناول النقابيون الكلمة والتي من أبرزها كلمة المرحوم عبد الرزاق غربال وطالبوا بالإضراب العام دفاعا عن الإتحاد ومطالب الشغالين ونددوا بالقمع المسلط على العمال والنقابيين كما طالبوا باستقالة النقابيين من هياكل الحزب الحاكم تلى الأمين العام الأخ الحبيب عاشور أمام أعضاء المجلس الوطني للاتحاد بتأثر شديد نص استقالته من الديوان السياسي لنفس الحزب الذي كان عقد سنة 1955 مؤتمره لصالح بورقيبة ولصالح إمضاء اتفاقية الاستقلال الداخلي ومثله فعل الإخوان عبد العزيز بوراوي وخير الدين الصالحي اللذان قدما استقالتيهما من اللجنة المركزية لذات الحزب وفي نفس الوقت قدم وزراء في حكومة نويرة مثل الطاهر بالخوجة وزير الداخلية ومحمد الناصر وزير الشؤون الاجتماعية استقالاتهم وهذا يحدث للمرة الأولى بتلك الطريقة في عهد بورقيبة .
قرر المجلس الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل في لائحته الدعوة لإضراب عام إنذاري بيوم واحد دفاعا عن استقلالية الإتحاد خاصة بعدما تجدد صدور تهديدات تجاه شخص الأمين العام الأخ الحبيب عاشور وما نشر من أخبار في عدد من الصحف مثل الصحيفة التونسية الناطقة بالفرنسية (contact) التي أفادت بأن السلطة تنوي تعويض الأخ الحبيب عاشور بالمرحوم فرحات الدشراوي على رأس الإتحاد .
ثم قررت الهيئة الإدارية في اجتماع حضره "اوتو كرستن" الأمين العام لمنظمة "السيزل" وتخللته رشقات من قوارير "لاكريموجين" أطلقت داخل قاعة أحمد التليلي تنفيذ الإضراب العام كامل يوم 26 جانفي 1978 احتجاجا على المؤامرة التي تحاك ضدّ الإتحاد وتضمّن عدد صحيفة الشعب الصّادر يوم 25 جانفي 1978 والذي صدر في أربع صفحات وبصفة استثنائية الإعلان عن الإضراب العام المقرر تنفيذه بكامل تراب القطر كامل يوم الخميس 26 جانفي 1978 وكان أول المعتقلين المرحوم عبد الرزاق غربال الكاتب العام للاتحاد الجهوي بصفاقس أياما قبل الإضراب العام .
لقد كان خميسا أسودا وصراعا داميا شهد أحداثا مأساوية وسقط خلاله مئات التونسيين بين قتيل وجريح .
وقد حوصرت دار الإتحاد وتمركزت في قلب ساحة محمد علي الحامي دبابة حملت ويا للمفارقة اسم "فرحات حشاد" ! و تم خلال الليل اعتقال أعضاء الهيئة الإدارية وزجّ بالجميع في السّجون بمعية أعداد كبيرة من نقابيي الجهات ، وأوقفت "الشعب" عن الصدور و نصبت السلطة على عجل قيادة محل القيادة الشرعية ترأسها التيجاني عبيد بعد اجتماع عقد يوم 25 فيفري 1978 .
-ه - الصمود و المحاكمات :
قضى من تبقى من أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية أكثر من شهرين في الاعتقال ثم نقل الجميع إلى السجن المدني أين وجدنا جيرانا لنا من حزب الشعب الثوري وجماعة الوحدة الشعبية وفي أثناء ذلك تمت محاكمة نقابيي سوسة وقد سجلت وفاة النقابي من قطاع البنوك المرحوم حسين الكوكي عندما كان معتقلا.
وفي أواخر سنة 1978 تمت إحالتنا على محكمة أمن الدولة وكان عددنا ثلاثون عضوا من الهيئة الإدارية وفي مرافعته طلب المرحوم عبد العزيز الحمزاوي ممثل النيابة العمومية تسليط عقوبة الإعدام علينا جميعا و أمام المحكمة منعنا رئيسها القاضي بولبابة الفاطمي من الكلام مشترطا الإجابة بنعم أو لا وهو ما رفضناه فقررت المحكمة تسخير عدد من المحامين وهو ما رفضناه أيضا وقد تطوع للدفاع عنا والتضامن معنا حشد كبير من المحامين الوطنيين .
وفي ليلة مهيبة وبعد منتصف الليل أخذنا الأمن في سيارات مصفحة إلى مقر محكمة أمن الدولة في بوشوشة بباردو و أعلنت المحكمة أحكامها التي اعتبرناها غير شرعية. وخلال سنة 1978 انقسم النقابيون بين مدافع عن الشرعية ومتمسك بالإتحاد الشرعي (النقابيون الشرعيون) وبين مدافع عن العمل في مقرات الإتحاد تحت قياداته المنصبة بدعوى أن القيادات كلها رجعية ودستورية (تكتيك الإفتكاك والاسترجاع ) وبعد أن أغلق ملف المحاكمات بنهاية سنة(1978) قمنا بصفتنا أعضاء الهيئة الإدارية الشرعية للاتحاد بأول اجتماعاتنا بمنزل المرحوم عبد العزيز بوراوي وتحت إشرافه حيث أمنا كراس محاضر الجلسات لديه واستمرت اجتماعاتنا هناك ، وفي البداية لم يتجاوز عددنا سبعة(7) أعضاء وتنقلنا إلى الجهات لإحياء النقابات الشرعية وتحريض النقابيين الشرعيين على الصمود وخوض ما أمكن من نضالات واضطررنا في الحالات التي تخلى فيها بعضهم عن مسؤولياتهم إلى ترشيح من كانوا على استعداد من بين أعضاء الهياكل الجهوية والأساسية الشرعية للعمل صلب الهياكل الشرعية والمشاركة في اجتماعات الهيئة الإدارية الشرعية واحياء الإتحاد و تم تنفيذ إضرابات كانت شديدة التأثير وسقطت على اثر ذلك الصمود الكبير قيادة التيجاني عبيد المنصبة وانهارت تنظيرات الإفتكاك والتعامل مع المنصبين و فشلت عملية تصفية الإتحاد . وكانت بعض النقابات وحتى الحكومات الأجنبية تبعث بمختلف الوسائل بدعمها للقيادة الشرعية للاتحاد.
في تلك الظروف الاستثنائية من تاريخ الإتحاد والبلاد ومباشرة بعد أحداث يوم 26 جانفي 78 انبرى جمع من النقابيين والسياسيين الوطنيين للدفاع عن الإتحاد والتمسك بهياكله الشرعية ورفض الهياكل المنصبة و قاموا بتحريض الجمهور النقابي على الصمود وأصدروا جريدة الشعب السرية التي أدت دورا إعلاميا وتحريضيا ودعائيا بارزا كان من نتائجه اتساع حملة التضامن مع النقابيين الشرعيين ومع المسجونين والمطرودين منهم ورفض الأمر الواقع ومقاطعة الهياكل المنصبة. وفي جانفي 1980 سجن مناضلو "الشعب السرية" وسجل استشهاد حمادي زلوز أثناء الاعتقال وذلك في وقت التزمت فيه بعض الجهات السياسية والإجتماعية والحقوقية الصمت و اكتفى بعضها بالمراقبة وقد يكون ذلك ناجما عن التحاقها المتأخر بالعمل النقابي.
-ز- مزالي والعودة للمربع الأول: باشر السيد محمد مزالي في بداية توليه المسؤولية بفتح صفحة جديدة مع الإسلاميين وشهد القطر أحداث قفصة التي انجر عنها إقالة حكومة نويرة ومجيء حكومة مزالي في جانفي 1980 وعندما تم تسريح بقية النقابيين من السجن ، باستثناء الأمين العام الأخ الحبيب عاشور، تعززت الهيئة الإدارية الشرعية بالتحاق بعض أعضاء المكتب التنفيذي والهيئة الإدارية المسرحين إلا من اختار الانسحاب ،وبدأ مارطون الاتصالات والمفاوضات الخلفية وعمليات التدخل و محولة التأثير وعقدنا أكثر اجتماعات الهيئة الإدارية الشرعية إثارة وأصدرت لائحة بتاريخ13سبتمبر 1980 عرفت بلائحة رفع الاستثناء (عن الأخ الحبيب عاشور) وأعلنت موافقتها على المشاركة في مؤتمر استثنائي تشرف عليه لجنة نقابية وطنية متناصفة (شرعيون ومنصبون) انطلقت على اثر ذلك المؤتمرات الاستثنائية وصولا إلى مؤتمر قفصة الذي أداره نور الدين نجل الشهيد فرحات حشاد ووقع بمناسبته صراع حول المشاركة أو عدمها بسبب استثناء الأخ حبيب عاشور من الترشح .
و إذ نجح النقابيون في إعادة بناء الإتحاد لكن الأزمة النقابية تجددت على خلفية أزمة سياسية واقتصادية حادة مضمونها تدهور الحالة الاجتماعية وتصدرها كالعادة الصراع على خلافة بورقيبة وفي ظل حكومة محمد مزالي تمت مداهمة الإتحاد رغم دخوله في جبهة وطنية معه ووجد السيد مزالي في تلك المناسبة الفرصة لزرع التعددية النقابية بعد أن أطرد الأخ حبيب عاشور ?السبعة- أعضاء من المكتب التنفيذي للاتحاد وأبقي على ثامنهم السيد الطيب البكوش الذي انفصل عنهم في آخر لحظة فيشكل هؤلاء ما عرف ب(untt)كما يقوم الأخ حبيب عاشور بتجريد مكتب نقابة التعليم الثانوي بعد أشهر من انتخابه ويطرد عددا كبيرا من مناضلي القطاع (1984) والإتحاد خلال أحداث 01 ماي ويقتصر دور الإتحاد على مراقبة أحداث الخبز ثم يشهد الإتحاد - مرة أخرى- تفجيرا من داخله وهذه المرة عبر "النقابيين الشرفاء"وتحدث على اثر ذلك أزمة 1985 ...
5- العمل النقابي على درب محمد علي و حشاد :
إن أمتنا وهي تعاني الاحتلال والهيمنة الإمبريالية وجرائم الصهيونية ما أحوجها للمقاومة والتحرير باتخاذ النموذج اللبناني الذي قاد لبنان إلى إلحاق الهزيمة بالعدو الصهيوني والانتصار عليه مرتين (2000-2006) متحملا أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية الصعبة واعتصم من أجل تحقيق الانتصار بالوحدة الوطنية التي تحققت بين الشعب والمقاومة والقيادة وكذلك باتخاذ النموذج الفلسطيني في غزة التي ردت العدوان الصهيوني وانتصرت عليه بالصمود والمقاومة وبالوحدة الوطنية وتحمل الغزاويون -وما زالوا- ضنك العيش في أبعاده المختلفة.وتلك هي حال الأمة في جميع أقطارها مع الفوارق الكمية الموجودة طبعا لكنها تتعرض كلها لنفس الاستهداف الإمبريالي الصهيوني الذي يتراوح بين ما هو عدوان واحتلال عسكري وبين ما يمارس من اعتداءات بالوسائل الأخرى الأمنية والاقتصادية والإعلامية والثقافية وغيرها.
بقي أن نقول كلمة في موضوع الاستقلالية الذي هو حق أراه يعني الاستقلالية التنظيمية لأي منظمة أو تنظيم أو نقابة ليس من المصلحة في شيء أن تحرم من التحالف وحتى الإتحاد مع أي من الأطراف شريطة أن يتم ذلك حول مشروع وطني وقومي إسلامي وهو ما سار عليه حشاد و من قبله محمد علي الحامي و هو يمثل اليوم حاجة ملحة قطريا وعربيا لمواصلة خوض حرب التحرير وتحقيق التضامن العربي وصون الاستقلال الوطني والقومي وتحقيق الرقي والتقدم الاجتماعي وضمان الحقوق والحريات والتزام الدفاع عن مصالح العمال وعدم التفريط فيها بل خوض النضال من أجلها والعمل في إطار عقد اجتماعي ينبذ الصدام والإحتراب وينشد الوئام بين أبناء الشعب والأمة يتكرس في وحدة وطنية صلبة وجبهة قومية عربية لمقاومة الاستعمار والصهيونية لتحرير الأرض والإنسان العربيين وتحقيق وحدة الأمة وعلى هذا النهج نتواصل في صلب عمل نقابي وطني وقومي مناضل على درب محمد علي وحشاد وهذا ما أراه أهم دروس أزمة 26 جانفي 1978 .
في الختام أرجو أن أكون قد وفقت في هذه القراءة الموجزة لأحداث 26 جانفي 1978 التي وقع بمناسبتها صدام دموي بين الشعب والسلطة في علاقة بقضايا كان يجب علاجها بالحوار الوطني وليس بالمواجهة الدموية وهي الأحداث التي يجب العمل على منع أسباب وقوعها والعمل على عدم تكرارها بذلك الأسلوب الدموي العنيف على الصعيدين القطري والقومي لإن الأمة وهي تخوض حرب الوجود والمصير في حاجة لممارسة التضامن والوحدة الوطنية وترك الصراعات التي تضعفها وتنحرف بها عن مهامها في الدفاع عن هويتها وعن حقوق أبنائها وخوض حرب التحرير الوطنية والقومية
بقلم :أحمد الكحلاوي .
الكاتب العام السابق للنقابة الوطنية للتعليم الثانوي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.